سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رضوان الطويل: الخطاب الانتخابي يشدد على هدفي النمو والتشغيل لكنه لا يشير إلى الاستراتيجية التي يتوجب تطبيقها الاقتصادي المغربي قال إن إلغاء الدعم سيفضي إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية ب 20 ٪
أعلنت الأحزاب الانتخابية بمناسبة الانتخابات التشريعية عن برامج اقتصادية طموحة في العديد من جوانبها في ظل ظرفية اقتصادية يجمع العديدون على أنها غير ملائمة، في هذا الحوار، مع رضوان الطويل، أستاذ الاقتصاد بجامعة مانديس فرانس بغرونوبل بفرنسا، نتساءل حول مدى إمكانية تحقيق وعود تلك البرامج وأدوات السياسة الاقتصادية التي تتوفر عليها أي حكومة في المغرب من أجل بلوغ أهدافها، وأسباب عدم إخضاع السياسة الاقتصادية لنقاش عمومي يستوعب مختلف وجهات النظر. - تحتل الوعود التي تهم النمو الاقتصادي مكانة مركزية في الشق الاقتصادي من الخطاب الانتخابي، الذي ينصب على السياسات الاقتصادية التي ترنو الأحزاب إلى تطبيقها إذا ما آل إليها أمر تدبير الشأن العام بعد الانتخابات التشريعية القادمة. ونحن نرى أن الأحزاب في سعيها إلى كسب أصوات الناخبين دخلت في نوع من المزايدة حول وتيرة النمو ومناصب الشغل التي تلتزم بإحداثها. ما مدى واقعية تلك الوعود؟ صحيح أن النمو هو الركن الأساس في تصريحات المنظمات السياسية التي تلتقي في تطلعها إلى بلوغ معدل نمو اقتصادي لا يقل عن 6 في المائة ويصل في بعض الأحيان إلى 7 في المائة من الناتج الداخلي الخام. في نفس الوقت تعد الأحزاب السياسية بخلق مناصب شغل تتراوح بين 200 ألف و250 ألفا وقد تصل في بعض الأحيان إلى 350 ألف منصب شغل في السنة. لا تكل الأحزاب السياسية من الصدح بتلك الأرقام إلى درجة لا يمكن ألا نفكر في عبارة «بدون صداق» التي لم يكف عن ترديدها «البخيل» في مسرحية موليير التي تحمل نفس الاسم. إن الإمعان في التبشير بمعدل نمو مرتفع ورديفه الشغل، هي حيلة بلاغية يراد منها خلق نوع من الإجماع حول الهدف الأسمى للسياسة الاقتصادية التي يفترض اتباعها. وتوظيف الأرقام يأتي لتعضيد هاته الحيلة عبر خلع مسحة تقنية على الخطاب بما يتيح الوصول إلى إقناع من يوجه إليهم الخطاب الانتخابي. وتستند استراتيجية التواصل هنا على مبدأ «كي تحكم يجب أن تدفع الناس إلى الإيمان». - ما الذي تؤاخذونه على هاته الاستراتيجية؟ عند تمحيص هاته الاستراتيجية، يتجلى أنها لا تثير نوعا من القبول. فهي تستدعي الكثير من الانتقادات. أولا تفاجىء الاستراتيجية الناخب على اعتبار أنه لن يتعاطى مع خطاب الأحزاب دون طرح السؤال التالي: كيف لم يكتشف رجال سياسة، كانوا يدبرون الشأن العام أو هم يدبرونه حاليا، فضائل أهداف نمو طموح إلا عشية الانتخابات التشريعية؟ هذا التساؤل يطفو على السطح بشدة في ظل صمت الخطاب الانتخابي عن العوائق التي حالت دون تحقيق معدلات النمو المرتفعة في الماضي. ثانيا، القول بضرورة بلوغ معدل نمو يتراوح بين 6و7 في المائة يعني أن المبشرين به يقرون بأن النمو الاقتصادي يظل غير كاف وقاصرا عن خلق مناصب شغل، وبالنتيجة يشكل ذلك اعترافا بأن السياسات الاقتصادية لم تفض إلى دينامية حميدة للنمو. ضمن هذا السياق، يرين نوع الشك، حول الخطاب الانتخابي، لا سيما أنه يفترض المضي في توجيه السياسة النقدية بالامتثال لقواعد ثابتة للتضخم لا يحيد عنها قيد أنملة والتحكم في العجز العمومي. وأخيرا، يبدو أن ثمة هوة بين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المستعملة بشكل عام والعوامل التي تساهم في بناء تمثلات الأفراد. فتلك المؤشرات تمثل إحصاءات يتم بناؤها، بينما ترتهن العوامل التي تشكل تمثلات الناس بالإحساس الواقعي للشخص. فتمثلات الناس للظواهر الاقتصادية يمكن أن تكون مختلفة عن تمثلات أصحاب القرار العمومي. والمثال الأكثر دلالة في هذا الباب يهم التضخم. فالسلطات التي تسهر على السياسة الاقتصادية تعتبر أن التضخم منخفض، حيث ظل في المتوسط في العشر سنوات الأخيرة في حدود 2 في المائة. غير أن شرائح واسعة من الساكنة لا تشاطر هذا الرأي، على اعتبار أنها ترى أن الحياة أصبحت أكثر غلاء. التبشير بنمو اقتصادي مرتفع لا يظل بمنأى عن الشك، لأنه يفترض أن الناخب ذاكرته قصيرة. - ماهي أدوات السياسة الاقتصادية الكفيلة بإعطاء دفعة قوية للنمو الاقتصادي؟ يشدد الخطاب الانتخابي على هدفي النمو والتشغيل، لكنه لا يشير إلى مسألة الموارد التي يفترض تعبئتها والاستراتيجية الشاملة التي يتوجب تطبيقها. ففيما يتعلق بالسياسة الظرفية، لا يمكن للحكومة القادمة استعمال السياسة النقدية من أجل تحقيق أهدافها، لأن بنك المغرب مستقل عن السلطات السياسية منذ 2006، إسوة بالعديد من البنوك المركزية اليوم. فبنك المغرب يتولى تحديد وتطبيق السياسة النقدية ويحدد، بالنتيجة، عبر معدل الفائدة والاحتياطيات الإجبارية، شروط إعادة تمويل النظام البنكي. وحسب قوانينه، يسهر البنك المركزي على ضمان استقرار الأسعار. صحيح أن الفصل 46 من الدستور أدخل تعديلات في مجال تعيين إدارة بنك المغرب، وذلك في سياق توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية، غير أن هذا الفصل لن يفضي إلى إعادة النظر في مبدأ استقلالية البنك المركزي، لأن تدبير العملة الوطنية يجب أن يظل منفصلا عن الدورات الانتخابية والسياسية. ويمكن لتدخل الحكومة في قيادة السياسة النقدية أن يخلق نزاعات ويثير شكوكا حول تناغم مجمل السياسة الاقتصادية. من البديهي أن التعاون بين الحكومة وبنك المغرب ضرورة على شكل مشاورات ترمي إلى تنسيق القرارات النقدية والموازنية. لكن لا يمكن للحكومة عبر سياسة الميزانية الالتفاف على الهدف الأسمى للسياسة النقدية للبنك المركزي المتمثل في استقرار الأسعار. وفي جميع الحالات، من المستبعد أن تتمكن أي حكومة، أيا كانت قوتها، من إعادة النظر في المقتضيات الأساسية للقوانين المنظمة لعمل بنك المغرب. - وماذا عن سياسة صرف الدرهم التي يدعو صندوق النقد الدولي وبعض القطاعات التصديرية في المغرب إلى إضفاء مرونة أكثر عليها؟ بعض التصريحات السياسية أثارت إمكانية تخفيض قيمة الدرهم من أجل دعم التنافسية الخارجية وزيادة الصادرات ودعم النمو الاقتصادي. هكذا إجراء يمكن أن يفضي إلى أزمات تأثيراتها على العرض والطلب سوف تكون كبيرة. فارتفاع قيمة الواردات سيترجم بزيادة الأسعار التي يمكن أن تطال مجمل الأنشطة. وتبدو تبعية المغرب للسوق الخارجي في تلبية حاجياته من البترول عاملا حاسما للتضخم المستورد. ويمكن لخفض قيمة الدرهم أن يؤدي لرفع تكاليف السلع الوسيطة الذي يفضي إلى خفض الإنتاج. وينعكس ارتفاع التكاليف على السلع الموجهة للاستهلاك. وفي الحالة التي يطالب الأجراء بتدارك تآكل مداخيلهم الحقيقية بفعل تخفيض قيمة العملة الوطنية، فإن تكاليف الأجور ترتفع، مما يؤثر سلبا على مستوى النشاط. وينجم عن ارتفاع قيمة الواردات التي لا يمكن تقليص الطلب عليها، تدهور رصيد الميزان التجاري، فلا يمكن الضغط على الواردات التي لا تنتج محليا من قبيل البترول وبعض مواد التجهيز. وفي حالة السلع المستوردة المرنة للأسعار، يفضي خفضها، في ظل عدم وجود منتوجات محلية تعوضها، إلى تراجع الطلب الداخلي. فالحد من تدهور وضعية الميزان التجاري عبر دعم تنافسية الصادرات ينجم عنه تضحية على مستوى النشاط. وإثر التضخم المستورد، يمارس تقليص العرض الحقيقي تأثيرا انكماشيا على الطلب الداخلي. ويمارس تخفيض قيمة الدرهم تأثيرا سلبيا على الدين، حيث يرفع من قيمة الاقتراضات الخاصة المسعرة بالعملات الخارجية وخدمة الدين ويقلص، بالتالي، هامش مناورة السلطات الموازنية مدعما بذلك تقليص الطلب الشامل. وفي نفس الوقت يقلص قيمة الأصول المسعرة بالعملة الوطنية مما يؤثر على الاستثمار الأجنبي. - يتجلى أن الأداة الأساسية التي تتوفر عليها السلطات الحكومية المقبلة من أجل تنفيذ سياستها تتمثل في الميزانية. كيف تقيمون تعاطي الخطاب الانتخابي معها؟ يشدد الخطاب الانتخابي على ضرورة تقليص العجز العمومي إلى أقل من 3 في المائة وفي بعض الأحيان إلى أقل من 2 في المائة. الحال أن الامتثال لقاعدة سلوك صارمة لا تستند على مبرر اقتصادي مسألة قابلة للنقاش إذا أخذنا بعين الاعتبار معدل النمو الذي تعد به البرامج الانتخابية. فالركون إلى تلك القاعدة لا يحول فقط دون القيام ببعض التعديلات الضرورية في حال انكمش النشاط عبر إعطاء دفعة للاقتصاد من خلال النفقات العمومية « الاستثمار العمومي، الدعم».. بل إنها تفاقم تقلبات النمو وهشاشته. وتبرز التطورات الأخيرة للاقتصاد المغربي صعوبة إيجاد نوع من التوليفة بين تضخم منخفض وعجز عمومي ضعيف ونمو اقتصادي قوي ودائم. وثمة نوع من التناقض بين السعي إلى الهدف المفروض على السياسة الاقتصادية من قبل القواعد الثابتة لمراقبة العجز العمومي والتطلع لتحقيق معدل نمو اقتصادي في حدود 6 في المائة أو 7 في المائة. فمثل هذا الهدف يستدعي استثمارا عموميا يتوجه لبناء المستقبل من التربية والبحث والصحة. وكما يتجلى من مختلف الإجراءات إلى حدود الآن، تبدو الإجراءات الموازنية دون هدف النمو الطموح الذي تبشر به البرامج الانتخابية. - ثمة نوع من الإجماع في الخطاب الانتخابي حول مواصلة إصلاح الأسواق من أجل وضع مؤسسات تدعم المنافسة وتحفز النمو الاقتصادي. يفترض في الإصلاحات الهيكلية تحرير أسواق المنتوجات والشغل والقروض من العوائق القانونية ودعم المنافسة. فالمرونة يفترض فيها رفع مستوى فعالية استعمال الموارد ورفع معدل النمو المحتمل. فهاته الإصلاحات تنطلق من رؤية معيارية تقوم على أن المنافسة الخالصة هي النمط المثالي لعمل الأسواق، والقواعد الشكلية التي تسوس المؤسسات هي رافعة أساسية للنمو. ومن خلال تبني هاته الرؤية، يغفل الخطاب الانتخابي حدود الإصلاحات الهيكلية. فإصلاح النظام البنكي والمالي الذي شرع فيه منذ تسعينيات القرن الماضي والذي تواصل في السنوات اللاحقة لم يفض إلى إرساء بنيات تنافسية في خدمة تمويل الاقتصاد. فقد نجم عنها تركيز ترجم بمنافسة محدودة واتفاقات على مستوى سياسات القروض والمعدلات، إذ أن سوق القرض تميز بعرض على حساب المقاولات الصغرى والمتوسطة التي توفر حصة مهمة من مناصب الشغل في الاقتصاد الوطني. يقدم إصلاح سوق الشغل كمصدر لخلق مناصب الشغل وعاملا لدعم التنافسية. فالمرونة التي يطالب المدافعون عنها بتقنينها عبر تليين عقد العمل تعتبر واقعا تعاني منه شريحة كبيرة من الأجراء. وعندما ننظر إلى قدرات خلق مناصب الشغل من قبل الاقتصاد الوطني تظل ضعيفة. وعلى هذا المستوى، فمعدل التشغيل الذي يشير إلى نسبة مناصب الشغل التي تم إحداثها حقيقة، يعتبر مؤشرا دالا على أداء سوق الشغل. فمعدل التشغيل في الوسط الحضري جد ضعيف بشكل جلي: حيث يصل إلى 37 في المائة في 2007 مقابل 40 في المائة في 1990. ورغم الانتعاش الذي عرفه منذ سنوات قليلة، يفضي الاستثمار إلى خلق عدد قليل من مناصب الشغل. وعندما نفحص طبيعة المناصب التي تم إحداثها، نلاحظ أن الأمر يتعلق في غالب الأحيان بمناصب شغل هشة ولا تستدعي مؤهلات. هذه الطريقة في التشغيل تدعم فخ الأسعار المنخفضة. فحصة الساكنة النشيطة المشغلة خارج الشروط القانونية لعقد الشغل تصل إلى 75 في المائة، وحصة غير المتوفرين على شهادات تصل إلى 64 في المائة. هذه المعطيات تخلع شرعية كبيرة على الشك حول فضائل المرونة، على اعتبار أن من شأنها أن تنال من الفعالية والإنصاف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تساهم المرونة في انكماش الطلب الداخلي الذي يعاني من الاقتصاد، فإذا كانت تعطي للمقاولات فرصا للقيام بتقويمات، فإنها تخضع التشغيل والطلب لتقلبات الظرفية وتدعم ضعف المنافذ بالنسبة للمقاولات وتحد من الميل للاستثمار، وبالتالي تنعكس على النمو. في نفس الوقت تنال المرونة من قدرات الأجراء عبر الحد من فرص تنمية جودة الشغل. - يعتبر إصلاح نظام المقاصة مكونا أساسيا في إصلاح سوق المنتوجات، بما يسمح بتخفيف تحملات الدولة والإتيان على السلوكات المؤسسة للريع وتشجيع المنافسة. وتتجلى أهم حجة يدفع بها منتقدو المقاصة، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية، في أن دعم المنتوجات الأساسية تستفيد منه الفئات الغنية أكثر من الفئات الفقيرة. هل من حجية لهذا القول؟ هذه الحجة التي تتمتع بقبول كبير لأنها تحيل على نوع من الظلم الاجتماعي، لا تصمد أمام البحث. هكذا إذا أخذنا مثال استهلاك الغاز ذي الاستعمال المنزلي، نلاحظ أن 60 في المائة من نفقات الدعم توجه للأسر ذات الدخل الضعيف، وفيما يتعلق بالبنزين يتجلى أن حصة كبيرة منه تستعمل كسلعة وسيطة، ودعمه يساهم، بالنتيجة، في التحكم في تكاليف الإنتاج. والقمح اللين هو موضوع لدعم جزافي يهم الكميات التي تساهم في الحفاظ على الأسعار من المستوى الأدنى. ودعم السكر لا يساهم فقط في خفض أسعار المنتوجات المستهلكة محليا، بل يتيح امتيازات على مستوى التصدير. ففضلا عن أثره في إعادة التوزيع لفائدة الفئات الفقيرة، يحول نظام المقاصة دون تدهور القدرة الشرائية. وإذا ثبت أنه من الضروري مراجعة الامتيازات التي ينطوي عليها هذا النظام بالنسبة للأسر ذات الدخول المرتفعة، يفترض أن يكون الاقتطاع الجبائي أكثر ملاءمة. وينطوي نظام المقاصة على فضيلة لا يجري في غالب الأحيان التوقف عندها: فهو يساهم بشكل كبير في تحقيق هدف استقرار الأسعار، الذي يوجد في قلب السياسة النقدية، و بالتالي يساهم في الاستقرار الماكرو اقتصادي. فالتضخم المستورد يضطلع بدور في ارتفاع المستوى العام للأسعار. و بفضل الدعم يتم التحكم في مستوى التضخم في أقل من 2 في المائة في المتوسط. و حسب بعض التقديرات سوف يؤدي الإلغاء الكلي للدعم إلى التأثير على وتيرة التضخم الذي يرتقب أن يقفز إلى 8 في المائة و يفضي إلى ارتفاع أسعار المنتوجات الأساسية ب 20 في المائة.
وضع مجلس لتحليل السياسة الاقتصادية يمكن أن يساهم في إضاءة القرارات العمومية - كيف تقيمون النقاش العمومي حول السياسة الاقتصادية؟ السياسة الاقتصادية يترتب عنها توزيع للتكاليف والامتيازات والحقوق و الموارد وتؤثر على ممارسة الحريات و بالنتيجة على حياة الناس. ورغم تلك الأهمية، لا تكون السياسة الاقتصادية موضوع نقاش عمومي مواطن، حيث يتم التعاطي معها على أنها شأن يختص به الخبراء كما يتضح من سياسات الاستقرار الماكرواقتصادي. فتصور هاته السياسات الاقتصادية مطبوع بإخضاع تحديد الأهداف و الأدوات للخبرة الماكرواقتصادية . هكذا يتولى الخبير توفير المبرر العلمي لاختيارات صاحب القرار السياسي، وهذا الأخير يتوجب عليه شرعنة قراراته عبر توظيف مبادىء الإقناع عند توجهه للساكنة. هاته المبادىء تعبيء كل الصيغ البلاغية من استعارة وتشبيه وأمثلة وحجة من أجل رفع التحكم في التضخم والعمومي إلى مستوى القانون الذي ينبغي على صاحب القرار الاقتصادي الامتثال له. وعبارة «الدولة لا يجب أن تعيش بأكثر من إمكانياتها» يجرى استعمالها في الغالب من أجل تبرير التقليصات الموازنية وبيع الأصول العمومية لمستثمرين خواص وتوظف كحجة يقتضي الحس السلم التسليم بها. هاته الصيغة تنطبع في الأذهان ما دامت تدعم بعبارات أخرى تبخس السياسات الاقتصادية التوسعية عبر ربطها ب«التبذير» و«التساهل» و«التضحية بالأجيال المقبلة»، فيما يتم ربط السياسات التقشفية ب«الصرامة» و«التطهير» أو «تنظيم المالية العمومية». ويحاول هذا التوجه تشبيه الدولة بالأسرة. وهذا التشبيه الذي يفترض أن صاحب القرار العمومي يتوجب عليه أن يتصرف كرب أسرة، كمثال عبر تدبير سليم للمالية العمومية التي تؤمن النمو ولا ترهن مستقبل الأجيال القادمة. في نفس المجال يساق مثال السياسة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي من أجل دعم قناعة مفادها أن مبادئ التوازن الموازني واستقرار الأسعار تفرض نفسها على جميع البلدان باعتبارها إكراها عالميا لا يمكن الحياد عنه عند قيادة السياسة الماكرو اقتصادية. ويستمد خطاب الاستقرار مشروعيته من إجماع واشنطن، حيث يوظف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي سلطتهما من أجل رفع التحكم في العجز الموازني والتضخم إلى مرتبة البديهيات التي لا يتطرق الشك إلى صحتها. ويتعاضد تحليل الخبير وخطاب صاحب القرار العمومي بطريقة تجعل من الصرامة الموازنية والنقدية السياسة الوحيدة الناجمة. وعبارة «ليس ثمة بديل» يتم ترديدها من أجل تكريس التحكم في المالية العمومية والتضخم كما لو كانت قانونا يجب أن يخضع له الحاكمون. - ضمن هاته الشروط التي يغيب فيها نقاش عمومي دال من أجل التداول حول الخيارات الديمقراطية. كيف يمكن ضمان نوع من الموضوعية في التعاطي مع السياسة الاقتصادية؟ أتصور أن وضع مجلس لتحليل السياسة الاقتصادية يمكن أن يساهم في إضاءة القرارات العمومية. هذا المجلس يجب أن يكون مستقلا عن المؤسسات الاقتصادية العمومية ويتوفر على الاستقلالية العلمية وينجز دراساته في احترام لتعددية المقاربات والمناهج. وأتصور أن جدوى المجلس سوف تكون أكبر من اللجوء لسوق الخبرة المكلف بالنسبة للملزمين بالضريبة. تلك الخبرة التي تنتج تقارير تظل مخزنة في غالب الأحيان في ملفات رقمية بدون صدى أو تأثير داخل النقاش العمومي. وكما يقول الروائي الليبي الكبير « معرفة لا تنقذنا تهلكنا».