ندوة ترثي المؤرخة لطيفة الكندوز    حريق جزئي في بناية 'دار النيابة' التاريخية بطنجة بسبب تماس كهربائي    انفجار نفق بسد المختار السوسي بضواحي تارودانت.. بعد مرور أكثر من 12 ساعة من الحادث لا زال 5 عمال مفقودين    رئيس كولومبيا يتخبط أمام ترامب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نشرة إنذارية: هبات رياح محليا قوية من 70 إلى 95 كلم/س بعدد من أقاليم الشمال    نادي الشارقة الإماراتي يعلن تعاقده مع اللاعب المغربي عادل تاعرابت    السنغال تبدأ تنفيذ مشروع أنبوب الغاز الرابط بين المغرب ونيجيريا    العيون تُعلن عاصمة للمجتمع المدني المغربي لسنة 2025    الكاف: أكثر من 90 بلدا سيتابعون قرعة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    جريمة تهز وزان: مقتل سيدة وإصابة شقيقتها في اعتداء دموي بالسلاح الأبيض    تأني الفتح يغلب استعجال الرجاء    الشرقاوي حبوب: تفكيك خلية إرهابية بمنطقة حد السوالم يندرج في إطار الجهود المبذولة للتصدي للخطر الإرهابي    المغرب يحقق سابقة تاريخية في كأس إفريقيا.. معسكرات تدريبية فاخرة لكل منتخب مشارك    وزارة التربية الوطنية تكشف خلاصات لقاءات العمل المشترك مع النقابات التعليمية    إحباط تهريب 200 كيلوغرام من الحشيش بميناء سبتة المحتلة    الدورة 35 لماراطون مراكش الدولي: العداء الكيني ألفونس كيغين كيبووت والإثيوبية تيرفي تسيغاي يفوزان باللقب    تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ومرفوضة فلسطينيا وعربيا.. ترامب يقترح ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى الدول العربية المجاورة    تراجع للدرهم أمام الأورو.. و4% نمو سنوي في الاحتياطيات    هذه خطة المغرب لتعزيز شراكته الاقتصادية مع الصين وتقليص العجز التجاري    المفوضية الأوروبية: الاتفاقيات الجوية بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا تشمل الصحراء    تقرير: المغرب يواجه عام 2025 بتطلعات متفائلة مدعومة بالتعاون الاقتصادي مع الخليج وأوروبا    الشرقاوي: تفكيك الخلية الإرهابية بحد السوالم يندرج في إطار التصدي للخطر الإرهابي    غرق بحار ونجاة أربعة آخرين بعد انقلاب قارب صيد بساحل العرائش    الملك محمد السادس يهنئ الحاكمة العامة لكومنولث أستراليا بمناسبة العيد الوطني لبلادها    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    "كاف": الركراكي مطالب بالتتويج    15 قتيلا بنيران إسرائيل بجنوب لبنان    ريدوان وحاتم عمور وجيمس طاقم تنشيط حفل قرعة كأس أمم إفريقيا    بعد نجاحه مع نشيد ريال مدريد.. ريدوان يستعد لإطلاق أغنية خاصة ب"أسود الأطلس"    تفكيك "شبكة حريڭ" باستخدام عقود عمل مزورة    كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم: الكشف عن الشعار الرسمي للبطولة    تفشي مرض الحصبة في المغرب.. الوضع يتفاقم والسلطات تتحرك لمواجهة اتساع رقعة انتشاره    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليم شفشاون    وزارة التجهيز والماء تطلق ورشات تشاورية لتثمين الملك العمومي البحري    الطماطم المغربية تغزو الأسواق الأوروبية أمام تراجع إسبانيا وهولندا    جمعوية: الكلاب المتخلى عنها الأخطر على المواطنين مقارنة بالضالة    المغرب حاضر بقوة في المعرض الدولي للسياحة في مدريد    أساتذة "الزنزانة 10" يحتجون بالرباط‬    رحلة مؤثر بريطاني شهير اكتشف سحر المغرب وأعلن إسلامه    شبكة صحية تنتقد الفشل في التصدي ل"بوحمرون" وتدعو لإعلان حالة طوارئ صحية    المحكمة الكورية ترفض طلب تمديد اعتقال الرئيس المعزول    الصين: ارتفاع الإيرادات المالية بنسبة 1,3 بالمائة في 2024    أخنوش أصبح يتحرك في المجالات الملكية مستبقا انتخابات 2026.. (صور)    الجزائر تتجه نحو "القطيعة" مع الفرنسية.. مشروع قانون لإلغائها من الجريدة الرسمية    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتقادم والمتجدد في الاشتراكية الديموقراطية

هذا النص لتوني جوديت الذي نقدمه مترجما في ثلاث حلقات لقراء الجريدة حول »المتقادم والمتجدد في الاشتراكية الديموقراطية« ،يستعيد بشكل سلس ومكثف أجواء النقاش العام الذي عرفته الاوساط الفكرية والسياسية على امتداد السنتين الاخيرتين على إثر الازمة المالية العاتية التي تفجرت في كبريات البلدان الغربية خريف سنة 2008، وأعادت مجددا الى الواجهة التفكير في ادوار الدولة ووظائفها ،لا فقط من حيث الضبط الاقتصادي ولكن كذلك وبالاساس على مستوى التحكيم والتوجيه الاجتماعي، وذلك طبعا بعد ان عصفت ايديولوجيا التفكيك بلا حدود - او كادت - بمدخرات عشرات الملايين من البسطاء من الناس.
النص أيضا إبحار في غاية الافادة في المياه الساخنة والمضطربة للقرن العشرين، ابحار في غاية الافادة في الملابسات الفكرية والايديولوجية، بل والمنطلقات الفلسفية التي قادت الى تبلور منظومة الاشتراكية الديموقراطية ودولة الرعاية الاجتماعية التي كانت اكبر انجاز سياسي - اجتماعي عرفه القرن.
يستعيد جوديت النقط الجوهرية في ذلك الصراع الشهير بين فريدريك هايك وجون ماينار كينز في موضوع دور الدولة ومدى ملاءمة ومشروعية تدخلها في المجال الاقتصادي. لقدا نتهى ذلك الخلاف بانتصار الاطروحة الكينزية واكتساحها الشامل، بحيث أضحت الكينزية في العمق وما يرافقها من اختيارات اقتصادية ورؤى اجتماعية بمثابة القاسم المشترك بين كل الديموقراطيات، الاشتراكية منها والليبرالية الاجتماعية الوسطية على حد سواء.
يبرز جوديت تلك المفارقة المتمثلة في ان نجاح دولة الرعاية الاجتماعية التي اصبحت جزءا من المشهد السياسي والاجتماعي العادي في الديموقراطيات الغربية هو في ذات الوقت السبب الرئيسي في تقليص النفوذ الايديولوجي للاشتراكية الديموقراطية ضمن الاقطار المتطورة! مؤكدا، والحالة هاته، ان الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية مدعوة الى التفكير بعمق في اعادة اكتشاف و تحديد دور الدولة، بعد ان خرجنا من قرن جعل فيه بعض »المصلحين« الاغراء قويا بجعل الدولة تسن بشكل دوغمائي ما يتوجب على الافراد القيام به و مالا يجب.
جوديت الذي يذكرنا بآفة الزمن الحالي المتمثلة في كون الاقتصاد والحساب الاقتصادي البارد صار محور الحياة الاجتماعية، يثير الانتباه الى العودة القوية اليوم للاتكافؤ وعودة الفكر الذي يمجد الغنى، وطغيان مشاعر الاحتقار ازاء الفقراء والمحتاجين والمستفيدين من المساعدات العمومية، بما يذكر بما كان قد رصده الروائي الكبير تشارلز ديكنز في رائعته اوليفر تويست في القرن التاسع عشر.
ينبه توني جوديت من المخاطر التي قد تترتب عن هدم تلك الحواجز الواقية التي بنتها دولة الرعاية الاجتماعية بعد جهد وعراك وتضحيات طويلة، حواجز واقية ضد الفقر والهشاشة، نقلت المساعدة العمومية من دائرة او منطوق الصدقة الى مفهوم حق المواطن، المعزز للكرامة والضامن للتماسك الاجتماعي. مؤكدا كذلك ان المردودية لا يمكنها ان تنفصل عن حساب الكلفة الاجتماعية، وأن هذه هي المعضلة الكبرى لليبرالية الطامحة الى الانفلات من كل ضبط كما اثبتت مجريات الازمة المالية الأخيرة.
ماذا بعد هذا؟
قد يكون نموذج دولة الرعاية الاجتماعية بالشكل الذي نظر له كينز في أربعينيات القرن الماضي ومورست مقتضياته في الميدان لعقود متلاحقة، قد يكون هذا النموذج منهكا بعض الشيء بفعل تطورات مجتمعية تثير الانتباه الى تحدياتها حتى الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية ذاتها، كما حدث خلال مؤتمر حزب العمال البريطاني صيف 2010، لكن ماذا عنا نحن في مجتمعاتنا العربية، التي تعيش على مستوى الاختيارات الاجتماعية الحاسمة ما يمكن ان نسميه بنموذج الدولة المتقاعسة (في مقابل نموذج دولة الرعاية الاجتماعية).
تذكرنا الهزات القائمة في العالم العربي على كل حال بأن لا مستقبل ممكنا لنموذج الدولة المتقاعسة.
عودة ظاهرة تمجيد الغنى
لماذا لا تتم إدانة هذا النوع من الإصلاحات، التي تم وضعها ?للتذكير- خلال حكم رئيس ديموقراطي؟ لماذا نبدو غير مبالين إزاء تفاقم هذه المشاعر الجديدة الموجهة صوب الفقراء؟ وعوض التفكير فيما يطرحه هذا الرجوع المدوي إلى ممارسات بداية الرأسمالية يبدو كما لو أننا تأقلمنا مع الوضع في إطار صمت توافقي، وهو سلوك يقع على طرفي نقيض مع سلوك الجيل أو الأجيال السابقة. لكن كما ذكرنا تولستوي ذات يوم «يبدو انه ليست هناك أية وضعية، كائنا ما كانت فظاعتها، لا ينتهي المرء إلى التأقلم معها، خصوصا إذا رأى أنها مقبولة من كل الناس حوله».
«إن هذا الاستعداد إلى تمجيد الأغنياء والأقوياء واحتقار الفقراء والموجودين في مقام متواضع- أو على الأقل تجاهلهم هو السبب الرئيسي المؤدي إلى تلويث مشاعرنا الأخلاقية»، وليس كاتب هذه السطور هو من يقول بذلك، إن القائل هو آدم سميث الذي اعتبر أن «وجود احتمال أن نمجد الغنى والأغنياء وأن تتبرم من الفقراء، احتمال أن نمجد النجاح ونذم الفشل»، هوæ أكبر خطر يهدد المجتمعات المركانتيلية التي تنبأ بقدومها.
والمثال الأبرز، الذي يكشف نوع المشاكل التي نواجهها، والتي قد يعتبرها البعض قضية تقنية بسيطة، يتعلق بمسلسل الخصوصة. فخلال الثلاثين سنة الأخيرة، مارست ايديوجيا الخوصصة تأثيرا كبيرا على عدد من صناع القرار على مستوى الحكومات الغربية وغير الغربية. لماذا؟ الجواب الأسرع والأسهل الذي يتبادر إلى الذهن هو انه في زمن الاكراهات المتعلقة بالأوضاع الموازناتية تبدو الخوصصة وسيلة لتوفير أموال واعتمادات إضافية : فإذا كانت الدولة تملك وتدير مشروعا عموميا ضعيف المردودية أو مرفقا عاما مكلفا ( محطة لتوليد الكهرباء، مصنعا للسيارات أو قطاعا للنقل عبر السكك الحديدية) فإنها، عبر الخصوصة تسعى إلى إلغاء هذه الأعباء عن كاهلها بتحويل ملكيتها إلى مشترين خواص. البيع يدر على الدولة أموالا بالطبع، وفي الوقت نفسه، فبانتقالها إلى القطاع الخاص، تصبح الخدمة أكثر فعالية وأكثر مساوقة لميكانيزمات ومعايير الربحية. الكل إذن يخرج مستفيدا من هذه العملية : تتحسن الخدمة، تتخلص الدولة من مرافق تدار بشكل سيء، يجني المستثمرون أرباحا فيما يستفيد القطاع العام من عائدات بيع المرافق المخوصصة.
هذا من الناحية النظرية الصرفة، أما من الناحية العملية فان الحكاية مختلفة تماما، فما لاحظناه خلال العقود الأخيرة أن المسؤولية العمومية ما انفكت تنتقل إلى القطاع الخاص دون أن تظهر انعكاسات ايجابية ملموسة على المجموعة الوطنية. والقصة هي كما يلي : إن معظم الأنشطة التي قدرت الحكومات أن هناك فائدة من نقلها إلى القطاع الخاص كانت تعرف عجزا على مستوى التسيير والربحية، تعلق الأمر بشركات السكك الحديدية، أو مناجم الفحم أو الخدمات البريدية أو المركبات الطاقية، حيث كان واضحا أن كلفة تمويلها وصيانتها اكبر بكثير مما يمكن انتظاره من عائداتها. وبسبب هذا الوضع، فان هذه الخيرات والمنشآت كانت قليلة الجاذبية بالنسبة للمستثمرين، لن يقدموا على شرائها إلا إذا قدمت لهم بتخفيضات قوية. لكن، حينما تبيع الدولة موجوداتها بثمن بخس، فان الجمهور هو الذي يمنى بخسارة في نهاية المطاف : لقد أبرزت بعض الإحصائيات انه خلال عمليات الخوصصة الضخمة لحكومة مارغريت تاتشر في بدايتها جرى تحديد أسعار جد منخفضة للمنشآت العمومية التي كانت معروضة للبيع، وبذلك تم نقل ما قيمته 14 مليار جنيه استرليني، أداها عمليا دافعوا الضرائب للمساهمين والمستثمرين الآخرين. والى هذا الحجم من الخسارة يجب أن نضيف ثلاثة مليار جنيه أخرى دفعت في شكل خدمات للايناك التي نظمت وأمنت عمليات الخوصصة.
وهكذا فان الدولة دفعت 17 مليار جنيه ( حولي 30 مليار دولار) للقطاع الخاص لتسهيل عملية بيع منشآت عمومية ما كان يمكن أن تجد من يشتريها لولا تلك الاعتمادات.
يتعلق الأمر، كما يمكن أن نرى، بأموال ضخمة، تعادل قيمتها الناتج الداخلي الخام لدول كالباراغواي أو البوسنة والهرسك. ومن الصعب أن لا نرى إن ذلك كان ابعد ما يكون عن الاستعمال المعقلن للموارد العمومية كما أن يحلو لمنظري الخوصصة الادعاء.
وهنا بالذات تطرح مسالة الوازع الأخلاقي، إن السبب الوحيد الذي يشجع المستثمرين الخواص على شراء المنشآت العمومية الضعيفة المردودية هو أنهم ينتظرون دائما من الدولة أن تقلص إلى أقصى الحدود من المخاطر بالنسبة لأرباحهم. وهكذا مثلا فبالنسبة لميترو الأنفاق في لندن، توصلت الشركات المشترية بما يكفي من الضمانات، تطمئنها بأنه مهما تطورت الأمور فإنها ستكون في مأمن من التعرض للخسائر، وهذا في حد ذاته ينسف من الأساس تلك الحجة الاقتصادية الكلاسيكية المبررة للخوصصة، الحجة القائلة بأن البحث عن الربح يشجع دائما الفعالية. وهكذا إذن نرى أن القطاع الخاص قد يعرف هو الأخر في سيره نفس ضعف المردودية الذي قد يعاني منه القطاع العام، ليست هنالك أية ضمانة طبيعية لعدم حدوث ذلك، لكن الإجراءات المتخذة تحيله إلى مرتع للربح وتجعل الدولة، في المقابل تتحمل مخاطر الخسائر.
معطى آخر، أكثر أهمية، ينسف هو الآخر اليقينيات الكاذبة لايديولوجيا الخوصصة، يمكن التعبير عنه كما يلي : نعم ما من شك في إن جزءا كبيرا من المنشات العمومية والخدمات التي تسعى الدولة إلى التخلص من أعبائها بخوصصتها هي منشآت وخدمات عادة ما تكون مدارة بشكل سيء : نقص في الكفاءة وفي الرسملة الاستثمارية، ولكن مع ذلك، وحتى مع وجود هذه العوائق، فان الخدمات البريدية، وخدمات النقل عبر السكك الحديدية ودور حضانة المسنين وإدارة السجون ستبقى تحت مسؤولية الدولة، حيث لا يمكن تفويتها بالكامل أو تعرضها لشره الأسواق، فهي بحكم خصائصها من نوع الخدمات التي لا بد أن يتكلف بها فاعل عمومي.
وهذا التوزيع نصف خاص، نصف عمومي، لمسؤوليات جماعية الطابع بالأساس، يعيدنا في الحقيقة إلى قضية قديمة : إن التصريح بالأجر، الذي يتقدم به الملزمون في الولايات المتحدة هو موضوع مراقبة، لكن رغم أن المصالح الحكومية هي الآمرة بالتقصي والمراقبة، فان الاحتمال الأكبر أن تلك المهام ستسند لشركة خاصة، وهذه الشركة ستقوم بمهامها بناء على عقد يربطها بالدولة، بنفس الصورة التي نجد بها خواصا يتولون القيام بمهام لضمان خدمات الأمن والنقل والدعم التقني لحساب واشنطن في العراق. وبنفس الصورة التي تقوم بها بريطانيا حاليا بإبرام عقود مع المقاولات الخاصة لضمان خدمات للمسننين في مراكز الإيواء، وهي المهمة التي كانت في اختصاص الدولة في السابق.
اضمحلال الدولة
إجمالا يبدو أن الحكومات تقوم بتفويض مسؤولياتها(في شكل وكالة من الباطن) لشركات خاصة تدعي أداء خدمات بصورة أفضل وبتكاليف أقل. ويذكرنا هذا، من بعض الوجوه بما كان يجري في القرن الثامن عشر، فالحكومات العصرية الأولى كانت تفتقد في الغالب إلى الوسائل الكافية التي تمكنها من استخلاص الضرائب وكانت تعهد للخواص القيام بهذه المهمة، وكان المقدمون لأكبر العروض هم الذين يحصلون على الترخيصات لهذه الغاية، وكانوا أحرارا- وفق الاتفاقات المبرمة- في الحفاظ على ما تبقى من الاستخلاصات بعد أداء المقادير المحددة للحكومات !- ومعنى هذا أن الحكومات، بشكل ما كانت تقوم بتخفيض مقادير العائدات الضريبية المحتملة لقاء الحصول المسبق على الأموال من لدن الخواص.
وفي فرنسا، بعد الثورة، تبين أن هذه الممارسة كانت تفتقد بالطبع إلى النجاعة والفعالية بشكل فضيع، فهي أولا كانت تنزع المصداقية عن الدولة التي يجري استبدالها في المخيلة العامة بخواص شرهين greedy، ثانيا تبين بوضوح أن الاعتماد على ذلك الأسلوب جعل العائدات تقل بكثير عما يمكن أن يدره على الدولة الاعتماد على إدارة ضريبية عمومية مدارة بشكل جيد. أضف إلى ذلك، وفي مقام ثالث، أن هذه الممارسة كانت دائما تثير حفيظة الملزمين. وفي الولايات المتحدة حاليا، نعيش شيئا ما وضعا مشابها لذلك : إدارة ضريبية تفتقد المصداقية وموارد عمومية غير مناسبة. الملزمون يبدون غير غاضبين، أو على الأقل إذا كانوا غاضبين فلأسباب أخرى لا علاقة لها بمعطى الخوصصة، ومع ذلك فان الإشكالات التي نعيشها تشبه ?بنيويا- ما كان موجودا في العهد القديم في فرنسا.
ما أشبه اليوم بالأمس، أي بالقرن الثامن عشر : فبتجريد الدولة من مسؤولياتها وقدراتها وصلاحياتها اضعفنا دورها العمومي، والنتيجة هي ظهور جماعات مخوصصة، تدعى «جماعات خلف الأبواب» gated communities بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ مجموعات ضمن المجتمع يروقها الإعلان عن استقلالها إزاء المجموعة الوطنية الواسعة وإدارتها وموظفيها العموميين : فالتعامل الحصري والأوحد أو الغالب مع الوكالات الخاصة يؤدي مع مرور الوقت إلى تذويب ونسف كل علاقة قد تربطنا بالقطاع العام وخفوت الشعور بحاجتنا إليه أصلا. ولا يعود بعد ذلك مهما، مع مرور الزمن التساؤل عما إذا كان القطاع الخاص يقوم بنفس المهام بشكل أكثر جودة أو أقل جودة، وبتكاليف أكبر أو أقل مما كان قائما حينما كانت الخدمات بيد القطاع العام، وبذلك يضعف الولاء للدولة وللفضاء العام ويتفكك بدواخلنا تدريجيا ذلك الوازع وتلك القيمة الأساسية التي تجعلنا نشعر بأننا نتقاسم مشتركا أساسيا مع مواطنينا.
والحقيقة أن السيدة تاتشر، وهي المنظرة لفكر وممارسة الخوصصة في الزمن الحديث بامتياز، هي التي قامت، بدقة، بتوصيف ذلك المسلسل التفكيكي، الذي ينتهي، كما أوضحنا إلى نسف الإحساس بالمشترك المجتمعي، حينما صرحت ذات يوم خلال الثمانينات قائلة «لا وجود لكيان اسمه المجتمع، هنالك فقط افراد، رجالا ونساء، وعائلات !!».
ويحق على ضوء هذا أن نتساءل بالطبع، إذا كان المجتمع ككيان جمعي غير موجود، وأن ما هو موجود هم الأفراد والدولة الحارسة، المراقبة من بعيد لأنشطة لا تتدخل إطلاقا فيها ولا تلعب بصددها أي دور فما الذي يعود يربطنا ببعضنا البعض؟ لقد أصبحنا نقبل الآن بوجود شرطة خاصة، وخدمات بريدية خاصة، ووكالات خاصة لتموين الدولة في زمن الحرب ووكالات أخرى من نفس الطينة، لقد قمنا بخوصصة مسؤوليات أساسية بدأت الدولة العصرية بممارستها وتحمل أعبائها في إطار تطور حاسم ابتدأ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ما الذي سيصلح كقاعدة التقاء بين الدولة والمجتمع؟ لن تكون هذه القاعدة، بكل تأكيد هي المجتمع، المجتمع الذي يجري تذويبه تحت ضغط الخوصصة وتحت عملية تفكيك كل ما له صلة بالقطاع العام والفضاء العام. لا نوجد بالطبع في وضعية يسهل فيها القول بان الدولة ستختفي، فحتى لو جردنا الدولة من كل مسؤولياتها في مجال الخدمات فستبقى موجودة كقوة مراقبة وجزر، لكن لن تكون هنالك لا مؤسسات ولا ولاءات وسيطة بين الدولة والأفراد، لن يبقى اثر لتلك الشبكة العنكبوتية من الخدمات والالتزامات المتبادلة التي تربط الأفراد ببعضهم في الفضاء العام الذي يتواجدون فيه بصفة جماعية. سنجد أنفسنا، والحالة هاته، أمام أفراد وشركات ووكالات خاصة تتصارع من اجل تحويل أجهزة الدولة لخدمة مصالحها. وهو سيناريو مرعب بكل المقاييس.
وليست النتائج المترتبة عن مثل هذا التحول بأحسن من تلك التي ترتبت عن ظواهر مماثلة عند ميلاد الدولة الحديثة، وفي الحاضر كما في الماضي تظل القناعة المؤكدة التي تتبلور في خضم هذه الاحتفالية الخوصصية، وفي تناقض معها، أن وجود أية مجموعة من الأفراد، وجودا فعليا، لا يمكن أن يستقيم بدون وجود مؤسسات مشتركة تدفع إلى بناء نسيج الدولة ?أو عادة بنائه- بالشكل الذي عرفناه في السابق.
والقول بإمكانية وجود صالح عام يتولى أساسا مضاعفة المصالح الخاصة بدا منذ البدء، قولا سخيفا وغير منطقي للنقاد الليبراليين الأوائل للرأسمالية الناشئة، وبحسب كلمات جون ستيوارت ميل فان «فكرة وجود مجتمع لا يقوم إلا على أساس مشاعر تتمخض عن مصالح مادية صرفة هي فكرة مقرفة حقا».
إعادة التفكير في دور الدولة
ما الذي ينبغي عمله إذن؟
يتوجب التفكير في دور الدولة. الدولة كتجسيد لمصالح اجتماعية وأهداف جماعية وكمؤتمنة على خيرات جماعية، فإذا لم نتمكن من أن نتعلم التفكير مجددا في شان الدولة وأدوارها فإننا لن نذهب بعيدا. لكن ما الذي يتوجب على الدولة القيام به على وجه التحديد؟ المؤكد، جوابا على هذا السؤال، أنه لا يجب على الدولة ? على الأقل- أن تقوم بنفس ما يقوم به الأفراد إذا لم يكن ذلك ضروريا. لقد كتب كينز في هذا الصدد، « يتوجب على الدولة أن لا تقوم بما يقوم به الأفراد بشكل أكثر أو أقل فعالية، على الدولة أن تقوم بما لا يقوم به الأفراد تماما» وبالنظر إلى مآسي القرن الماضي وكوارثه وتجاربه القاسية فإننا نعرف اليوم، على الأقل- أن هنالك أنشطة يتوجب أن لا تمارسها الدولة.
إن الحكي الذي قدمه القرن العشرون حول تطور الدولة التقدمية قام على أساس توازن هش، يحيل إلى نوع المبالغة في تصور قدرتنا نحن، وطموحنا نحن، مصلحون، اشتراكيون وراديكاليون في أن نرى التاريخ بجانبنا، فلقد عشنا على قناعة بان العالم كله يصفق ملئ كفيه لمشاريعنا، بحسب تعبير الراحل وليام برنار. ليس لدينا اليوم حكاية مطمئنة بإمكاننا تقديمها للجمهور، لقد خرجنا لتونا من قرن ملأته مذاهب ادعت بخيلاء أن على الدولة أن تقنع الأشخاص ?ولو بالقوة إن لزم الأمر- بأنها تعرف صالحهم ومصالحهم. ولا يمكننا بكل تأكيد الرجوع إلى هذه الدوغما. وإذا كان علينا مجددا أن نفكر في شأن دور الدولة، فعلينا أن نفكر في حدود هذا الدور.
سجال غير مفيد
لاسباب مشابهة سيكون من غير المفيد اعادة بعث السجال الذي عرفته اوساط الاشتراكية الديموقراطية في بداية القرن العشرين. فخلال تلك الفترة برز اليسار الديموقراطي كبديل لمختلف أنواع الاشتراكيات الثورية الماركسية الاقل استعدادا لقبول فكرة التوافق، كما برز ذلك اليسار كبديل عن الوريث الشيوعي لتلك الاشتراكيات الثورية. وهكذا ومنذ البدء فقد كان في الاشتراكية الديموقراطية، بطبيعتها نوع من الانفصام في الكينونة : فمع تقدمها وثقتها في المستقبل التي رأته واعدا، استمرت في إلقاء نظرة غضب متوترة على جهتها اليسرى. كان لسان حالها يقول ما معناه : نحن لسنا سلطويين، إننا مع الحرية ولسنا مع القمع. نحن الديموقراطيون الذين يؤمنون بالعدالة الاجتماعية وبالحاجة إلى ضبط الأسواق، وغيرها من المتطلبات.
وطالما ظل الهدف الأول للاشتراكيين الديموقراطيين هو إقناع الناخبين بانهم يمثلون اختيارا راديكاليا محترما داخل المجتمع الليبيرالي، فقد كان لتلك المواقف معنى، أما الآن فيبدو ذلك السجال غير منسجم بما يكفي مع واقع الحال. وليس صدفة إن انجيلا ميركل، وهي مسيحية ديموقراطية، تمكنت من الفوز في الانتخابات في ألمانيا ضد خصومها الاشتراكيين الديموقراطيين، وفي عز الأزمة المالية، وانطلاقا من برنامج يشبه في نقطه الأساسية برنامج اولئك السوسيال ديموقراطيين.
بشكل او باخر تمثل الاشتراكية الديموقراطية لغة السياسة الأوروبية المعاصرة، فقليلون جدا هم رجالات السياسة الأوروبيون، وبدرجة أقل بالتأكيد من هم في مراكز القرار والتاثير من يمكنهم حقا ان ينأوا بأنفسهم عن الأطروحات والمنطلقات السوسيال-ديموقراطية بخصوص التزامات الدولة، حتى وان اختلفوا حول المدى الذي يمكن أن تصله هذه الالتزامات. وبالنتيجة ففي اوروبا اليوم، لا يتوفر الاشتراكيون الديموقراطيون على شيء مميز وخاص يقترحونه. ففي فرنسا مثلا، لا يتميز الاشتراكيون -المجبولون على الدفاع المستميت والصاخب عن الملكية العامة- عن اليمين الديغولي ذي النوازع الكولبيرتية-( نسبة الى كولبير colbert).
على الاشتراكية الديموقراطية اذن تعيد التفكير في اهدافها.
لا يكمن المشكل اليوم في السياسات السوسيال ديموقراطية، ولكن في اللغة والخطاب اللذان تتمظهر من خلالها تلك السياسات. فبما أن التحدي السلطوي لليسار قد زال، فان الإلحاح على الديموقراطية صار بدون حمولة مميزة. فكلنا ديموقراطيون اليوم. لكن ضمن الزوج الثنائي سوسيال-ديموقراطي، فان لفظ السوسيال لا زال يعني الشيء الكثير، واليوم ربما أكثر من العقود الماضية، حينما كان الجميع يقر بان للقطاع العام دور أساسي يضطلع به. ما الذي يميز مفهوم الاجتماعي في المقاربة الاشتراكية الديموقراطية للسياسة؟
للجواب على هذا السؤال، تخيلو معي، إن أردتم، محطة قطار، محطة قطار حقيقية، لا أتحدث عن محطة بينسلفانيا في نيويورك التي تشبه مركبا تجاريا من زمن الستينيات في طور الإفلاس. في ذهني مثلا محطة من نوع ووترلوستايشن في لندن، أو المحطة الشرقية في باريس أو تلك البناية الضخمة والرائعة فيكتوريا تيرمنوس في بومباي أو محطة الهاوتبانهوف في برلين. ففي هذه المباني، أو هذه الكاتدرائيات الحديثة، يشتغل القطاع الخاص بكامل النجاعة المطلوبة. فليس هناك أي سبب معقول لكي تدار أكشاك الصحف أو المقاهي من طرف الدولة. ويكفينا للتأكد من ذلك تذكر تلك الساندويتشات المجففة الملفوفة في علب البلاستيك التي كانت تقدمها مقاهي قطارات البريتيش رايل (قطاع عام) في السابق، لكي نقر، بأنه في هذا الجانب، تعتبر المنافسة أمرا محمودا.
لكن القطارات لا يمكنها ان تدار بطريقة تنافسية. فالسكك الحديدية، مثلها مثل الفلاحة والبريد هي في نفس الوقت أنشطة اقتصادية وخيرات عمومية أساسية، وبالإضافة إلى ذلك فانك لا يمكن ان تجعل نظاما للسكك الحديدية أكثر نجاعة بان تضع على قضبان السكة قطارين لكي تعرف أيهما يحقق أفضل خدمة. ان السكك الحديدية هي احتكار بالأساس. لقد حاول الانجليز، وبصورة غريبة إقامة نوع من المنافسة بين خدمات النقل عبر الحافلات. ولكن المفارقة بالنسبة للنقل العمومي انه بقدر ما يؤدي دوره على احسن وجه بقدر ما تقل حظوظه على مستوى النجاعة الربحية.
وعلى سبيل التوضيح، فمن المؤكد أن آية حافلة تؤمن النقل السريع بالنسبة لمن يقدرون على تكاليفه، ستتلافى المرور وسط القرى التي لن يمتطي هذه الحافلة فيها سوى متقاعد أو اثنان من حين الى آخر، وبذلك فان ? هذه الحافلة، ستحقق ارباحا كبرى لما لها. لكن هيئة ما ? الدولة أو البلدية- لا بد أن تستمر في تامين الخدمة المحلية الضعيفة المردودية والربحية، وإلا فان الفوائد الاقتصادية على الأمد القصير التي يمكن جنيها من الغاء هذه الخدمة، ستتبخر بفعل الانعكاسات السلبية على المجموعة الوطنية ككل على الامد البعيد. وكما كان منتظرا، فباستثناء مدينة لندن، حيث الطلب قويا يمكن النظام التنافسي من الاشتغال بشكل عادي، فان الحافلات التنافسية أدت إلى زيادة التكاليف التي تحملها القطاع العام، وزيادة التسعيرة إلى أقصى حد يمكن للسوق تحمله، وتنمية الأرباح المشجعة بالنسبة لشركات حافلات الاكسبريس السريعة.
ان القطارات مثلها مثل الحافلات هي قبل كل سيء خدمة اجتماعية. ان اي فاعل اقتصادي بإمكانه أن يدير خطا للسكك الحديدية بشكل فعال ومربح اذا كان المطلوب فقط هو ضمان النقل في الاتجاهين بين لندن وادنبره، او بين باريس ومرسيليا أو بين بوسطن وواشنطن. لكن ماذا حينما يتعلق الأمر بضمان التنقل بين قرى ومراكز لا يستعمل فيها الناس القطار في تنقلاتهم إلا لماما. لن يقبل أي مستثمر بان يضع ما يكفي من الأموال لمواجهة التكاليف الاقتصادية التي تقتضيها تلك الخدمة. وحدها المجموعة، الدولة- الحكومة او الجماعات المحلية- بإمكانها القيام بذلك. وبالنسبة لصنف معين من الاقتصاديين، فان الإعانات الضرورية لضمان ذلك النوع من الخدمة الاجتماعية ستعتبر دائما في نظرهم عديمة الجدوى، وسيعتبرون تبعا لذلك أن خلع القضبان الحديدية وترك الناس يستعملون سياراتهم بشكل معمم، سيكون أحسن وسيلة لاقتصاد التكاليف.
في سنة 1996، وهي آخر سنوات برنامج خوصصة السكك الحديدية البريطانية كانت «البريتش رايلوايز»- الشركة المستغلة للخطوط تفتخر بانها، من بين مثيلاتها الأوروبيات ظلت الهيئة الأقل اعتمادا على المساعدات والإمدادات العمومية. وخلال تلك السنة توقع الفرنسيون معدل استثمار بالنسبة للسكك الحديدية في فرنسا يعادل 21 جنيها لكل نسمة، أما الايطاليون فقد خصصوا نسبة 33 جنيه فيما لم تتعدى نسبة الاستثمار في بريطانيا 9 جنيهات. وقد انعكست هذه النسب بالطبع على مستوى جودة الخدمات، وهو ما يفسر لماذا لم تقع خوصصة قطاع السكك الحديدية البريطانية إلا عبر خسائر فادحة، حيث كانت البنية التحتية تعاني من عجز كبير.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.