" إنه مثل حمامة نوح، التي عادت إلى السفينة تحمل الغصن الصغير، يعلن أن طوفانا بدأ يتقهقر، وأن أراضي جديدة تظهر، والعروي يستحق، ولا شك، المكافأة التي كان الشرق السامي القديم يعد بها الرسول العائد بأخبار طيبة ". مكسيم رودنسون، في تقديمه للأيديولوجية العربية المعاصرة " كاذب أو منافق من يدعي أنه يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللآهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي. كل منا حسب وضعه الاجتماعي وتربيته الأولية، يوالي الدعوة أو يعاديها تلقائيا، ثم بعد حين، بعد التفكير والتروي، يميل إلى الاعتدال والنقاش الهادئ." عبد الله العروي، من ديوان السياسة لست أدعي امتلاك أي خبرة رصينة في عالم الجوائز، أتتبع أخبارها ونسب توزيعها ومعايير استحقاقها إلى غير ذلك من أمور التتويج. غير أن شغفا ما بالمسألة استبد بي منذ التكريس البريء لتلميذ سبعيني خجول. منذ أن شكل رفض سارتر لجائزة نوبل مثلا موضوع نقاشات ساخنة وجد مثمرة في الثانوية، ساهمت في إثرائها بما أوتيت من المعلومات ومن الحماس... كما ساد نفس النقاش ساحاتنا الثقافية التلميذية والجامعية، وبنفس الحرارة، لما تسلم الجائزة المجيدة لعربي لأول مرة. ورغم القيمة الفنية للكاتب الكبير نجيب محفوظ، فقد أثير التساؤل حول استحقاقها القبلي والبعدي من طرف أدباء آخرين، لا يقلون أصالة مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم من المصريين، ولم يطف من غير المصريين على صفحات النقاش غير الفيلسوف المغربي محمد الحبابي، أما أدونيس بعد ذلك فقصة أخرى... كما أثير آنذاك التساؤل أيضا حول الأسلوب الهادئ وطبيعة الشخوص المحفوظية وقاماتها المتوسطة وسلوكها المهادن إن لم ليكن فيه نوع من السلبية. هل الأمر وصف لمقتضى حال العرب، أم شيء ما جعل العقل الغربي الاستراتيجي يرضى عن فنان كبير لم يشغل باله غير القاهرة وحاراتها، وفي مسافة مرمى حجر توجد القضية الفلسطينية بحجم المأساة... لن أغوص في الأمر لأنه ليس موضوع المقالة، فقط هي أسباب النزول وعادات التدبيج اقتضت ذلك. ورغم عدم تبحري في الشأن الجوائزي أبيح لنفسي تلمس شروط استحقاق نوبل انطلاقا من استقراء سير المتوجين. من بين ما يأخذه المكرسون السويديون بعين الاعتبار لاختيار الرجل المناسب أو المرأة المناسبة، خاصة بالنسبة لصنف الآداب، ودون احتساب الفائدة المادية أو المعنوية للبشرية، تعتبر العالمية والمحلية والأدبية وامتلاك أسلوب أصيل والالتزام بقضايا الناس من بين المزايا التي لا يمكن القفز عليها ، فهل هذه الشروط متوفرة في سيرة أديب مثل عبد الله العروي؟ هذا ما أحاول تبيانه، بشكل مركز وباختصار شديد أتمنى ألا يكون مغامرة مجحفة في حق معاني ودلالات مشروع بضخامة وعمق مشروع الأستاذ عبد لله العروي. عندما نفحص بدايات الرجل نجد أطروحته الأيديولوجيا العربية المعاصرة تشكل بمفردها حدثا استثنائيا يؤسس لقطيعة معرفية حاسمة مع التراث الفكري العربي برمته مضامين ومقاربة، قطيعة طمحت إلى وضع الثقافة العربية ضمن الكونية مفاهيم ومنهجية، وذلك بتوظيف التفلسف بغير معناه النسقي والتشخيص والتشريح السوسيولوجيين بمعناهما المقارب ، رغم تصريحه بالاشتغال على هامش الفلسفة وعلوم الإنسان، والأمر مفهوم بكون الأستاذ لا يبحث في بناء صرح فلسفي متكامل البنيان احترافا، كما أنه لا يشتغل بالمونوغرافية السوسيولوجية وفق الملاءمة والمعيارية الأكاديمية. ورغم ذلك فما كان ليكون هناك شأن لمشروع العروي برمته، ونفس الشيء بالنسبة لمحمد أركون ومحمد عابد الجابري، لولا استضماره الثورة الإبستمولوجية للعلوم الإنسانية وأثرها على الفلسفة والفكر برمته في القرن العشرين، ومازالت أثارها تتسع وتنبئ بفتوحات سيكون لها شأن في تصور الإنسان لنفسه وللكون. لقد شكل كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة قطيعة ابستمولوجية بالمعنى البشلاري للقطيعة مع الكتابات والدعوات السابقة سواء في المشرق أو في المغرب العربي. لقد قطعت مع طه حسين، رغم أصالة فكره، و مع جميع الدعوات التنويرية منذ الكواكبي وعبده والأفغاني مرورا بعبد الرازق والطهطاوي وخير الدين التونسي وعلال الفاسي، رغم الأهمية القصوى لكل هذه المشاريع أصالة وغايات. أين تتجلى هذه القطيعة؟ صحيح أن الأطروحة دعوة مثل جميع الدعوات، لكنها ليست دعوة بلاغة وإنما هي ولأول مرة، رغم أن طه حسين حاول شيئا من ذلك التميز بالتسلح بمناهج العلوم الإنسانية أيضا، دعوة تشريح وتحليل، وبذلك تجاوز العروي منطق الدعوة المحض إلى دعوة المنطق، منطق السياقات والتاريخ، من جهة، كما تجاوز البحث الأكاديمي الصرف الذي يكتفي غالبا بأن ينضاف إلى التراكم العلمي دون أن يحدث في تقدم المجتمع أثرا من جهة ثانية. وهي قطيعة غير منهجية فحسب بل وفي الموضوع أيضا، بمعنى ضرورة تجاوز التراث رمة ليسا كأسلوب تفكير بل معرفيا وذلك كسلفية تأصيلية لا تفعل إلا على التوليد والتكوثر في أحسن الحالات... لقد فهم الأستاذ ضرورة النقد المزدوج، ليس بمفهوم الخطيبي، إنما بمفهوم طبيعة علوم التاريخ التي يجب اعتبارها علوما مثل جميع العلوم، لكنها علوم بطريقتها الخاصة، علوم التأويل الإمبريقي بتعبير السوسيولوجي الفرنسي كلود باسرون، علوم يجب أن ترقي الحس المشترك بتعبير السوسيولوجي الإنجليزي أونطوني غيدنز. لأن الباحث هنا عالم وفاعل اجتماعي بمفهوم السوسيولوجي الفرنسي لوك بولتونسكي... ومن هنا أهمية المنهاج التاريخي الذي يضع الأحداث والوقائع وحتى الأفكار في سياقات دقيقة تهبها الدلالة والمقروئية، حتى لا يصبح العقل لاعقلا عندما يشتغل خارج السياق بتعبير الأستاذ، وهو الأسلوب الأقرب في تقديرنا لأسلبوب فوكو رغم الاختلاف في اختيار التيمات، يختار فوكو الهوامش ويفضل العروي المراكز. ولقد سارت على نفس الدرب الطروحاتي والدعوي أعمال أخرى رائدة له لا تقل أهمية مثل العرب والفكر التاريخي وأزمة المثقفين العرب وثقافتنا في ضوء التاريخ...و هي كلها نوع من وضع المعالم في طريق الفهم من أجل التجاوز والاستشراف دحضا لخصوصيات الهوية الوهمية، وهو الأمر الذي سينصف ذات يوم مهما بدت الوقائع عنيدة اليوم خاصة في ما نشهده من عودة كل أنواع الأصوليات البئيسة. غير أنه ولما أحس بكثير من اللبس الذي ولد كثيرا من عدم الفهم حول مشروعه، اقتنع بأن الدعوة لن تؤتي ثمارها دون آليات تساعد على الفهم وتأخذ بيد القارئ. لما أحس ذلك أنشأ ترسانة بيداغوجية من المفاهيم المحورية مثل الحرية والأدلوجة والعقل والتاريخ. وقد كانت المقاربة مرة أخرى ثرية وعملت على البحث والتشريح لفهم الأفكار في سياقاتها المتحركة والمتحولة ككل شيء في عالم الزوال، وهي بيداغوجيا مازالت جد نافعة في عالم مهدد بالدوغمائية والديماغوجية، بيداغوجيا تشد الذهن وتفتح الوعي برياضة يقظة ما أحوجنا اليوم إليها كتربية ذكاء أرقى من أي ذكاء تقني صوري. العروي أيضا مناضل محلي بل وذاتي، دون تحميل الذاتية غير نفعيتها الإبستمولوجية، réflexivité، محلي وذاتي في الغربة واليتيم وفي الرائعة أوراق والفريق وغيلة وغيرها من التحف الروائية التي تضع الأصبع على الجراح وعلى الذات الجماعية المغلولة وعلى غربة المتوحد، وذلك كله بطعم الفاجعة وفق الزمن الدائري المستبد بالتلابيب. ولم يكن العروي متطفلا على الأدب ولا متكلفا رغم منطق عميق وهادف يخترق السرد ويختار الشخوص والأماكن والأحداث بحس المؤرخ، لكن وبحدس المعرفة الممتعة بل ومن الرومانسية والحنين. تجلت المحلية أيضا في محاولته الرائدة في وضع مجلد واحد لتركيب تاريخ المغرب من العصر القديم، وذلك حتى ينير زوايا معتمة من تاريخنا بالإيضاح والإبراز تارة وبالوقوف عند مفاصل ذلك التاريخ تارات، وكذلك بغير قليل من التحقيق والتصحيح والنقد والتدقيق والتوثيق... وتجلت المحلية مرة أخرى وبعمق في أطروحته الثانية، الجذور الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، كتمرين أكاديمي رصين ركز على خصوصيات المجتمع المغربي اجتماعا واقتصادا وسياسة وثقافة، مرافعا ضد الاستشراق وطروحاته المغرضة ومقدما أسلوب فهم جديد يمتح من مناهج العلوم الإنسانية دون عقدة نقص. لقد جاءت الأطروحة تشريحا دقيقا لمكونات المجتمع المغربي التقليدي من مخزن وقبيلة وزاوية وسوق وغير ذلك من القضايا التي تدخل سوسيولوجيا ضمن البنيات الاجتماعية. ويمكن اعتبار الأطروحة تمرينا بيداغوجيا يمكن أن يدرس كنموذج للدكتوراة المتميزة والتي لا ينافسها في هذا المجال غير البنيات "الاجتماعية للأطلس الكبير" لصاحبه جاك بيرك و"حاوز مراكش" لبول باسكون. مع اشتداد الأصولية كان لابد من العودة إلى الجينيالوجيا، وجاء مؤلف السنة والإصلاح، الكتاب الذي بمفرده لو أمعنا النظر لاعتبرناه تحليلا نفسيا للذات الدينية. صحيح أنه غلب التلميح على التصريح، لكن فيه ما يكفي من العظات والعبر لإعادة قراءة الذات قراءة تحترم المعتقد كمعتقد وميل، مع اعتبار دنيوية أي معتقد لما يحتك بالمجتمع والتاريخ والرهانات واللغة. ورغم وعيه بأهمية المنهاج الأنثربولوجي، يمكن أن نعاتب الأستاذ الكبير على إهمال ، ربما أملاه نوع من المذهبية السياقية، والتي أصبحت متجاوزة منهجيا الآن، تجلى في التوجه نحو المعرفة العالمة وإغفال الثقافة الشعبية، الأمازيغية خاصة، رغم اهتمامه الشديد بتحليل الشعارات والتعبيرات الصحافية، لكونها فيما يبدو مؤشرات بالمعنى السوسيولوجي للقاع السياسي الذي يهم كل داعية، ورغم أيضا بعض الانتباه المتأخر و المقتضب جدا إلى المسألة الأمازيغية، لكن كبوات الفحول لا تفسد أصالتها. لكن يبدو أن مجهودا كبيرا مثل مجهود السنة والإصلاح يحتاج ربما إلى زمن لنقدره ولنقدر أيضا على القطيعة بين الميل الوجداني والروابط العينية الملائمة القابلة لأي دراسة مثل أي واقعة موضوعية قابلة للفهم. نحن بحاجة ليس للزمن فحسب بل ولمجهودات بيداغوجية وثقافية تنقلنا من التلقي الساذج للمعتقد، والذي في آخر المطاف لا يحترم هذا المعتقد نفسه لما يدافع عنه بالتعصب الطفولي. السنة والإصلاح يساعدنا على الاقتراب من الحضارة والابتعاد عن الهمجية. وبعد كل ما سبق جاءت الشهادات كتعبير عن الحس بالمسؤولية ليس بالمعنى السياسوي الساذج، بل بالمعنى المواطن داخل المدينة التي يساهم كل واحد في بنائها نحو عقلانية الروابط والعلاقات، وحول توسيع مجال الحريات والاحترام المتبادل. شهادات أرخت للحظات حرجة أحيانا ويومية أحيانا أخرى، بأسلوب الملاحظ الواصف اللبيب والمنمذج تفسيرا واستشرافا يتجاوز اللحظة والحدث نحو رسم الصيرورات والمسارات. وبين الحين والآخر يتحفنا العروي بترجمات لعقول فذة لا يمكن لمن يريد أن يفهم الحداثة والتوجه الإنساني أن يتجاهلها، عقول مثل جون جاك روسو أو مونتسكيو أو مونترلان، ودوما بتبرير هادف نحو الفهم وتوسيع دائرة الحرية والتسامح كقيم عليا لا يمكن بدونها إلا أن نسقط في حروب التعصبات وليس الحضارات، لأن الحضارات الحقيقية، ومنذ التوجه الإنساني، لا تتحارب إنما تتعاضد ويقتبس بعضها بعضا نحو خير البشر أجمعين. صحيح أن هناك مساهمات من نفس حجم مساهمة الأستاذ عبد لله العروي تستحق التنويه، ونستحضر هنا مساهمة محمد عابد الجابري. غير أن عناد العروي وزهده وعفته وطول نفسه تجبرنا الآن أن نقيم له تمثالا وأن نهبه البشرى في زمن رديء يتشبه به كل شيء بكل شيء، زمن طغت فيه النجومية بأنواعها حداثوية وتقليدانية تقود حضارة كريمة ذكية شاء التاريخ أن تنتكس وترتد في سلم الإنسانية نحو الجهل والجمود على الموجود بتعبير المعلم الكبير. هل ننتظر أن يمر العروي بجنبنا صامتا كما مر قبله الجابري؟ أن يحتفى بمثل هذا المفكر سيكرس كرم المحتفي وكرم المحتفى به اعترافا بالاثنين، لأن حضارة تستطيع أن تنجب النجباء لا يمكن سوى أن تكون حضارة كريمة ونجيبة، حضارة تستطيع أن تزيل عنها غبار الغباء ذات يوم عندما يصبح العلم مثل الماء والهواء بتعبير طه حسين. أخيرا وليس آخرا لنتأمل ماذا سيربح المغرب لو توج العروي نوبلا؟