«رحلة في الصندوق» عنوان بسيط، قد يقذفنا توا إلى عالم فيلم التحريك. عنوان يعطينا الإحساس بالطمأنينة ربما لهذا السبب اختار المخرج هذا العنوان بدل »"رحلة نعش"« إنها مناورة جميلة من المخرج كي لا يضع المشاهد مباشرة أمام الحدث المحوري ... لفيلمه القصير. بما أن العنوان هو عشية الفيلم، المدخل الأولي لولوج العوالم التخييلية، فإن أمين صابر يسكنه هاجس التلقي الذي كثيرا مايغيب في اشتغال العديد من المخرجين المغاربة ينتحل سؤال مؤرق هو: كيف يمكن مشاهدة فيلم قصير يشتغل على تيمة الموت بما يحمله الفيلم من اكراهات التكثيف، فماهي إذن حكاية هذا الفيلم كي يتمكن القارئ الذي لم يشاهد الفيلم أن يكون صورة عن الأحداث التي تكتنف هذا الفيلم الأول في مشوار مخرج واعد. الحكاية: على سبيل الاختصار يذهب عبد الكريم المغربي إلى باستيا بكورسيكا، ليتكفل بمهمة إرسال نعش صديقه سعيد الذي توفي في ظروف مزرية، سيكتشف أن صديقه لا يتوفر على تأمين للوفاة، لذا سيجد نفسه مضطرا للبحث عن وسيلة لتوفير الظروف الملائمة لعودة جثة صديقه إلى مسقط رأسها. مسار إداري معقد وظروف مادية قاسية، لكنه في آخر المطاف سيتمكن من توفير صندوق لرحلة أخيرة. إن ...دهاء المخرج للزج بالمتفرج في الصندوق وإقحامه داخل أتون هذه المرحلة يرافقه نوع من الخديعة، لأنه ليس هناك رحلة في الصندوق، بل رحلة مجازية في دهاليز الإدارة.. وقوف الانسان عاجزا ليس أمام الموت، لأن هذا الأخير أصبح واقعا حقيقيا يتمثل في موت سعيد. عبد الكريم مجبر الآن على أخذ رحلة أخرى. هذه التجربة الانسانية والتي يعيشها أغلبية المهاجرين بين المغاربة، حينما يأتي الموت أحد أقربائهم يصبح الموت مضاعفا عبر ثقل الفاجعة والدخول في طقوس تهجير الموت إلى أرض الوطن الأم. لقد اختار المخرج أن يلعب دور عبد الكريم، خاصة وأن له تجربة في مجال التمثيل بالاضافة إلى كتابته لسيناريو الفيلم، فهو يعرف الخطوط العميقة التي تشكل وجه الشخصية التي تعبر بصمت المتن الحكائي لهذا الفيلم، شخصية لا تتكلم كثيرا إنها أشبه بالمخرج الذي يتخفى خلف الكاميرا. تجدر الإشارة الى أن أمين ناصر أوشك أن ينجز فيلما وثائقيا حول موضوع رحلة النعش إلى الوطن الأم، مستلهما تجربة قاسية داخل أسرته. لكن لأسباب كثيرة تخلى عن الفكرة لتحويلها إلى فيلم تخييلي. لذا نجد شخصية عبد الكريم لا تنفعل كثيرا كما لو كانت تتابع الأحداث من خلف مسافة أو لأن حجم الاحداث أربك الحضور وجعله يتقزم. لعبد الكريم دور مهم في متواليات الأحداث، لأن عبره ننطلق من حدث الى آخر. إن التركيز على اللقطات الكبيرة للوجه كان من شأنه أن يحيلنا على كل ما يعتمل داخل هذه الشخصية... مفسحا المجال للاقتصاد في لغة الكلام.. صمته ليس عجزا ولكن قوة صامتة تتحرك، تنتقل من مكان الى آخر دون زوبعة.. من المؤسسة الخاصة بتنظيم طقوس الدفن... القنصلية المغربية... المقهى الخاص بالمغاربيين المقيمين بباستيا... مستودع الاموات... المطار. لكن كل هذه الانتقالات كان يتخللها طقس خاص في مشهد خاص لعبد الكريم وهو جالس أمام البحر.. يتكرر المشهد على شاكلة لايتموتيت .هذه المشاهد ليست مقحمة بمجانية، إنها تلعب دورا إيقاعيا في الفيلم، فرغم أن هذا الأخير قصير فان كتابة الأحاسيس وثقل الحمولة المرتبطة بموضوع الموت، يرتهن المخرج لهاته اللحظات كي يضع الشخصية المحورية والمتفرج أمام فضاء مفتوح.. لحظة للتأمل والعودة بنفس آخر إلى المتواليات القادمة هذه الكثافة الإنسانية بامتياز أمام هرم الموت، جعلت الفيلم يتصاعد من الناحية الدرامية بصعوبة، كما لو كان في عنق الزجاجة. حينما يتلقى عبد الكريم مكالمة من المستودع تخبره أنه إذا لم يستطع توفير المال الكافي لإرسال النعش، فإن المستودع سيقوم بتجميد الجثة، لحظة رهيبة ومشهد يجسد الدروة، آنذاك ولأول مرة، نجد هذه الشخصية تركضن وتطلق سيقانها للريح في اتجاه مؤسسة الموت.. مشهد الشخصية وهي تواجه الزجاج الشفاف والواقي لمستودع الأموات. الوقوف عاجزا أمام صمت الليل والأبواب المغلقة و صرير آلات التبريد، جعل هذا المشهد كما لو أنه نهاية الفيلم.. يتصاعد صوت المرتلين للقرآن.. الجسد المسجى على مغسلة باردة.. جسد الصديق الميت/الغائب ،ها هو الآن يطغى بحضوره بعدما كان خلف الزجاج الواقي.. داخل آلة تبريد بلا إسم، يحتفل المخرج بطقس غسل الميت كما لو كان فرحا مكتوما.. نوع من الانتصار على الموت المضاعف اللحظة التي تسبق الدفن.. عبر مونتاج متواز ما بين مشهد المرتلين وإعداد الجثة لرحلتها الأخيرة تتخلي الشخصية المحورية عن جمودها المصطنع.. وتمضي مرافقة من الخلف سيارة نقل الموتى المتجهة إلى المطار. مشهد يأخذ حيزا من الوقت يكفي لترسيخ اللحظة الأخيرة حينما يودع بأسى ومن بعيد صديقه الذي أخد في رحلة نهائية في الصندوق. في "»رحلة في الصندوق"« يختبر أمين صابر سؤال الموت بلغة سينمائية بسيطة وعميقة في الآن نفسه، مثل فيلسوف لا يريد أن تكون اللغة متعالية عن المحسوس/المجرد، خاصة وأن النهاية/المتعددة لا يمكن لها أن تكون إلا واحدة... إنها الموت الفصيح. في هذه التجربة السينمائية الأولى يتبدى لنا موضع قدم هائل لمخرج قد يساهم من خلال تصوره الإبداعي في إثراء مشهدنا السينمائي المغربي. حاز الفيلم على عدة جوائز ضمن المهرجان الوطني للسينما بطنجة والمهرجان المغاربي بوجدة.