الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    جوائز الكاف: المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض        حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجهوية ومرتكزات التأهيل السياسي والمؤسسي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 02 - 02 - 2011

من المؤكد أن تراكمات المسار الجهوي في المغرب قد أفضت إلى بروز ثقافة تخص هذا المسار يتقاسمها الفاعلون السياسيون على اختلاف مواقعهم وقناعاتهم والباحثون في مختلف تخصصاتهم، وترعاها الدولة انطلاقا من المبادرات المتتابعة التي تم إنجازها في هذا السياق. ولكن الحدود المؤسسية والسياسية للجهوية تجعل الثقافة التي نتحدث عنها مقرونة بحمولة تقضي بمحدودية أفقها أو بوجود عوائق وصعوبات تجعل موضوع الجهة والجهوية محط ضبابية والتباس يقتضي الأمر تجاوزهما. إن إثارة العوائق غير وارد على سبيل التصور السلبي الذي ينفي الاستحقاقات المختلفة للتجربة الجهوية، بل إنه مطروح من أجل استنهاض البعد الإشكالي لهذه التجربة، سواء في نتائجها المتحققة، أو في تلكؤاتها المتتابعة أو في منتظراتها المؤسسية والسياسية والتنموية.
وتستوقفنا في ذلك أربعة أسئلة هي التي تعتبرها لحمة البعد الإشكالي الذي أومأنا إليه، فهناك سؤال متعلق بمعنى الجهوية في منوالها الموسع، وآخر مقترن بالأسباب والمقدمات التي استلزمت ضرورة الانخراط في جهوية متقدمة واعتبارها قاعدة للنهوض بالمنظومة المؤسسية والسياسية. هذا علاوة على سؤال يستحضر التحديات المطروحة أو التي يمكن أن تطرح في طريق بلورة الجهوية الموسعة وتصريف حيثياتها على أرض الواقع، دون إغفال الانشغال المتعلق بالمرتكزات التي تقتضي الضرورة الوعي بها واعتمادها لرفع التحديات وتحقيق التأهيل السياسي والمؤسسي المنتظر من الجهوية.
أولا: الجهوية الموسعة: الدلالة والمعنى
مهما كان المعنى الملائم والإجرائي للجهوية الموسعة مستحضرا للضرورة المجالية والتنموية والثقافية، فإن بناء هذا المعنى يجب أن يكتسي مضمونا مؤسسيا و سياسيا، من حيث كون هذا النمط الجهوي خطوة صاعدة في سلم التنظيم اللامركزي واللامتمركز وانتقالا نوعيا في مسار الحياة الديمقراطية. وعلى هذا الأساس، فإن دلالة الجهوية الموسعة لا يمكن أن تتحقق في الفكر والممارسة إلا إذا اقترنت بإنجازات ورهانات نجد بعضها حاضرا في الحياة العامة بالمغرب. إن ما يميز الجهوية في مدلولها الواسع هو تقسيم السلطة الذي بموجبه تتنازل الدولة المركزية عن جزء هام من اختصاصاتها إلى من يمثلها في الجهات، فيصبح عدم التمركز هو السمة المميزة للمنظومة المؤسسية، ويتحول ممثلو الدولة إلى صناع قرار بدلا من الاكتفاء بتنفيذ ما يملى عليهم من المركز. كما يتحقق هذا التقسيم أيضا انطلاقا من تخويل الهيئات المنتخبة سلطة صياغة القرارات والسهر على أجرأتها وتنفيذها. وما دام تقسيم السلطة تأكيدا لقوة الدولة ولجدارة المبادئ والأدوات التي يشتغل في ضوئها نظامها السياسي، فإن ذلك مشروط بإقرار تنظيم عقلاني في الحياة العمومية ليحل محل التنظيمات التقليدية المرتكزة على سلطة الأفراد(1)، وهذا ما يعطي الأولوية للاختيار المؤسساتي ويجعله ثابتا من ثوابت الدولة الذي تترسخ بفضله الحداثة السياسية وتتجذر بموجبه الحياة الديمقراطية في مجموع أركانها. إن إنجازا من هذا القبيل كفيل بأن يبني نموذجا جهويا تتحقق فيه سياسة القرب التي تتجلى دلالتها العملية في استعداد الدولة لخدمة المجتمع وتأسيس هذه الخدمة على إلمام دقيق بمؤهلات المجال وإشكالياته، وعلى مبادرات متعددة الأبعاد تتخذ النهوض بالمجال هدفا وتعتبر الحوار والمشاركة والتقويم منهجيات لا تقوم سياسة القرب إلا بوجودها. ولن يتحقق تركيز هذا المسعى إلا باعتماد الملاءمة بين حاجيات المجال ومؤهلاته، وهو رهان لا يتمثل فقط في الوعي بالتوازن بين هذه الحاجيات وضرورة تغطيتها، بل إنه يتجسد أيضا في الرقي بمؤهلات وقدرات المجال حتى تفوق الحاجيات من خلال تنمية الثروات وتقوية القدرات الابتكارية. إن السياق الكفيل باحتضان هذه الخيارات هو سياق الحكامة الرشيدة التي تنهض بها نخب مؤهلة ومسؤولة وحريصة على تطوير جل مكونات الحياة العامة.
ثانيا: حيثيات تبلور اختيار
الجهوية الموسعة
من المؤكد أن المنظومة المغربية الراهنة ذات حركية ملحوظة تتمايز أبعادها وتتقاطع في نفس الوقت، بما يجعلها مستوعبة لحيثيات تبلور الاختيار الجهوي المتقدم وتجذر معالمه التنظيمية والسياسية.
وترتسم حدود التجربة الجهوية الراهنة التي عرفت انطلاقتها في سنة 1997 كمدخل لإقرار نظام جهوي متطور ومجاوز لنواقص التجربة الحالية. ويمكننا تصنيف هذه الحدود ضمن ما هو تنظيمي وما هو سياسي وما هو اقتصادي ومجالي. فإذا كانت الحدود التنظيمية حاصلة في الانتداب غير المباشر لأعضاء المجالس الجهوية في الجماعات القروية والحضرية على الأقل، وعدم الإشراك الفعلي للسكان والناخبين في اختيار ممثليهم في الجهة، فإن هذه الحدود تتضح أيضا في اقتصار الأداء التنظيمي للمجالس الجهوية المنتخبة على التشريع والتقرير دون السهر على تنفيذ ما تم تقريره، حيث تتولى الإدارة الترابية الجهوية مسؤولية التنفيذ وتدبير الشؤون المالية للمؤسسة المنتخبة. فالمشكلة هنا لا تتعلق فقط بتقليص سلطة المؤسسة المذكورة وتفويت جزء منها إلى ولاية الجهة، بل إنها تتعلق كذلك بخلل في استكمال البنية الديمقراطية للمؤسسة الجهوية المنتخبة والذي تتقلص بوجوده وظيفة هذه المؤسسة، وتتعطل معه إمكانية مراقبة الناخبين لإنجازات ممثليهم وتستحيل بذلك محاسبتهم في محطات الحسم الانتخابي. ويفضي بنا كل ذلك إلى الإقرار بانكماش الأداء التنظيمي والسياسي للجهة، وهو واقع يكرسه في الظرف الراهن الارتباك الحاصل في سياسة اللاتركيز المؤسسي، سواء من حيث تشتت القطاعات الممثلة للدولة في الجهات أو من حيث انعدام التنسيق والتواصل بين هذه القطاعات، أو من حيث تجريدها من صلاحية المبادرة والتقرير في القضايا والإشكاليات المرتبطة بالجهة واقتصار نشاطها على تطبيق ما يملى عليها من المصالح المركزية. وإذا كانت الحدود السياسية للتجربة الجهوية الحالية ماثلة في خضوع السلوك الانتخابي لمرجعيات تقليدانية يجسدها الانتماء الإقليمي و»القبلي» أحيانا، وترسخها علاقات المصالح الضيقة للفاعلين «السياسيين»، فإن ضعف الأداء السياسي للمؤسسة الجهوية المنتخبة يقف عائقا أمام بناء تكتلات ومجموعات ذات اختيارات وبرامج ومشاريع متنوعة ومختلفة في الرؤى والآفاق، ليصبح الباب مفتوحا أمام تكتلات محلية وإقليمية ضيقة يتعذر معها إنتاج نخبة تتعاطى مع القضايا الجهوية بفكر سياسي مسؤول ومقاربة شمولية تصب في تنمية المرفق العمومي. وتتدخل الوصاية الإدارية في مدلولها السياسي والوظيفي لتكرس واقع هذه التكتلات، وتحول دون نشوء قيادة جهوية Leadership régional مؤهلة لأدوار مؤسسية وسياسية ووظيفية قوية. أما الحدود الاقتصادية والمجالية، فإنها ماثلة بالأساس في عدم توازن الجهات الحالية في الموارد والقدرات وفي تفاوت المؤهلات والموارد داخل مجموعة من الجهات، ناهيك عن غياب سياسة للتخطيط المفيد في ضبط الموارد وترشيدها وتنويعها وإغنائها، وانعدام التضامن الجهوي الذي يسمح بتقنين استفادة بعض الجهات من الثروات الطبيعية لجهات أخرى. ويبرز وجود واشتغال هذه الحدود خضوع الجهوية في وضعها الراهن لدينامية إعادة الإنتاج أكثر من ارتباطها بحركية التجديد والانتقال الكيفي، وهذا ما أفرز إكراهات سياسية ومؤسسية يمثل الوعي بها نقلة نحو الجهوية المتقدمة.
إن الحديث عن الإكراهات السياسية والمؤسسية يقترن بوضعية الحقل المغربي في مجموع معالمه، وهي إكراهات تمس بنية التنظيمات المحلية والجهوية والوطنية، مثلما تمس أداءها الوظيفي وديناميتها الداخلية والخارجية. ومن ثمة تصبح المؤسسة الجهوية المنتخبة في وضعها الراهن معنية بهذه الإكراهات لكونها لا تعيش سلبياتها فحسب، بل لأنها تساهم في توسعها وتراكمها. وتتجلى الصورة الأولى لهذه الإكراهات في التفاوت الموجود بين الحراك السياسي والحراك الاجتماعي والثقافي، ففي الوقت الذي توجد فيه سيرورة اجتماعية مفصحة عن تحول في أنماط الانتظام والتراتب، وعن أنشطة فردية وجماعية تتراءى في أنظمة العيش والنزوع نحو التحضر وتنامي السلوك الاستهلاكي والإقبال على التقنيات الحديثة، وفي الوقت الذي تشهد فيه البنية السوسيو ثقافية تغيرا في منظومة القيم الاجتماعية وصراعا حادا داخل المنظومة بين قيم الانفتاح وقيم الانغلاق، وانصهارا للمجتمع في مد ثقافي يمزج بين الخصوصية والقيم الكونية، في الوقت الذي يحصل فيه كل ذلك، فإن الحركية السياسية تظل دون ما يشهده الحقل الاجتماعي والثقافي. إن هناك عناوين دالة تكاد تكون موضوع اتفاق بين أغلب المهتمين بالحقل السياسي هي التي تعبر عن بطء وانكماش هذه الحركية، فقد باتت المنظومة الحزبية في المغرب وخاصة في السنين الأخيرة تشتغل باستخدام آلية الانشطار والانشقاق أو بإنشاء أحزاب «جديدة»، ليسفر كل ذلك عن مشهد يأوي أكثر من ثلاثين حزبا سياسيا(2) . لكن المفارقة من وراء كل ذلك أن التزايد الكمي في عدد الأحزاب قد انعكس من بين انعكاسات أخرى سلبا على العمل السياسي وجعل المجتمع أكثر ما يكون بعيدا عن السياسة وعن قضاياها وانتظاراتها المجتمعية والمؤسسية والأخلاقية. ومرد ذلك كله في نظرنا إلى قاسم مشترك تعيشه أغلب الأحزاب بكثير من التفاوت طبعا تتجلى ملامحه في طغيان الطابع الموسمي على النشاط الحزبي، وفي صعوبة تعبئة المجتمع واستقطاب شبابه ونخبه الوازنة، وفي هشاشة الرأسمال الفكري لبعض الأحزاب وسطحية جملة من المفاهيم التي تسوقها في الوسط الاجتماعي. وإذا أضفنا إلى ما نقوله مشكلة القيادة التي تعيشها أغلب الأحزاب، وعدم إقرار بعضها مسافة لها بينها وبين الدولة، فإن كل ذلك سيجعل المجتمع أقل انجذابا إلى السياسة وأدنى مشاركة في المنظومات والمواعيد المتعلقة بها (3). وإذا كانت الإكراهات التي أتينا عليها تؤكد وجود هوة حقيقية بين الحياة السياسية والمجتمع، فإن هناك إكراهات مؤسسية يجسدها واقع النسيج الإداري العمومي في معالمه الأفقية والعمودية. ونلح في هذا الصدد على البطء الشديد الذي يطبع أداء الأنساق الإدارية، ولاسيما في تفعيل النصوص وتنفيذ القرارات، كما نلح أيضا على بعض الظواهر الصعبة التي تعطل التحديث المؤسسي وتنشر التوتر بين المجتمع والمنظومة الإدارية، وتكمن أهم هذه الظواهر في قلة الفعالية أو انعدامها أحيانا والنقص في استثمار قدرات الموارد البشرية وتأهيلها المستمر، علاوة على الهدر كظاهرة متعددة المستويات ووخيمة النتائج. ومن المؤكد أن الخصاص الاجتماعي والمجالي الذي تعيشه بعض المناطق، تجعل المنظومة الوطنية في الوقت الراهن منشغلة بضرورة رفع التحديات التي تطرحها الاختلالات الناتجة عن هذا الخصاص، ولكن المهم من ذلك أن الإكراهات التي أتينا عليها باتت اليوم درسا سياسيا يمكن الاسترشاد به في مسار التجاوزات النوعية المنتظرة من الجهوية المتقدمة. من المؤكد أن الحقل السياسي المغربي يعيش تحولات لا قبل له بها، ومن بين هذه التحولات ما يمكن اعتباره محفزات يمكن أن تنير الطريق نحو إرساء نموذج جهوي واعد. إن أول ما يستوقفنا في هذا السياق هو سعي المغرب إلى بناء حكم ذاتي في الأقاليم الصحراوية المسترجعة سنة 1975، ستحصل بفضله ساكنة هذه الأقاليم على فرصة تدبير شؤونها بنفسها من خلال مؤسسات محلية وجهوية سيتم إنشاؤها لهذا الغرض، وستتمكن من الاستفادة أكثر ما يمكن من مواردها الطبيعية والاقتصادية والبشرية، بل وستنخرط في علاقة مؤسسية جديدة مع الدولة المركزية بما ينمي الروابط الديمقراطية بين الدولة ومناطق الحكم الذاتي. فإذا كانت الدلالة السوسيولوجية لهذا الاختيار ماثلة في اعتبار التنوع الثقافي والاجتماعي والمجالي مدخلا لمراجعة العلاقة بين المركز والجهات، وإذكاء الديمقراطية في أسسها المحلية والجهوية، فإن دلالتها السياسية حاصلة في التوجه نحو بناء منظور متقدم لتنظيم المجال الترابي والتحكم في توازناته الطبيعية والاقتصادية والثقافية والإيكولوجية، والانعطاف نحو اقتسام السلطة على قاعدة إفراز نخب جديدة مدركة لوظيفتها المتمحورة حول تزويد التدبير الجهوي بقيم الحكامة الرشيدة والفكر السياسي المتمسك بضرورة الانصهار بين مكاسب الحكم الذاتي وثوابت الوحدة الوطنية، وإرساء مبادرات قادرة على تعبئة الطاقات البشرية في مختلف مواقعها للإقلاع بالمجال انطلاقا من الاستثمار الأمثل والنوعي لثرواته ? إن وجدت ? والسير في أفق ابتكار ثروات جديدة كفيلة بتحقيق التناغم بين الحاجات الاجتماعية والإمكانيات المرصودة لتغطيتها. مع ما يتطلبه ذلك من تربية سياسية ترجح مبادئ وأخلاقيات الاستحقاق الفكري والعملي، ودعامة مؤسسية تنهض بالمفاهيم والأنماط الحداثية والعقلانية في الانتظام والفاعلية والتعبئة المجتمعية والتنافس السياسي والثقافي.
انخرط المغرب منذ سنوات في مشروع تنموي أطلقت عليه «سياسة الأوراش الكبرى». وقد رصدت لهذه الأوراش إمكانيات مالية مهمة وهيئات مشرفة على بلورتها وتفعيلها وتدبير محدداتها التقنية والبشرية، ومواكبة تحققها في الزمان والمكان. ومن المؤكد أن هذه الأوراش قد أدخلت المغرب في منظور جديد للتنمية يمكن رصده في واجهات ثلاث: واجهة تقوية أداء الاقتصاد الوطني انطلاقا من بنيات تحتية قوية تضمن التنافسية مع الاقتصاديات المجاورة وتحقق ارتقاء بنيويا ووظيفيا للمقاولة العمومية والخاصة، وواجهة الارتكاز على قطاعات حية يتوقف عليه النمو الاستراتيجي للحياة الاقتصادية وتتحقق في ضوئه الروابط بين المحاور الكبرى لهذه القطاعات. علاوة على واجهة أصبح معها الاختيار المجالي والقطاعي لهذه الأوراش مدخلا للنهوض بالمناطق الحدودية شرقا وشمالا وجنوبا، والتخفيف من التفاوتات الاجتماعية والترابية، وتدارك البطء في الموارد التكنولوجية والمؤهلات البشرية واللوجيستيكية، والمراهنة على تنمية التشغيل والإدماج الاجتماعي. وبالرغم من استناد بعض هذه الأوراش إلى منطق ماكرو اقتصادي لا يضع مقاومة الهشاشة الاجتماعية من بين أولوياته، فإن فائدة المنطق السياسي لهذا الاختيار هو الدافع ? من بين دوافع أخرى - إلى صياغة قراءة جديدة للمنظومة المجالية وبروز إرادة حقيقية لمراجعة التنظيم الجهوي بما يفيد في نجاح البعد الاستراتيجي لهذه الأوراش ويحقق أغراضها التنموية الشاملة.
لقد أمسى الاختيار الديمقراطي ضرورة تعبر عنها أغلبية مكونات الحقل السياسي في مغرب اليوم وتعتبره مرتكزا فكريا وتنظيميا للحياة السياسية بوجه خاص، وحافزا للإنجازات الكفيلة بتأهيل كل مكونات المرفق العمومي. ومع ذلك، فإن مواصفات هذا الاختيار في الظرف الراهن تشوبها ضبابية ملحوظة على مستوى المفاهيم المقترنة به مثل «الحداثة» و»الاختلاف» و»السياسة» و»التحالف السياسي»...، وعلى مستوى الحركية العملية التي يؤثر وقعها في استدامة الضبابية المشار إليها. وهو ما يعكس هشاشة الهامش الاستراتيجي للحقل السياسي من جهة، ويكرس التداول السطحي والمشوه ? أحيانا - لهذه المفاهيم ولبعض الأدوات المقترنة بها من جهة أخرى. وبالرغم من هذه الأعطاب، فإننا نعتبر الإقرار باستراتيجية الاختيار الديمقراطي حافزا لمشروع الجهوية المتقدمة، والذي يجب تقويته بالتأصيل السياسي والمؤسسي للمفاهيم والأدوات المتعلقة بالحياة الديمقراطية(4)، وبالدعم البيداغوجي لهذا الاختيار وصيانته من كل التيارات المضادة، ناهيك عما تستوجبه هذه التقوية من إدماج ملابسات وتفاعلات المشهد السياسي ضمن سيروة للبحث العلمي لا تقتصر فقط على إبراز عناصر قوة وضعف هذا المشهد، بل تتعدى ذلك إلى مستوى تفكيك التلكؤات البنيوية والثقافية والتواصلية التي تعتريه واستشراف التراكمات والمكاسب التي يجب تحقيقها في المحطات والمواعيد السياسية المنتظرة، وبلورة قدرات التكاثف في الحقل العمومي بين جوانبه السياسية والمدنية والعلمية. ونعتبر الخطوات المختلفة التي تتحقق حاليا على مستوى المجتمع، والهادفة إلى نشر الثقافة الحقوقية وتكريس التنوع والاختلاف المميزين للواقع المجالي والمجتمعي والثقافي في أفق وحدة وطنية قوية، بمثابة مؤهلات قد تتعزز الجهوية الموسعة بفضلها.
جامعة مولاي إسماعيل - مكناس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.