لقد كانت البداية من هنا، أمام هذا السياج الذي يحيط بمبنى بديع مصبوغ باللونين الأبيض والأزرق والمزين بنقوش من الجبص. كان رئيس البلدية قد حل بالمكان وأعاد صبغ البناية وتبليط الأرضية. عقارب الساعة كانت تقترب من منتصف النهار عندما أوقف محمد البوعزيزي عربته المدفوعة أمام مبنى البلدية وأعين سائقي سيارات الأجرة الرابضة تحت الأشجار الموجودة بالمكان تتابعه. لم ينبس بأية كلمة، بل حمل قنينة مملوءة بالبنزين وسكبها على نفسه، ثم أشعل عود ثقاب. مرت بضع لحظات قبل أن يتدخل المارة. نزعت إحدى النساء رداءها محاولة تغطيته به، لكن حينها كانت النيران قد التهمت قدميه ويديه ووجه. يقول كمال كوكا، الذي كان حاضرا بالمكان: «لم يكن بمقدوره الكلام، كانت سبابته مرفوعة في اتجاه السماء، في الوقت الذي كان فيه بعض الأشخاص يتلون سورة الفاتحة. لقد كان البوعزيزي معروفا هنا. تميز بروحه المرحة، رغم أن حياته لم تكن تخرج عن ثنائية العمل والنوم. كان في بعض الأحيان يلعب الورق في المقهى، ونادرا ما كان يتناول كأسا من النبيذ. هذا كل شيء. الناس هنا لا يتكلمون. ديننا يحرم الانتحار. وما قام به يوضح أنه كان فعلا في منتهى الإحباط.» لقد قام محمد البوعزيزي إذن يوم 17 دجنبر 2010، وهو في ربيعه السادس والعشرين، بإشعال شرارة ما سيحمل في ما بعد اسم «ثورة الياسمين». تعيش أسرة البوعزيزي في حي «النور»، بتجمع سكني بئيس بأزقة طرقها غير معبدة. منزل هذه الأسرة هو الأشد بؤسا في الزقاق. باب حديدي ضيق يطل على باحة مبلطة بالإسمنت، ثم يقودك عبر ممر مصبوغ بالأبيض ولون أزرق تلاشى لمعانه. كان سورة قرآنية كل ما يزين جدران المنزل، وثلاثة عصافير من فصيلة الكناري تزقزق داخل قفص موضوع في أحد أركان البيت،وفي جانب آخر، كانت هناك ثلاجة وقارورة غاز. وعلى اليسار، كانت هناك غرفة الضيوف يتوسطها جهاز تلفاز، وتتحول تلك الغرفة في الليل إلى غرفة نوم شقيقات محمد. وعلى الجانب غرفة للأشقاء الذكور، ثم غرفة الوالدين. أثاث المنزل يقتصر على الأسِرة فقط. تبدو أم بوعزيزي بنظرتها الصارمة سيدة بدوية قوية، ترتدي زيها التقليدي وتتشح برداء أسود. توفي زوجها الأول، والد محمد، وتزوجت بعد ذلك من شقيقه، عمار الذي ما يزال طريح الفراش منذ اشتعال الأزمة. لمحمد ثلاث أخوات و ثلاثة إخوة، كان هو ثانيهم. تقول عنه والدته: «لقد كان شابا خدوما، لا تفارقه الابتسامة وروح المرح، كنا نلقبه بسبوس. بعد أن حصل على شهادة الباكلوريا، تخلى عن إتمام دراسته ليتفرغ لتدبير لقمة عيش أسرته، حيث شرع في بيع الخضر والفواكه. كان يكسب ما بين عشر وعشرين دينارا في اليوم (ما بين 5 و10 أورو)، ولم يحدث أن تجاوز ذلك المدخول. وفي اليوم الذي توفي فيه، كان قد أوقفه رجال البلدية وحجزوا بضاعته والميزان الذي كان يشتغل به. كانوا أربعة رجال وسيدتين. احتج محمد، فعنفته إحدى المسؤولتين وشتمته. وتوجه إلى البلدية لتقديم شكايته. لكن تم طرده ثلاث مرات. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تتعرض فيها بضاعته للحجز، لكن أن يتعرض للتعنيف من طرف سيدة في الشارع العام كان له أثر على نفسيته وأحرقه من الداخل قبل أن يقدم على حرق جسده. هذا أمر غير مقبول عندنا هنا.» لكن هل كان محمد فقط ذلك الرجل الذي لم يقبل أن تعنفه امرأة؟ قد تكون هذه الصورة كاريكاتورية, تكشف شقيقة محمد (19 سنة)، التي اتشحت بدورها بالسواد، تفاصيل الإهانة التي يتعرض لها يوميا وأوضاعه الأسرية: «تكسب والدتي أربع دينارات يوميا بالعمل في الحقول، أما والدي فيقوم ببعض الأشغال كلما أتيح له ذلك. لذلك كان محمد هو الركيزة الأساسية للأسرة. لكنه لم يعد قادرا على تقبل إهانات مسؤولي البلدية.» تكاد الدموع تفر من مقلتيها وهي تتحدث عن معاناة شقيقها، الذي توفي يوم 5 يناير، أي بعد مرور تسعة عشر يوما على حادث إضرام النار، وكان بن علي قد زاره في المستشفى يوم 28 دجنبر: كانت صورة سيئة لديكتاتور يقف بجانب سرير لجثة مفحمة تغطيها الضمادات من الرأس إلى القدمين، وكأنها مومياء. تقول سمية بصوت غاضب: «لن أسامحه أبدا.» ما إن تلقت أسرة بوعزيزي ذلك الخبر، حتى انتقلت إلى مقر البلدية مطالبة بالمحاسبة، والتحق بهم حوالي خمسون شخصا آخرين، وكان معظمهم من الباعة المتجولين. لكن وقفتهم لم تثمر عن شيء، فاضطروا لمغادرة المكان في المساء. وبعد ذلك، سيتم تنظيم احتجاج آخر أمام مقر البلدية، سينضم إليه نقابيون ومعارضون محليون. يقول عبد الله عمري، أحد جيران بوعزيزي ونائب الأمين العام للاتحاد العام للشغالين بتونس: «لقد كان بوعزيزي تلك الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات. الوضعية هنا مزرية للغاية. معدل البطالة يتجاوز 20 بالمائة، سيما في أوساط الشباب المتعلم. ليست هنا فرص للشغل، كما أن وضعية الفلاحة هنا تسير على نحو سيء. القطاع الوحيد الذي يوفر فرص الشغل هو الإدارة، لكن من أجل ولوجها، يتعين التوفر على وساطة من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي [حزب بن علي]». يقول منصف الصالحي، نقابي بسلك التعليم وعضو المنتدى الديمقراطي للعمل والحريات الذي يقوده المعارض مصطفى بن جعفر: «لقد كان الجميع يرى في نفسه شخص بوعزيزي. لم يكن الأمر عبارة عن إضراب، بل انفجارا غاضبا.» ومع حلول منتصف نهار ذلك اليوم، تعبأت فرق الشرطة للتدخل، واستعملت قنابل الغاز بشكل كبير، وتعقبت المحتجين في الأزقة إلى حدود منتصف الليل. يقول منصف الصالحي: «لقد كانت حرب شوارع. كان الشباب يرمون بالحجارة ويضرمون النار في الإطارات المطاطية. الشرطة تطلق قنابل الغاز حتى داخل المنازل.» وتكرر نفس السيناريو طيلة اليومين المواليين. وانتشر خبر الاحتجاجات بين النقابيين والمعارضين، والكل وضع في ذهنه ثورة المناجم بقفصة في بداية سنة 2008، حيث ثار سكان الرديف احتجاجا على تشغيل مقربين من السلطة في مناجم الفوسفاط، غير أن تلك الاحتجاجات التي استمرت لعدة أشهر لم تنتقل إلى باقي المناطق التونسية. ما حدث هذه المرة هو أنه تم الإسراع بتشكيل لجنة تنسيقية. يقول عطية أتموني، النقابي بسلك التعليم والمعارض بالحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقوده نجيب الشابي: «لقد كانت تلك الحركة تلقائية، غير أننا قررنا متابعتها منذ انطلاقتها.» يقول منصف الصالحي: «لقد كثرت الاحتجاجات خلال السنوات الأخيرة. وفي كل مرة، كان أفراد الشرطة يفوقون المحتجين عددا. كان من الصعب تحمل ذلك، لكن بمرور الوقت، أصبح الخوف يتلاشى.» وخلال الأسبوع الموالي، انتقلت الاحتجاجات إلى كل المدن المجاورة، وتم الهجوم على خط السكك الحديدية، فلجأت قوات الأمن إلى إطلاق النار، وكانت أول حصيلة مقتل شخصين. ما لم يحدث خلال مظاهرات قفصة سنة 2008، هو الذي وقع هذه المرة، إذ انتقلت التعبئة إلى الفيسبوك، الشباب كانوا يصورون ما يحدث وينشرونه عبر الإنترنت. وبسرعة قامت قناة الجزيرة بنشر تلك الأشرطة وتسلط الضوء على ما يحدث. أولئك الشباب هم الذين قاموا بالثورة فعلا، شباب يرتدي بذلة رياضية وسروال وينتعل حذاء خفيفا ويمتطي دراجة نارية يجوب بها الشوارع من الصباح إلى المساء، يتوقف ليصور ويغادر من جديد قبل أن يعود إلى المنزل وينقل ما يحدث إلى العالم. الجميع أضحى يرى حلم الحرية قريبا. لكن مع انسحاب أفراد الأمن، أضحت الفوضى هي سيدة المكان. أصبحت المدينة وحيدة خالية من الأمن، ومن رئيس البلدية، لكن السكان هم الحاضرون الوحيدون. أما عمدة البلدة، فقد ظل منكمشا في كرسي مكتبه، وصورة بن علي قد انتُزعت من الحائط، تاركة بقعة بيضاء في مكانها. كلما سمع خطوات تقترب من المكتب، انتفض قلبه رعبا وخوفا. لم يكن على علم بما حدث، لا بقصة بوعزيزي ولا بتلك المسؤولة التي عنفته، وهي موظفة عازبة في عقدها الرابع، تدعى فائدة حمدي، والتي تقبع في الوقت الراهن في سجن قفصة. قالت أمام المدعي العام: «لم أفعل أي شيء.» فأجابها: «هل تمزحين؟ لقد أشعلت النار في تونس كلها.» وفي المقابل، يقسم زملاؤها أنها لم تلمس بوعزيزي. تقول إحدى زميلاتها: «لقد طبقت القانون فقط، فمن الممنوع البيع بدون رخصة. نحن لا نأخذ الرشاوى، إننا شرفاء. أما البضاعة المحجوزة، فتم تسليمها لإحدى الجمعيات المهتمة برعاية الأشخاص المعاقين. وهذا هو إيصال تسليمها: صندوقان من الإجاص، ثلاثة صناديق من التفاح وسبع كيلوغرامات من الموز.» لكن كيفما كانت الأسباب، فرياح التغيير هبت على تونس. عن «ليبراسيون» الفرنسية