الجسد ، الغائب الأكبر في الشعر العربي : ظل الجسد، لعدة قرون موضوعا مسكوتا عنه، لاعتبارات دينية واجتماعية، في مجمل الثقافات العالمية والعربية الإسلامية بوجه خاص، ولم يلاق من الاهتمام ما يناسب مكانته الحقيقية إلا لدى بعض المبدعين الحداثيين وبعض الفلاسفة والمتصوفة الذين ربطوا بينه وبين الدلالة اللغوية لفعل «تجسد».ومنذ ذلك الحين أصبح الجسد مثار عناية واهتمام في تأليف بعض الشعراء، حتى إن بعضهم خصه بأجمل ما لديه من وصف وامتداح ، كما هو الشأن لدى الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي لقبه البعض بشاعر الجسد. وفي عصرنا الحالي نجد شاعرا آخر يحرص في قصائده على الرفع من قيمة الجسد، إنه الشاعر العربي الكبير أدونيس الذي ينهض الجسد في شعره بمهمة دال إيقاعي، وعنصر أساسي لا محيد عنه، فالنزعة الجسدية لدى أدونيس تسعى إلى استرداد الجسد من الهامش بكيفية مغايرة للاستعمال النزاري (نسبة إلى نزار القباني) وتعيد له الاعتبار من منظور حسي لا يلغي عامل اللذة والغبطة، لكنه لا يفتقر إلى العمق الصوفي.وقد ذهب ميرلوبونتي إلى أن الجسد «هو المنظومة الرمزية بامتياز للعالم. فهو لغة العالم، من خلاله نقرأ العالم فهو يمثل «شاشة» بيننا وبين الأشياء.وهو المرآة التي تعكس الموجودات من حولنا ، فلولا الجسد لما أمكن أن ندرك هذه الأشياء وهذا العالم».( ) بل إن الجسد في بعض المجتمعات أصبح موئل عبادة، وتم رفعه والتعالي به واتخاذه وسيلة للخلاص، ولم يعد مجرد قيمة جمالية. وتتباين وجهات النظر إلى الجسد من حيث هو موضوع للشهوة ومصدر للمتعة، ومن حيث أنه متن تعبيري كما تراه أمال قرامي في قولها إن «الجسد الأنثوي حامل للعلامات، معروض للملاحظة والمراقبة والعقاب. وهو موضوع للإدراك على كافة المستويات. كما أنه نص مفتوح على كل الاحتمالات الممكنة للتأويل. ومن ثم تتعدد الرؤى وزوايا الإبصار إلى هذا الجسد. فمنهم من لا يرى فيه إلا مواطن الجمال والسحر والغنج... ومنهم من يلفه العمى فيستقصي مواطن القبح والبشاعة والأذى... وبين الجسد الفتنة والجسد الإثم أجساد تتعدد صفاتها وتتنوع دلالتها».( )أما الفيلسوف الألماني نيتشه فإنه يؤكد على أن الحياة لا تكون ممكنة إلا بأجسادنا، وحقيقة الذات تكمن في حقيقة الجسد . تلك هي بعض الأسس النظرية التي يقوم عليها حضور الجسد في الفكر والاعتبار، فكيف إذن وظفت الشاعرة وفاء العمراني الجسد؟ وفي أية منزلة وضعته؟ وماذا رتبت له من أفرشة وصور بلاغية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما سيأتي. الاحتفال بالجسد: في قصائد وفاء العمراني يحضر الجسد بتمظهرات عديدة وتجليات متنوعة، فقد يكون الحضور كليا وماديا في بعض القصائد وحينها يكون له تمظهر شامل يستولي على كل ما سواه من شخصيات وأجواء، وقد يكون هذا الحضور جزئيا عبر تجليات واختفاءات يحقق فيها الجسد ذاته بحضوره العابر وغيابه الذي يجعلنا نتشوق إلى عودته كي يكون للقصيدة بهاء حقيقي، وفي حالات أخرى لا يحضر الجسد إلا من خلال بعض القرائن المرتبطة به: كالعطر والحلي وأكسسوارات أخرى. وفي كل الحالات يبقى الجسد سيدا في حضوره وغيابه. لكن كيف يحضر الجسد في ديوان «هيأت لك»؟ لا تستقيم الإجابة عن هذا التساؤل إلا من خلال الاستعانة باعترافات الشاعرة نفسها ومراهنتها على البوح بكل ما يختلج في صدرها، إن وفاء العمراني لا تخفي أي شيء، بل إن قصائدها تستمد قوتها وتفردها من هذا البوح نفسه، وبذلك استطاعت أن تحتفظ لموقعها الشعري بخصوصية الجهر بكل الشهوات: ليأتني الحصاد سأهيئ له قمحي( ) هل هناك جرأة رمزية أكثر من هذه؟ فالشاعرة هنا تفتح نفسها عن آخرها من أجل أن تستوفي شروط الرغبة حتى ولو تطلب ذلك التضحية بالذات كلها. ويمكن أن نذهب في التأويل بحثا عن دلالات الحصاد والقمح، وهذا ما يفضي بنا إلى تأكيد البعد الجسدي في اللغة، فالقمح يشير إلى العطاء الخير، أما الحصاد فرغم أنه يأخذ كل شيء فإن الشاعرة لا تهابه، عذرها في هذا السخاء المطلق كونها تبحث بالأساس عما يؤكد عمق شهواتها وصدق تفانيها في الإخلاص للمحبوب. لا معنى للوجود بدون جسد ولا معنى للجسد بدون اشتغال وتحد لكل الطابوهات، والتحدي لدى وفاء العمراني يخترق كل شيء، وقد يتمثل أحيانا في شكل حوار مع الطبيعة، فها هي ذي الشاعرة تتوسل إلى الشمس رمز النور والحياة كي ترحم رغبتها الجامحة: لطفا أيتها الشمس جسدي مشتعل بالتوهج( ) والغريب في الأمر أن الخطاب هنا لا يعكس في واقع الأمر تحديا من الشاعرة بقدر ما يثبت هشاشتها أمام جسدها النافر والمشتعل. بحيث تبدو ضعيفة في لحظات توهج الجسد على نحو يتجاوز قدراتها. ومن هذه المفارقة تنبع طبيعة الجسد كما تريده وفاء العمراني من حيث كونه حيا ومتحديا ولا شغل له أفضل من التوهج واللمعان، وكأننا هنا في هذا الحوار المستعطف إزاء شمسين: إحداهما تتوسل الأخرى في لحظة الانفراد بالاشتعال وإضاءة الكون. ولعل هذا التأويل يساعدنا على تقدير الحجم المحدد للجسد في هذا الديوان، دليلنا قول الشاعرة بما يشبه الحكمة: الجسد قبلة الرياح( ) هذا المقطع المكثف يقدم صورة وافية عن تمثلات الجسد وأشكال حضوره، وكيفية الاحتفال به من خلال جعله يحتل الصدارة ويجتاح فضاء القصائد بأساليب متعددة. فحضوره الأخطبوطي يؤكد بالفعل أنه النبع والمصب، ولذلك أشرنا إلى الطابع الحكمي لهذا الشطر الذي تشكل فيه كل لفظة فضاء مستقلا بذاته، غير أن الأولوية تظل دوما للجسد فهو غاية وقبلة لكل الأهواء/ الرياح.ومن بين التمظهرات التي يتخذها الجسد في «هيأت لك» امتداده الأسطوري في المكان والزمان. نقرأ مثلا: أبدا في الخارج أتناسخ الوقت إحدى رئتي رئتي الأخرى الأشياء. ( ) فالشاعرة هنا تحول العالم إلى مرتع لتبدلات الجسد وحلوله في قلب الأشياء، بحيث إنه يصير هو سيد الوقت، كلاهما يتنفس الآخر. وبذلك تتحقق العلاقة الحتمية بين الذات/الجسد والموضوع/ الخارج، كما أن البعد الفلسفي هنا واضح إلى أبعد حد بحكم أن الجسد يستطيع أن يتخذ أكثر من صورة وأن يكون له أكثر من تجل. وحين يلامس الشعر آفاق التأمل الفلسفي فإنه يتقوى ويتحرر من قوقعة اللغة، إذ تصير له رؤى فكرية توسع من مجال تحركه. وعلى نفس الخط تواصل الشاعرة إطلاق الجسد ومزجه بعناصر الطبيعة إلى درجة يبدو معها الجسد جزءا متداخلا في الطبيعة، وبها أيضا يكتمل وجوده ، حيث نجد في الديوان مثلا : ألوذ بعصفي ودائما، أهدأ من نجم أحلم بغايات ترتدي لوني أظافري وأفكاري( ) إن الشاعرة هنا تحلم بالالتحام الكلي بالطبيعة اقتداء بتلك النظرة البوذية التي تعتبر الإنسان جزءا لا يتجزأ من الطبيعة أو بالأحرى هو وجهها الآخر. وإذا ما حاولنا قراءة هذا المقطع قراءة مفصلة قائمة على محورية الجسد في النص الشعري لدى وفاء العمراني فإننا سنلاحظ أن ثمة رغبة ثابتة في جعل الجسد هو المحرك الأساسي للعلاقة الموجودة بينه وين العالم. فهو كيان جامع لكنه «أهدأ من نجم» وفي ظل هذه المفارقة يلوذ الجسد (الصوت الشعري) بالحلم، لكنه حلم يقع على مشارف الاستحالة وهي استحالة سرعان ما تتبدد بمنطق الشعر حيث تقيم الصور خارج المعقول والممكن. وإذا حاولنا أن نقترب قليلا من هذا المنطق القائم على المفارقة والخيال الجامح فإننا سنتوصل إلى فهم القصيدة الأساسية التي تتوخاها الشاعرة في رغبتها التناسخية والحلولية والجارفة. وهذا ما يستقرأ من المقطعين السابقين. بالجسد إذن تحيى القصيدة وبالكون يتنفس الجسد، وبهذا التزاوج بين الجسد والكون تتحقق وحدة عضوية متينة بين الرؤى الشعرية والصور البديعة. تقول وفاء العمراني: خطاي موج جميل وسواحلي مفتوحة على الفتك الأجمل( ) يا لها من رؤيا يتحول فيها الجسد إلى كيان هائل، يصير هو البحر وتصير خطاه أمواجا تنساب في سواحل مفتوحة على الفتك. غير أن وفاء العمراني لا تترك للقارئ فرصة للاستمتاع بهذه الحركة المائية الهادئة، بل إن شراستها الأنثوية المعهودة تقطع انسياب الموج على حين غرة كي تحول سواحلها إلى فضاء للبطش بكل ما لا يساير نزوات الجسد. وبين الموج الجميل والفتك الأجمل ينهض الجسد نهوضه الميثولوجي العجيب. لكنه نهوض غير مفضوح فنحن لا نكاد نتبين الجسد في هذا المقطع إلا من خلال تلك الحركة التي يلتبس فيها الخطو بحركة الموج وكذا من خلال تلك السواحل المفتوحة على الفتك. أما الدلالة الإيروتيكية للسواحل فإنها لا تحتاج إلى مزيد من التفصيل.ولذلك تظل قابلة للتأويل بناء على تيمة الاشتهاء التي تكاد تهيمن على مجموع الديوان. غير أن احتفال الشاعرة بالجسد لا يخلو من قلق تعبر عنه تساؤلاتها التي يتردد صداها من حين لآخر، كما يتجلى ذلك في هذا المقطع المصوغ بحيرة معذبة: ما بال الجسد موحش.. مني وشاغر كظهيرة الأحد؟!( ) هل هناك ما هو أقسى من أن تجتمع الوحشة والفراغ في نفس الإحساس، على نحو يذكر بتلك اللحظة الشبيهة بظهيرة الأحد؟ وهذه إشارة إلى انتهاء الأسبوع والإقبال الغامض على بداية أسبوع قد يكون حافلا بالمزيد من الوحشة والفراغ. إن الشاعرة لا تتردد في خلخلة الجسد خلخلة توقده من نرجسيته المستبدة عبر الانتقال من تقديس الجسد إلى تقديمه قربانا للمحبوب. تقول الشاعرة بنبرة تختزل الكثير من لواعج القلب : آه كم هو عذب زبيب تربتك يا عسل الروح وغمر الجسد... ( ) والسر في هذا الانتقال المفاجئ من عشق الذات إلى عشق الآخر يكمن في ذلك القلق الخفي الذي تعيشه الشاعرة، ولعلها تعثر في ذلك على ما يواسيها ويخفف من حرقة أيامها. لكن ما يثير الدهشة هنا هو أن الشاعرة تتحدث عن محبوبها وكأنها تتحدث عن نفسها محاولة أن تبحث لنفسها عن صنو يشبهها في كل شيء. ولعبة التناظر في ديوان «هيأت لك» هي اللازمة المضمرة التي تستأنس بها الشاعرة من قصيدة إلى أخرى لأن غايتها الأساسية هي الالتحام بالمحبوب حتى وإن تطلب منها الأمر الجهر بالغزل الأنثوي في حق الرجل على غير عادة نساء العرب، بل إن غزلها لا يتخفى خلف رمز أو كناية وإنما هو غزل مجسد بالصفات والكلمات كما هو واضح في المقطع السابق. وإلى جانب استحضار الجسد بكل تفاصيله في هذا الديوان نعثر بين الحين والآخر على تجليات أخرى يمرق فيها الجسد مروقا خاطفا لا يتبقى بعده سوى ما يشير إلى هذا المرور السريع مثلما يتجلى في المقطع التالي: سارية خارج حرب الغبار أنقر دروب الغيم الوريفة وأمضي أقرأ صمت الحلم وأتعلم كيف أشحذ للغته الآتي أوغل نبض المتاهات الخلاقة دليلي أحضنك، سلفا، أيها اللقاء لن يوقف نزيف صعودي صقيع ترى، هل أشبهك أيتها الريح؟!( ) هكذا تمر الشاعرة كسهم يمضي منطلقا كالريح في الفيافي، والحقيقة أننا حين نمعن النظر في هذا المقطع تكتمل لدينا الصورة التي وضعناها لعلاقة الشاعرة بالجسد (جسدها وجسد معشوقها) وارتباطها الحميم بالتيه والبحث عن أبعد الآفاق. إلا أن مأساة هذا الضياع وهذا التمزق الوجودي تتمثل في كون «الصوت الشعري» الذي يعلو ويخفت في القصائد هو صوت شبيه بعويل الريح ، ولذلك تتساءل الشاعرة بنوع من الاستفهام الإنكاري قائلة: ترى هل أشبهك أيتها الريح والجواب هنا واضح من خلال القرائن الرمزية المستعملة على امتداد صفحات الديوان والمعبر عنها ببعض العناصر الدالة على الترحال الدائم والتسكع في صحارى الذات وكثرة التساؤلات التي قلما توجد لها أجوبة شافية والشعور المتواصل بالغربة والانفصام عن الواقع والإحساس بنوع من الإحباط واليتم والظمأ المزمن، مما يجبرها على الذهاب من ضياع إلى آخر. هوامش : *) هيأت لك « شعر : وفاء العمراني – منشورات إفريقيا الشرق - المغرب -2002 - فلسفة الجسد والتفكير الإنساني، رؤية عربية، د. سيار الجميل، مجلة عالم الفكر، المجلد 37 العدد 4، أبريل / يونيو 2009. 2- الجسد الأنثوي والعلامة: قراءة في ما وراء العجب، أمال قرامي، 3 - الديوان، ص 12. 4 - الديوان، ص 23. 5 - الديوان: 24. 6- الديوان، ص 41. 7- الديوان، ص 47. 8- الديوان، ص 62. 9- الديوان: ص 70. 10- الديوان، ص 86 11 - الديوان: ص 53-54