كتاب فريد ومفيد صدر مؤخرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر للأكاديمي الجزائري محمد خاين تحت عنوان: "الإشهار الدولي والترجمة إلى العربية: رهانات الاحتواء وإكراهات اللغة والثقافة" يسلط الضوء من خلال مقاربات سوسيو-ثقافية ولغوية على أبعاد وعلاقات النص الإشهاري المترجم، وحدود امتداداته النصية واللغوية بعد العملية إياها. يستفيض الكاتب في البحث عن الحمولات الثقافية والأيديولوجية وعملية النقل العصيبة التي تؤول النص الأصلي، وتعيد صياغته من جديد ليكون قادرا على مواكبة ما سماه بإرادة القول التي يريد المشهر تمريرها من خلال رسالة ما. ومن أهم ما ميز الكتاب التحفة انطلاقه من مؤسسات سوسيو-لسانية تواصلية، اعتمادا على دلالات النص الإشهاري المترجم، بتحديد منظومات الاعتراض الترجمي العلمي وممكناته على مستويات عدة منها الأنساق اللغوية واللسانية والتواصلية. وهي الإشكاليات التي توفق محمد خاين في رصد أبرز تناولاتها، حيث قام بوضع القارئ أمام كتلة دافقة من الأسئلة المعرفية، وذلك بالإجابة التكتيكية عن تمايزات الترجمة والعلامة الإشهارية، بما هي لغات وتعالقات نصية ودلالية، والمعوقات اللسانية التي تحصر النص المترجم وتجعله غير قابل للمواءمة التقريبية، ثم العوامل غير اللسنية الموجهة للمترجم النصي الإشهاري. والعلاقات الأيقونية التي ترافق النص اللساني في الفضاء الإعلاني، وما مكيفاتها السوسيو-ثقافية تجاه اللغة المنقول إليها؟. لا أريد هنا تقدير وتقييم الكتاب على أسس نقدية توظيفية صرفة، لأن محاولات للتدليل على هذا المنحى ستضعني في مأزق التحليل أو التفكيك غير المنطقي، حيث إن مشروعا لا يمكن تحديده في دائرة معينة، كما أن المغامرة غير مضمونة العواقب، مادام الاحتيال على النص المقروء يعتبر أساسا ضربا من ضروب الغوص في ثنايا استشكال غير مسبوق، بل إنه ضرب من ضروب كسر الثنائيات: الدال والمدلول/ الواقع والمثال. وعليه فإنني أواكب فقط لمعا من تجليات تلك المفاهيم وأجهزة التحقيق الإستراتيجية التي تقوم عليها مدخلات الكتاب. ومن أهمها محور مركزي تغلغل فيه الكاتب بارتفاع متمكن، أضحت فيه لغة التخصيص بؤرة انتقالية وبرهانية تمثل في جانب منها خلخلة لمعاني اللوغوس وتوثيقا لتشاكلاتها وحضورها في الوعي الجمعي المتابع. أعترف أن عناصر الإثارة في كل هذا وذاك استرداد الباحث في أولى اختياراته التقديمية للأجهزة المفاهيمية الأكثر تأثيرا في الرسالة الإشهارية، بوصفها ذات فاعلية وفعالية تداولية، مستنطقا، بذكاء فيلولوجي مبدع العلامات المؤسسة للماركات الاشهارية ووظائفها المرجعية والموضوعاتية والاثباتية، وكلها أسس استراتيجية في العمود الفقري للوظيفة التداولية التي يقوم عليها الوازع الاشهاري وهوياته. ويزيد الإعجاب توسعا ومراهنة على الحداثة والتجديد في المواضعة على الخلفيات والمرجعيات الفكرية المعتمدة في مستويات البحث، وبخاصة في تأطيره للعلامات اللغوية وأفعالها المقابلة إشهاريا. ويعتبر محور الإشهار بوصفه فعلا لغويا في الكتاب المعني جانبا تأسيسيا للمهمات التداولية للإشهار، ليس بتناول البنى اللسنية في ذاتها، ولكن أيضا الاهتمام بعمليات تحليل اللغة بمختلف طبقاتها المقامية، على أساس "أنها كلام محدد صادر عن متكلم معين، وموجه إلى مخا؛ب بذاته، بلفظ واضح، في مقام تواصلي معلوم، بغية تحقيق غرض تواصلي بين. وكذلك لكونه يمثل نمطا متفردا ومتميزا.." حسب تعبير الباحث. وفي انتقاله من المستوى النظري إلى التطبيقي، يضعنا المؤلف أمام مأزق استفهامي خطير، إنها ماهية تجليات هذه النظرية على مستوى الإشهار؟ يخلص فيها بعد خبرة وتخابر مع أفعال الواقع اللغوي وشروط اندماجه وتماسكه وقصدية إنتاج الملفوظات وتأويلها إلى أن الفعل اللغوي يتمظهر من خلال الطريقة التي يقدم بها المنتج لسانيا، حيث :"يجري تغييب جميع المقاصد النفعية والتجارية، ويعاد تحميله بمجموعة من القيم مثل الصحة والطبيعة..".فتوظيف اللغة في آليتي التقرير والإيحاء في تمرير رسائله،وفق نمطية ما يسميه بارت بالمفارقة، باعتمادها ،أي اللغة ، وسيلة للتدليس، تتحول حسب المؤلف "من مجرد كونها وسيلة اتصال مثلى بين الفاعلين الاجتماعيين، إلى آلية لمجموعة من الادعاءات التي تعدم الإثبات، وذلك بوساطة بعض الحالات اللسانية..". ويفرد الباحث محمد خاين فصلا كاملا لارتدادات هذه المفارقة البارتية على الهوية والسلوك اللغوي، في أبعاده الثقافية والتربوية، مع تأثيرات ذلك على الخصوصيات المحلية. وهكذا ينطلق صاحب الكتاب من فجوة المؤثرات العولمية، التي تصير النص بوصفه بنية سطحية في شكل فيزيائي يكون عرضة لتقاطعات لسانية وغير لسانية. ومن ثمة فمقاربة الكاتب لمستوى مضمون الرسالة الإشهارية المتمثلة في البنية العميقة للنص المترجم، تحت إخضاعه لجملة من التحويرات وسمها المؤلف بإكراهات العولمة، مستخلصا تكريس ثقافة الاختراق والاحتواء للآخر المستلب، هي مقاربة تعبر تكتيكيا نحو إعادة تصحيح مفاهيم التحولات الكبرى في مجال الإعلام والاتصال، وانحراف تحوير مفهوم المحلية. وأجزم خاين انجراف هذه التحولات الخطيرة بفعل الثورة الرقمية واختراق الحدود الجيوسياسية، مع ما يرافق هذه المتغيرات من تمظهرات تشكل أنظمة سياسية واقتصادية وصناعية وتجارية، ما أثر بشكل مباشر في بروز ما يسمى بالتنوع الثقافي والإثني، علاوة على قيام الشركات متعددة الجنسيات بالتمدد في بلدان العالم وفرض اندماجات اقتصادية وثقافية وسياسية. من أهم الاختراقات العولمية للنص الإشهاري ما خص له المؤلف في بحثه عنوانا مثيرا سماه "التعاقب اللغوي" وهو ما يعرف حسب الكاتب بتجاور تراكيب تنتمي للغتين مختلفتين أو أكثر، مشكلة بذلك نصا مكتملا على مستوى بنيته السطحية من دون أن يشعر المتلقي أن فيه إقحاما أو عدم تجانس بين اللغات الموظفة، وقد قام المؤلف في إطار تدبيره للإشكالية بتفصيل الظاهرة انطلاقا من مرجعياتها وإوالياتها، موضحا أن المعاجم المختصة قدمت هذا الاختراق، كظاهرة لسانية اجتماعية على أنها إستراتيجية تواصلية، يستخدم من خلالها الفرد أو الجماعة تنوعين لسانيين أو لغتين مختلفتين في المقام الاتصالي الواحد. ومثل المؤلف هذه التعاقبات اللغوية بمجموعة من النصوص التي أطلقها العاملون في سوق خدمة الهاتف المحمول، في السياق السوسيو-اقتصادي الجزائري، والتي اعتمدوا فيها عملية المزج والتهجين بين مجموعة من الأنساق اللسنية العائدة إلى العربية الفصحى، والعامية الجزائرية والفرنسية والإنجليزية، الأمر الذي يدلل، يقول خاين، على أن التهجين أصبح يشكل للإشهاريين الجزائريين مادة أساس يسترفدون منها بغية جذب انتباه المستهلكين وحملهم على الإمساك بواقع صنع بوساطة اللغة، مع أن هذا الواقع في حقيقة الامر هو الذي صنع نفسه، يقول خاين. أما الترجمة التي تستأثر بسلطة تدجين النص واستيلابه فيعرفها الكاتب بوصفها أداة لإظهار التمايز والاغتراب وإبقاء مسافة التباعد مع الآخر، واعترافا بالايدولوجيا، فهي أيضا أحد تحققات الاختراق العولمي المتمظهر في النصوص الإشهارية للثقافات المحلية. وهي التي يلجأ فيها المترجم إلى ممارسة فعل ترجمي يعرف في حقل الإشهار بالتكييف، بغية إخفاء ما قد يثير حساسية الشعوب المخاطبة. ومن أهم عمليات الاختراق، وضع النص الإشهاري في لغة المصدر يراعى فيه قابلية الترجمة. ويخلص الكاتب في هذه المدارة التحليلية إلى ارتباط الترجمة بالعولمة، فهي أداة من أدواتها المحققة لها، حيث يتحقق الانزياح من مفهوم الأمانة للمصدر إلى الأمانة للهدف. وكما وضع المؤلف لهذه الترجمة الإشهارية رهانات تقوم عليها وتتقوى بقواعدها، من الاقتصادي والثقافي والسوسيو-ثقافي والقانوني والإيديولوجي، فإنه لم يخف قلقه من تأثيراتها على منظومة القيم والسلوكات المحلية، على الأقل في الوعي بالمؤشرات والقرائن ذات الطبيعة الثقافية الإيديولوجية من أجل مقاربة المكون الثقافي. صاحب الكتاب الجدير بالقراءة المتعددة، لسنيا وحفرا أركيولوجيا لغويا ، عمل على وضع الإطار التاريخي والمرجعي للترجمة الإشهارية ووثق لمعظم النظريات الخطابية في الشأن، انطلاقا من النظرية المعادل الدينامي والمدرسة الألمانية إلى نظرية أنماط النصوص ونظرية الأهداف الانجليزية، مستوحيا في سياق هذه القطائع الإبستمولوجية إلى بسط جملة من معايير الترجمة الإشهارية. الكتاب تحفة معرفية إعلامية، أبرز عبر مقاربة أكاديمية نادرة في موضوع لم يسبق إليه إلا في محطات تعميمية، وصادرة عن باحث لسني جزائري مرموق، أهم قضايا الإعلام الإشهاري العولمي الذي يشكل في علاقاته بالثقافات والتعدديات شكلا من أشكال التسلطية الامبريالية الجاثمة على صدور البلدان العربية المتخلفة. إننا بحاجة ماسة إلى مثل هذه الأبحاث العلمية المشرفة، حيث يمكن تقويض المفاهيم السلبية للخطابات الإعلامية الموجهة، من خلال صياغة أسس جديدة للمتن الإشهاري وتعديله وتكييفه بحسب الخصوصية الثقافية المحلية، حتى لا يستمر الإجهاز على العقل العربي، الذي استنزف وأقبر في ثلمة لن يعرف مآل انبلاجها، على الأقل في راهن يغلي عشوائية وتخبطا وانفلاتا مريبا.