تبدو السياسة المصرية حيال ليبيا محيرة، فهي معنية بأزمتها، وما يدور داخل الأراضي الليبية وخارجها، ولديها حسابات كثيرة فرضت عليها المراقبة عن كثب، ليس لأنها البلد الأقرب أو الذي جاءت ويمكن أن تأتي منه مخاطر أمنية عدة، لكن لأن ما يجري فيه من تطورات له تداعيات مباشرة عليها. وجه الحيرة يأتي من عاملين: أحدهما انفتاحها على عدد كبير من الأطراف التي انخرطت في مفاوضات أدت إلى اتفاق الصخيرات، مع أن لديها تحفظات حيال بعض التوجهات الرئيسية لها، ومع ذلك قامت بتأييده. والآخر، الترحيب بالخطوات التي تمخض عنها الاتفاق، مع أن منها ما يبدو متناقضا مع تقديرات سابقة، فرئيس الحكومة الجديد من أصول إخوانية، مرجح أن يستدعي قوات حلف الناتو مرة أخرى، ناهيك عن أن الاتفاق يعد انتصارا لرؤية قطر وتركيا، التي تختلف عن الرؤية المصرية تماما في ليبيا. فقد كانت القاهرة تبني حساباتها حيال ليبيا على ضرورة عدم الاعتراف بالإسلام السياسي، الذي له روافد وميليشيات عسكرية، ساهمت في تعقيد الموقف، بينما الصخيرات قنن أو شرع الاعتراف به، وظلت القاهرة تدافع عن وجهة نظرها فترة طويلة، لقطع الطريق على مؤيدي هذا التيار في مصر، وخاضت في سبيل ذلك معارك سياسية، معلنة وغير معلنة. وبدا أن تأييدها للتيار المدني بلا جدوى، فقد نجح مناهضوه في توجيه ضربة قوية له، كما أن اتفاق الصخيرات جاء من رحم تحركات كانت مزعجة بالنسبة إلى مصر، لأنه استثنى قوى تدعمها، لذلك أصبح تأييدها المعلن عصيا على الفهم عند عدد كبير من الدوائر السياسية. لفهم هذه الخطوة يجب التيقن من أن السياسة الخارجية المصرية في الوقت الراهن، أضحت براغماتية بامتياز، فهي فاعلة في عدد من الأزمات الإقليمية، لكنها تحتفظ لنفسها بمسافة تمنحها قدرة على المرونة، وإعادة ترتيب الأولويات، بمعنى تحرص على التدخل دون انخراط أو تورط حقيقي، ولا ترمي كل أوراقها السياسية والأمنية مرة واحدة، وتحتفظ بهامش للتراجع عند اللزوم، مكنها في أحيان كثيرة من إعادة التموضع. في الحالة الليبية قامت مصر بعملية عسكرية في المنطقة الشرقية ودكت معسكرات تابعة لتنظيم داعش قبل نحو عام، ردا على ذبحه عددا من المصريين، وجاءت ردود الأفعال غير مرحبة، وسعت بعض الجهات لتوظيف الضربة الجوية لاستهداف مصر، لكن فشلت المحاولات، وبقيت النتيجة، أن التدخل المباشر يمكن أن تكون تداعياته السلبية وخيمة. عندما تيقنت القاهرة أن نداءاتها بشأن وضع حد للفوضى في ليبيا، التي تسبب فيها المتشددون، يجب أن تكون على قدم المساواة مع ما يحدث معهم في سورياوالعراق، لم تجد آذانا صاغية، أخذت تتعامل مع الموقف وفقا لمعطياته الدولية، أي التجاوب مع نداءات التسوية بصرف النظر عن الجهة التي تتبناها وعدم الابتعاد عن تحركات الأممالمتحدة. في الوقت الذي كانت فيه الخطوات الدبلوماسية المصرية تتوافق مع تصورات المجتمع الدولي، استخدمت القاهرة أذرعها التاريخية والاجتماعية في ليبيا بحكم الأواصر القديمة، فجرى تمديد الخيوط مع شخصيات سياسية وأمنية كبيرة، وكان الحراك القبلي من أكثر تجليات مصر في التعاطي مع الأزمة الليبية. كل الطرق، المباشرة وغير المباشرة، كانت ترمي إلى وقف زحف المتطرفين من ليبيا إلى مصر، والبحث عن وسيلة لاجتثاثهم من جذورهم، وبما أن التدخل المصري العسكري محفوف بالمخاطر، والمجتمع الدولي غير منشغل بليبيا، ولم يكن مستعدا لمساواتها بسوريا أو العراق، كان لزاما على القاهرة الوصول إلى طريق يجبر الأممالمتحدة والقوى المحركة فيها على إعطاء ليبيا أولوية أمنية بجانب التحركات السياسية التي لم تؤد إلى نتيجة ملموسة حتى أيام قليلة مضت. أحداث باريس لعبت دورا في تسريع وتيرة التحركات الغربية الأمنية تجاه ليبيا، وساهمت عوامل ومخاطر متنوعة، في زيادة اقتناع بعض الحكومات الغربية، بأن ليبيا يمكن أن تشكل خطرا داهما على مصالحها. من هنا تم التفكير في استكمال خطة الحلف الأطلسي، الذي تدخل وأسقط نظام معمر القذافي ثم ترك الانفلات يعم ليبيا، لكن مهمته هذه المرة تكمن في التخلص من داعش والمتشددين، الذين يمثلون هاجسا لمصر. إذا كان حلف الناتو مرجحا أن يعود على يد الحكومة الجديدة التي يقودها فايز السراج الإخواني، فلماذا تقف مصر في طريقها؟ الإجابة البديهية على هذا السؤال تفك لغز الترحيب المصري باتفاق الصخيرات، وحتى لو كانت الحكومة الجديدة لن يكتب لها النجاح على صعيد توفير الأمن والاستقرار في ليبيا، فيكفي أنها ستكون مسؤولة عن جلب قوات الناتو للتخلص من المخاوف المصاحبة لتغلغل المتطرفين في ليبيا، الذين كبدوا مصر خسائر فادحة خلال الفترة الماضية. دخول قوات دولية، بمعرفة قوى أوروبية، يؤكد صواب الرؤية المصرية، بأن تنظيم داعش في ليبيا لا يقل خطورة عن أقرانه في المنطقة، ويعزز الموقف بشأن الرؤية الشاملة للتعامل مع المتشددين، من دون تفرقة أو حسابات سياسية، كما أنه، يرفع عن مصر هاجس البحث عن آلية تقضي عليهم، دون أن تتكبد القاهرة عناء التدخل العسكري المباشر. كل هذه المزايا جعلت مصر من أكثر الدول سعادة باتفاق الصخيرات، وتسعى إلى ضمان تطبيقه، وإقناع القوى الرافضة له بالتريث وتحجيم معارضتها ولو مؤقتا، لأن عودة الناتو قد تكون هدية ثمينة لمناهضي موقعي الصخيرات، وفرصة للتشكيك في نواياهم السياسية، بالتالي إيجاد مدخل مناسب لتجميع الليبيين على هدف واحد، ربما يكون رأس حربة لإزاحة الحكام الجدد، بعد إقامة الحجة عليهم بصورة عملية، بأنهم من فتحوا المجال لعودة القوات الأجنبية.