يمكن القول إن المخرج حكيم بلعباس كان انطلاقا من فيلمه «علاش البحر؟» يؤسس لرؤية إخراجية لا تعترف بالحدود بين التخييلي والوثائقي، رؤية تسعى إلى استنطاق الواقع بشكل يجعل الإخراج عملية إبداعية شفافة يلعب فيها المخرج دور القنطرة الفاعلة والإيجابية بشكل يحد من «وصاية» المبدع مما لا يجعل الوقائع والشخصيات تبدو مفعولا بها ومسلوبة الإرادة، بل تصبح فاعلة في العملية الإبداعية إلى جانب المخرج الذي يتولى بطبيعة المسؤولية في رسم هوية الشريط في نهاية المطاف. تدور أحداث «علاش البحر؟» بمدينة الدارالبيضاء، وبالضبط بحي العنق أحد الأحياء الشعبية المحاذية للمحيط الأطلسي. يصور الفيلم المعيش اليومي لثلاثة شبان انسدت في وجوههم منافذ العيش الكريم بسبب سيادة نظام الخصاص الذي ينيخ بكلكله على اليابسة البيضاوية وساكنتها. يقول إبراهيم: «اللهم البحر ومواجو ولا البر وخماجو»، وهو أحد الشبان الثلاثة، مخاطبا عاشقته التي حرم على نفسه مبادلتها حبا بحب هو الموقن بأن العشق ترف ليس مهنته. كان البحر الملاذ الوحيد لكسب لقمة عيش حارة بالنسبة لإبراهيم وحسن وسعيد، الذين أجبروا على مصارعة الأمواج العاتية، ولعل من نافلة القول، إن هؤلاء ما هم سوى عينة لمئات، بل وآلاف الشبان من السعيدية إلى لكويرة. حسنا فعل المخرج حين اختار للأدوار الرئيسية الثلاثة شبانا بحارة «ولاد العنق» ليلعبوا في الفيلم أدوارهم الحقيقية في الحياة. كانت الكاميرا ترتعش أمام عفويتهم، وقد فجروا الحوار ببوحهم الصادق النابع من معاناة حقيقية. كانت الكاميرا تبدو، كما لو كانت مندهشة فلم تملك نفسها من الإسراف في أخذ لقطات مكبرة جدا لإبراز تفاصيل مهنة البحارة حين يتقنون الغرزة وغيرها من الأعباء والتفاصيل الدقيقة لمهنة يتعايش أصحابها مع موت محدق متربط بهم بين موجة وموجة، لكنه موت جبان لم يستطع وما ينبغي له أن يثن حسن وإبراهيم وسعيد وغيرهم عن إعادة الإنتاج اليومي لملحمة حب البقاء الذي يتحول إلى حمل ثقيل حين يحيا الإنسان دون أن يعيش. «علاش البحر؟» فيلم يحتفي بالبحر وظلماته ورجاله، لا تكاد الكاميرا فيه تعود إلى البر إلا لإضاءة مسارات شخصياته من خلال الغوص في معاناة ساكنة مدن سفلى ذات بيوت واطئة تلتف على حياوات تكالب عليها الخصاص والفقدان ليردياها بقايا ناس. كانت الأزقة الضيقة تحاصر الكاميرا العائدة لتوها من الأزرق الفسيح، كانت اللقطات تبدو فيها «أم سعيد» ضئيلة مشدوهة وحيدة وسط بيت خال عنوانا عريضا لعزلة أسر لا يعود ابنها من بحر، قد يجود أو لا يجود، إلا شهيدا أو شريدا. كانت الأحداث تتوالى لتؤكد حدس أم سعيد التي استشعرت بحدس الأم شرود ابنها الذي حاق به الجنون بفعل طيف امرأة يتراءى له بين الأمواج وفي الأزقة أنه قدر البحارة الذين تسكنهم وربما تخطفهم الهيشات والجنيات في روايات ألف ليلة وليلة وأيضا في «سيد عبد لله بالحاج» و «سيدي عبد الرحمان» وفي «القمقوم» ... كانت الممثلة أسماء الخمليشي موفقة في صمت في لعب دور المرأة الطيف التي أخطأت سعيد وكان الضحية إبراهيم. وفي لحظة الذروة التي ابتلع فيها البحر «ابراهيم» وهام فيها سعيد على وجهه رغم صرخات أم مغلوب على أمرها، كانت الرواية وكان التخييل يلفظ أنفاسه الأخيرة رغم إشراقة حسن وشقيقة ابراهيم اللذين رسما من خلال لقطة مكبرة ليديهما، تشتبكان خيط الأمل الوحيد وسط هول الفجيعة، في هذه اللحظة بالذات اختار المخرج أن يجعلنا وجها لوجه مع المعين الذي نهل منه الحزن الذي يسكن الفيلم، وكانت شهادة مصورة «للحاجة فاطنة» الأم المكلومة التي ابتلع البحر زوجها وابنيها في الواقع وليس في الفيلم كانت الكاميرا قد انزوت خاشعة فاسحة المجال لبوح الأم، للشكاوى الفصيحة، لدموع لميمة الباكية ديما. كانت الكاميرا تنطفىء بين الفينة والأخرى لتوشي هذه اللوحة السينمائية الرائعة بفراغات كأنما هي زفرات صاعدة من صدر جريح. كانت الحاجة وهي تحكي جرحها العنيد، شامخة شموخ الخنساء، وهي تنتصر على موت حارة زغبية. ألا قاتل لله المنايا «وخطفها فلذات الأكباد» على عمد.