"الشرق الاوسط" تونس: حاتم البطيوي جلست منوبية، وهي سيدة على مشارف عقدها الخامس في بهو فندق «ناسيونال» بالعاصمة التونسية (من صنف ثلاثة نجوم)، وقد بدت متعبة وشاردة. كان واضحا أنها أم ثكلى، لا يكف الدمع عن التسرب من مآقيها، ولا تكل من ترديد أنها تريد ابنها، ولا شيء من كنوز الدنيا يعوضها فقدانه، لكنها سرعان ما تجد عزاءها في كونها أم مفجر «ثورة الياسمين» في تونس. عند مدخل النزل، وضعت لوحة رخامية على جدار، كتب عليها «دشنه السيد الباجي القائد السبسي، عضو الديوان السياسي، ووزير الخارجية (في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة) في 23 ربيع الثاني 1405، الموافق ل 15 يناير (كانون الثاني) 1985. يا للمصادفة، كم هو مليء بالمفارقات «يناير» التونسي؟ يتجمع نزلاء الفندق حول أم محمد، تونسيون، ليببيون، وهم يتسابقون لتقديم العزاء لها. أحدهم لم يكتف بذلك بل سلمها هاتفه النقال لتلقي التعازي من ربعه في طرابلس. عتاب للإعلام التونسي جراء إشارته فقط إلى زيارة الرئيس له في المستشفى * حلت العائلة مؤخرا بتونس العاصمة بعد أن قرر التلفزيون الرسمي استضافتها لأول مرة للحديث عن ابنها المحروق، والثورة التي هزت أركان حكم «الزين»، كما يحلو للتونسيين أن يسموا رئيسهم المخلوع. ورغم ذلك لم تخف عائلة البوعزيزي خيبة أملها من تجاهل وسائل الإعلام التونسية قبل إسقاط نظام الرئيس بن علي، لابنها، ذلك أنها كتبت عنه فقط لتقول إن الرئيس زاره في المستشفى، ولم تثر نقاشا حول المسؤولين الذين دفعوا محمد إلى إحراق نفسه، لا سيما وأن الأمر بالنسبة لها يتعلق بالقتل العمد. وقال سالم البوعزيزي، 30 سنة، ويعمل نجارا، ل«الشرق الأوسط» إن العديد من وسائل الإعلام العربية والدولية اتصلت بالأسرة، ما عدا وسائل الإعلام الوطنية التونسية. وطلب سالم من السياسيين التونسيين الذين أصبح اسم شقيقه محمد يتردد بكثرة في خطاباتهم وتصريحاتهم الصحافية، ألا يوظفوا ما قام به شقيقه لصالح أجنداتهم السياسية. وقال «أخي محمد لم يكن سياسيا وليس محسوبا على أي تيار سياسي. ما فعله كان تعبيرا عن غضب شخصي، ولم يكن عملا سياسيا». تهدأ أم محمد قليلا، لكن النسيان لا يبدو أنه يسعفها، فهي لم تتمكن بعد من الخروج من حالة الحزن والصدمة، إذ لا يزال يصعب عليها تصديق ما حدث. ثمة جرح عميق في قلبها لن يمحوه الزمن بسهولة. فجأة ينطلق صوت الصحافية التونسية صوفيا همامي، مثل سهم عازم على إصابة هدفه. كانت تتحدث مع مدير التلفزيون محتجة على استضافة عائلة البوعزيزي في فندق عادي، معتبرة ذلك احتقارا لهم، قبل أن تقول له: «لو كان الأمر يتعلق بمطربة من الدرجة العاشرة لتمت استضافتها في فندق من صنف خمسة نجوم». وهمامي، المتحدرة من منطقة سيدي بوزيد، وتربطها علاقة وطيدة بعائلة البوعزيزي، لم يناقش مدير التلفزيون ما سمعه منها، وقال لها إنه سيرسل إلى العائلة من سيقوم بنقلها إلى فندق آخر أرفع درجة وأكثر نجوما. كانوا ستة.. سابعهم صبرهم. الأم منوبية ترتدي لباسا أسود، وسالم، الأخ الأكبر لمحمد، وليلى، أخته الصغرى، وزوج خالتهم الذي ناهز الثمانين من العمر، وخالته راضية وابنتها، إلى جانب شوقي ناصر، صديقه وشريكه. «الشرق الأوسط» التقت العائلة المكلومة، وتحدث أفرادها لها عن «مفجر الثورة» التونسية، وعن الساعات الأخيرة التي سبقت إحراقه لنفسه، وخفايا لقاء أمه وأخته بالرئيس زين العابدين بن علي في قصر قرطاج. الرئيس لم يكن على علم بأسباب حرق محمد لنفسه * وقالت ليلى إن الرئيس بن علي زار شقيقها في المستشفى بعد أسبوع من قيامه بحرق نفسه، معبرة عن أسفها كون الرئيس بين من خلال أسئلته أنه لم يكن على علم بالأسباب التي دفعت «محمد» إلى حرق نفسه. وأضافت أن الرئيس وعدها وأمها بإرسال محمد إلى فرنسا ليخضع لعملية تجميل. بيد أنها وصفت اللقاء مع بن علي بأنه كان لقاء شكليا، يروم فقط أن يبين للرأي العام أن الرئيس التقى عائلة البوعزيزي. وزادت قائلة: «إنني على يقين أن الأمر بالنسبة لبن علي كان مجرد فأر احترق، واللقاء لم يدم أكثر من 10 دقائق». وعن الحالة التي كانت عليها أمها خلال لقاء بن علي، قالت ليلى إن والدتها كانت لا تزال تحت وطأة الصدمة. بن علي عن الشرطية التي صفعت البوعزيزي: هذه امرأة بلطجية * وأوضحت أم محمد أنها حينما وجدت نفسها وجها لوجه مع الرئيس بن علي لم تحس بأي شيء، مشيرة إلى أنها كانت تقول في قرارة نفسها: «لو قام بواجبه على أحسن وجه لما مات ابني». وأضافت أنها قالت للرئيس بن علي «أريد أن تلقى الشرطية فادية حمدي التي صفعت ابني جزاءها». فقال لها الرئيس: «أنا لا أعرفها». فردت عليه بالقول: «كيف لا تعرفها وأنت رئيس دولة؟». آنذاك نادى الرئيس على أحد مستشاريه وسأله من تكون فادية هذه؟ فقال له إنها توجد رهن الاعتقال. فقال الرئيس في محاولة لتهدئتي: «هذه امرأة بلطجية». آنذاك، تضيف أم محمد، قالت ليلى «كيف يعقل سيدي الرئيس أن لا يكون في علمك كل ما جرى، الدنيا تأكل بعضها، وأخي موجود في المستشفى، وأنت تقول إنك لست على علم بما جرى؟». فكان رده عليها: «سأتكفل بمحمد وسأرسله إلى فرنسا لمتابعة العلاج والخضوع لعملية تجميل». وروت أم محمد للرئيس بن علي بحرقة المضايقات المتواصلة التي تعرض لها ابنها، ضمنها السطو على الخضراوات والفواكه، التي يبيعها في عربته، ورغم ذلك فهو لم يكن يأبه بما يلاقيه من تعسف، لأنه كان يفضل أن يتم السطو على بضاعته من طرف موظفي البلدية على أن يقدم الرشوة لهم، نظرا لأن ما يحصل عليه من مدخول كان يخصصه لضمان قوت إخوته وتكاليف دراستهم. ونسأل ليلى عن الإحساس الذي انتابها أثناء اللقاء مع الرئيس بن علي، فتقول: لما وجدت نفسي واقفة أمامه لم أحس أنه رئيس للجمهورية، مشيرة إلى أن شخص الرئيس مفروض فيه أن يكون حريصا على أن يتمتع شعبه بحقوقه، والحفاظ على كرامته، ويحس بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه. فالرئيس ليس مجرد اسم، إنه مسؤولية. وتتكون عائلة البوعزيزي من أربعة أولاد وثلاث بنات. وتقول ليلى إن محمد، 26 سنة، رغم أنه كان واسطة العقد فإنه كان رب العائلة بامتياز، نظرا لأنه قام مقام أخيه الأكبر سالم الذي تزوج وانتقل إلى الإقامة في مدينة صفاقص منذ عام 1995. لقد تحمل محمد، وهو من مواليد 29 مارس (آذار) 1984، الذي يصادف الاحتفال بيوم الأرض، المسؤولية منذ صغره، وكان الغناء في فرح العائلة، والعزاء في أحزانها. اسمه الحقيقي في بطاقة الهوية هو «طارق»، وتطلق عليه العائلة وأحباؤه لقب «بسبوس» لأنه كان حنونا ومحبوبا من كل أفراد العائلة، ولأنه أيضا ضحى بدراسته الجامعية للإنفاق على شقيقته ليلى أثناء دراستها في كلية الآداب ولإعالة أمه وباقي أفراد عائلته البسيطة والفقيرة، التي لا تملك سوى قوتها اليومي. في العاشرة ليلا من كل يوم يذهب محمد إلى السوق المركزية، ويظل هناك حتى الثالثة صباحا من أجل اقتناء الخضراوات والفواكه، ثم يتوجه إلى البيت للنوم بضع ساعات ليستيقظ في الثامنة صباحا حتى يحمل عربته بالبضاعة قبل أن ينطلق متوكلا على الله. هذا هو برنامج «البوعزيزي»، تقول أخته ليلى. وأضافت: «صباح يوم الحادث كان مزاجه رائقا، والابتسامة لا تفارق محياه كعادته، رغم صروف الدهر وقساوة الحياة. وحده الصبر رفيقه، لكن للصبر حدود». وزادت ليلى قائلة إن ما أقدم عليه شقيقها «راجع إلى إحساسه العميق بالمس بكرامته». في سيدي بوزيد يقولون: من تضربه امرأة نلبسه فستانا * بدأت قصة حرق محمد لنفسه، تقول ليلى، حينما صادر موظفو البلدية بضاعته فاتصل بخاله الصيدلاني مستنجدا به، وتدخل خاله واسترجع له بضاعته المحجوزة لكن بعد مرور 10 دقائق عاد موظفو البلدية ضمنهم الشرطية فادية حمدي، وصادروا بضاعته من جديد، وحينما حاول محمد الحديث مع الشرطية، كان ردها صفعة قوية على خده، بينما سدد له مساعدها المسمى «صابر» ركلات، قبل أن يوجه له لكمة على أنفه جعلت دمه يتدفق. في تلك اللحظة، تقول ليلى، توجه إلى مقر البلدية للقاء وكيل البلدية المسؤول عن الشرطية فادية ومساعدها صابر ليشكو له تصرفاتهما المشينة معه لكن وكيل البلدية لم يبال به، وأسمعه كلاما مسيئا. فلجأ محمد إلى المحافظ فرفض بدوره استقباله، والاستماع إلى شكواه، فخرج إلى الشارع وهو يحترق في دواخله، صارخا من شدة الحنق والغيظ. آنذاك أخرج قنينة بنزين وسكبها على جسده، وأشعل النار في نفسه احتجاجا على الحط من كرامته، ففي منطقة سيدي بوزيد يردد الناس مثلا يقول «من تضربه إمرأة نلبسه فستانا». ولا تخفي ليلى فخرها بأن شقيقها كان وراء تنحي الرئيس بن علي وهروبه، واندلاع الثورة، وكشف الفساد والمفسدين، إضافة إلى تكسير حاجز الخوف عند الحديث عن الوضع السياسي في البلاد، فثمة حرية غير مسبوقة يرفل فيها الشعب التونسي. سالم البوعزيزي: لا نريد ثأرا.. وعلى الدولة أن تأخذ لنا حقنا * يقول سالم ل«الشرق الأوسط» إن عائلته لا تريد الثأر، وكل ما تتمناه هو أن تأخذ الدولة لها حقها، لأنه من المؤلم رؤية بعض المسؤولين، الذين تعسفوا مع شقيقه، أحرارا طلقاء دون أن يطالهم قصاص. وشدد على القول أنه إذا لم تقم الدولة بذلك فإن العائلة ستلجأ إلى القضاء الدولي، وستشكل لجنة دولية بشأن ذلك. ولم يحل دون مواصلة سالم كلامه سوى صوت أمه المفعم بالأسى والشجن: أريد أن آخذ حق ولدي في أقرب وقت.. سأتابع كل المتورطين فيما أصاب ولدي أمام القضاء». صديق: البوعزيزي كان مرحا ومحبوبا لدى الجميع * شوقي ناصر، صديق محمد البوعزيزي الحميم، وشريكه في تجارته، لا يفترق عن عائلة البوعزيزي أينما حلت وارتحلت. جاء معها إلى تونس العاصمة. وتحدث ل«الشرق الأوسط»، وفي نبرته حزن عميق. وقال إنه يوم وقوع الحادث كان في عطلة حينما تلقى مكالمة هاتفية من ابن خالة محمد يخبره فيها بأن هذا الأخير وقعت له مشكلة مع البلدية، وتمت مصادرة سلعته. وأضاف أنه توجه في الحين إلى حيث يوجد محمد، مشيرا إلى أن وجهه لم يكن عاديا، كان أزرق اللون، وكان الحنق والغضب باديين عليه. سألته عما حدث، يقول ناصر، فكان رد محمد: «لقد ضربوني وأهانوني، وأسمعوني كلاما نابيا، وصادروا نصف بضاعتي». ولم يكن أمامي فعل شيء، يضيف ناصر، سوى تهدئته، بيد أنه سرعان ما قام مغادرا باتجاه مقر بلدية سيدي بوزيد لاسترجاع بضاعته، ورافقته أنا وصديق مشترك. بيد أن أحدا لم يأبه بشكواه. فيمم وجهته صوب مقر المحافظة، وهناك صرخ بصوت عال، فلم يأبه له أحد أيضا، فصعد فوق عربته وأخرج قنينة بنزين، وصبه على جسده ثم أشعل قداحة، وسرت النار في جسده مثلما تسري في الهشيم. بينما أسرعت أنا وبعض المحيطين به إلى إخماد النار المشتعلة في جسده، واستنجدنا بقنينة إطفاء حريق كانت مثبتة في جدار، فوجدناها فارغة، ولم يكن أمامنا لإيقاف لهيب النار سوى استعمال معاطفنا. وحينما خمدت النار رفع محمد إصبعه للفوق، وألححنا عليه أن ينطق بالشهادة، وقبل أن ينبس بكلمة، خرج من فمه دم، ليدخل في غيبوبة لم تتوقف إلا بوفاته يوم 4 يناير (كانون الثاني) الماضي. وروى ناصر ل«الشرق الأوسط» تفاصيل الليلة الأخيرة التي شاهد فيها صديقه الراحل. وقال «في تلك الليلة ذهبنا كعادتنا إلى السوق المركزية في الساعة العاشرة مساء، وبقينا هناك حتى الساعة الثالثة صباحا، وكنا ننكت ونلعب ورق اللعب في انتظار وصول الخضراوات والفواكه». ويضيف ناصر أن روح محمد كانت مرحة، وأنه كان محبوبا لدى الجميع في سيدي بوزيد، ولا يرد طلبا لمن يقصده من أجل مساعدة أو سلفة رغم أنه بدوره كان يعاني من ضنك الحياة. أم محمد: حياته معاناة متواصلة * تستمع أم محمد إلى حديث صديق ابنها، بعينين دامعتين، وتقول بألم وحسرة: «توفي والد محمد وهو في ربيعه الثالث، فتح عينيه علي، كنت الأم والأب معا». وزادت قائلة «تعب محمد منذ صغره. منذ ربيعه السادس، وهو يدرس ويعمل. وحينما يعود إلى البيت كل مساء كان يسلمني ما يحصل عليه من رزق، ويقول: «هذا مصروف البيت وتكاليف دراسة إخوتي». ووصفت أم محمد حياة ابنها بأنها «معاناة متواصلة»، وقالت «في الشتاء كان يعاني من برودة الشارع، وفي الصيف يعاني من حمأة القيظ»، قبل أن تضيف أن محمد ظل على امتداد سبع سنوات، وهو يدفع عربة الخضر متجولا في شوارع وأزقة سيدي بوزيد، وهي عربة ورثها عن والده المتوفى، الذي كان أيضا بائعا للخضراوات والفواكه. وأشارت منوبية إلى أن محمد واصل دراسته حتى الثانوية العامة، ولم تدم دراسته في هذه المرحلة سوى ثلاثة أشهر، مبرزة أنه ضحى بدراسته من أجل أن يواصل أشقاؤه وشقيقاته دراستهم. وأضافت أن محمد كان يحلم بشراء سيارة تساعده في عمله. لكن حلمه لم يتحقق. لم يتحدث محمد أبدا بعد الحادث، وهو ما شكل غصة في حلق وصدر أمه، لقد ظل مدة 19 يوما خاضعا لعملية التنفس الاصطناعي، كان مثل جثة هامدة تصارع الزمن من أجل الحياة. وإذا كانت الأم منوبية، رغم تقديرها لجميع من تعاطفوا معها، لا يهمها ما يتردد خارج بيتها، ولسان حالها: ابني احترق واحترقت معه.. لقد انطفأت شمعة داري. فإن «بسبوس» رحل عن هذه الدنيا، ولم يدر بخلده قط أن إحراقه لنفسه سيكون حدثا يغير تاريخ بلاده، وأنه سيصبح رمزا للمظلومين والمضطهدين في كل البقاع، فاتحا بذلك الباب أمام عواصف التغيير والتحرر هنا وهناك.