مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قول في التسامح
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 11 - 2015

التسامح حاجة، وليس اختيارا حرا، فهو في العادة يُمارس عندما يعترف الناس بسيئات شيء قد تقود محاربة السوء فيه إلى ما هو أسوأ منه. لذلك «وجب علينا التوقفُ عن محاربة ما يستحيل تغييره»، كما يقول جون لوك، في رسالته حول التسامح
( النص هو جزء من مقدمة كتاب قول في التسامح لصاحبه فولتير ترجمة: سعيد بنكراد)
السماح في اللسان العربي عطاء وكرم وجود. والسمْح من الرجال والنساء من كان سباقا إلى فعل الخير داعيا إليه، ذلك أن السماح رباح، أي مصدر لراحة النفس والعقل، ومنه اشتُق التسامح. فمن تسامح فقد وَسِع صدرُه وجودَ الآخرين جميعهِم. إنه تعبير عن محدودية الإنسان وكشف عن وعي يتأمل الكون في تعدديته وغناه. لذلك قد يكون التسامح حاصل قناعة مصدرها الفرد ذاته، فنحن كائنات مختلفة في الطبائع والأمزجة والأحاسيس، ولكنه في الأصل مبدأ عام يمكن، وفقه، إدارة الشأن الجماعي.
وهو ما يعني أن التسامح حاجة، وليس اختيارا حرا، فهو في العادة يُمارس عندما يعترف الناس بسيئات شيء قد تقود محاربة السوء فيه إلى ما هو أسوأ منه. لذلك «وجب علينا التوقفُ عن محاربة ما يستحيل تغييره»، كما يقول جون لوك، في رسالته حول التسامح. إنه لا يشير، من هذه الزاوية، ومن كل الزوايا، إلى موقف سلبي من الآخرين، وإنما يعبر عن رغبة في حياة مشتركة لا يمكن أن تقوم دون وجود حد أدنى من مزاياه.
وهو المبدأ الذي تبناه أيضا الوعاظ والمربون والمعالجون وكل الذين يحاولون محاربة الآفات التي تتطور على هامش المجتمع، أو هي إفراز طبيعي لكل سيرورات التطور داخله. فنحن لا يمكن أن نربي أطفالنا بالتعنيف والزجر والأمر والنهي، تماما كما لا يمكن أن نقتل كل «المدمنين» و»المنحرفين» و»الضالين» أو نزج بهم في السجون. ففي هذا وذاك قبولٌ بشيء ما «مختلف» أو خارج عن «المألوف». وهذا ما يجعل التسامح سلوكا يُصنف ضمن محددات العيش المشترك، إنه الأساس الأولي الذي قاد الإنسان إلى اكتشاف الجدران العازلة درءا للعين المتلصصة، وقاده أيضا إلى بناء التجمعات السكنية التي قَبِل داخلها بالتخلي طوعا عن جزء من حريته لكي يعيش في طمأنينة وأمان وسط آخرين يتقاسمون معه وَحْشة الوجود على الأرض.
وبهذا استطاع الإنسان أيضا أن يحمي نفسه من الاندفاع الأهوج داخله، من قبيل رغباته المجنونة في أن يكون قويا وجبارا عتيا وأكثر من واحد، وأن يتعرى ويحقق كل نزواته، ويمارس ما يحلو له في فضاء عمومي هو مِلْك لكل الناس. وذاك مصدر الحاجة إلى «الآداب» و»الأخلاق» و»الحياء» و»المشاعر الخاصة»، فهي ضوابط تَحُد من فوضى الانفعالات والأهواء وتسيبها. لا يتعلق الأمر بتضييق على حرية هي الأصل في الوجود الإنساني، وإنما هو تحديد لمساحات خاصة «بالمحظور»، ذلك المبدأ الذي يقوم عليه كل انتماء طوعي إلى فضاء قيمي يستوعب «الأنا المخصوصة» ضمن مجموع ما يشكل دوائر «النحن» الثقافية والأخلاقية، ويقيه، في الوقت ذاته، من شر «حيوانية» ليست معنية بإكراهات «الغيرية» عند القريب في الفصيلة، أو عند الغريب من الفصائل الأخرى.
وهو ما يثبت أن الإنسان ليس عدوانيا بطبعه، كما تَوَهم البعض وهم يتحدثون عن كائن بدائي متوحش لا يشكل الآخر عنده «حدا»، أو قيمة في ذاتها. فالكائن الذي اهتدى «بطاقات الحدس وحدها»، دون الاستعانة بوعي وجودي مسبق، وخارج محددات ما نعرفه اليوم من القوانين والضوابط الأخلاقية، إلى إمكانية العيش مع «شبيه» لا يعرف عنه إلا ما يمكن أن تقوله أفعاله الحسية، أو ما يمكن أن يكشف عنه الانفعال المباشر، لا يمكن أن يكون حاملا لبذور عنف «طبيعي» سابق في الوجود على الممارسة ومتحكم فيها. لقد تعلم الإنسان، منذ لحظات وعيه الأولى في الوجود، كيف يَشْكُم عدوانيته ويروضها، فتبادل الناس بضائع وسلعا من كل الأنواع، كما تبادلوا خِبِرات ومعارف خارج أي تبادل لسني أو ثقافي صريح. لقد سُوقت العقائد والثقافات وأنماط العيش كما يمكن أن تُسوق كل البضائع (لعب التجار دورا كبيرا في انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية).
بل اهتدى الناس، بشكل حدسي، في مراحل متقدمة من تاريخهم، إلى صيغ «طريفة» جنبتهم التطاحن فيما بينهم، ومكنتهم من التعبير عن اختلافاتهم، دون أن تحول بينهم وبين تقاسم خيرات السماء والأرض كلها. فقد حدث مرارا أن اعترفوا جميعا، في فضاءات ثقافية مختلفة، بوجود إله واحد أَحَدٍ قادر على كل شيء، سخَّر، هو نفسه، مجموعة أخرى من الآلهة يعبدها كل قوم بطرق متنوعة. ولم يكن ذلك سوى رغبة في التوحد في المصير المشترك، مع الاحتفاظ بالتعدد في اللغات والثقافات والانتماءات الجغرافية. وبذلك تنوعت شعائر الدين وطقوس العبادة، بل تعددت مراتب القيمين على الدين والدنيا، وتنوعت الألبسة والمظاهر ودور العبادة.
وذاك يعني، من زاوية التعدد دائما، أن الإيمان بالله ليس طاقة انفعالية «حرة» موجودة خارج محددات كل ما يأتي من الثقافة والتاريخ والجغرافيا، بل هي جزء من وعي جَمْعي لعب فيه الشرط الإنساني دورا أساسيا: يتعلق الأمر بمزيج غريب من قلق مصدره الخوف من المجهول وضياع البدايات، وخشية من جبروت القوى الطبيعية والاجتماعية على حد سواء. فلا يَدَ للعقل في ما يأتي من العقائد أو يقود إليها، فالناس يتوارثون الإيمان كما يتوارثون انتماءاتهم إلى الأهل واللغة والثقافة. نحن في حاجة إلى قانون يحمي من جرائم الحق المدني، ولكننا في حاجة أيضا إلى دين يحمينا من إغراءات النفس الأمَّارة بالسوء.
إن الإنسان، على هذا الأساس، كائن متدين، كما هو ناطق وعاقل ورامز وسياسي.... وسيكون التسامح، استنادا إلى هذه الخاصية، ضرورة هي الضمانة على وجود الدين والتَّدين والمُتَدين في الوقت ذاته. فلم يحدث أن ساد في التاريخ الإنساني كله، القريب والبعيد، دين واحد اعتنقه جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها،» ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة». لقد كان الله في النفوس واحدا دائما، ولكن السبل إليه تكاثرت وتعددت وتبدلت تبدل أحوال الناس وأنماط عيشهم. إن الدين ثابت في الأحاسيس والمشاعر، ولكنه متعدد في الرموز والنصوص والشرائع والشعائر والطقوس والعوالم المخيالية، المحيطة والموازية.
لذلك لن تختفي الأديان من الوجود، ولن يطالها النسيان، بل ستظل حية في الضمائر والنفوس، فالناس لا يمكن أن ينصرفوا عما يحميهم من شرور أنفسهم، بما فيها رغبتهم في فرض معتقداتهم الخاصة على آخرين من الجوار الثقافي أو من ديانات مختلفة. فلا فائدة من الحروب الدينية، فهي ليست ممرا نحو ملكوت الله، بل هي انحدار إلى الكراهية والعبث بحياة الناس. ولا داعي لإعلان الحروب عليها في الوقت ذاته، فهي جزء من طبيعة الوجود على الأرض، وثابت من ثوابته.
لقد تخلى الكثيرون عن دينهم، واعتنق الكثيرون أديانا مختلفة، وتحول الكثيرون من دين إلى آخر، وتعددت المذاهب والطوائف، وتناسلت الفرق الكبيرة والصغيرة، وكثرت الزوايا؛ ومع ذلك لا واحد ولا واحدة من هذا أو تلك استطاع الاستحواذ على كل القلوب. فلا وجود لدين أثبت بطلان دين آخر، ولا طائفة أكدت فساد تأويل طائفة أخرى. فما زالت الشيع والفرق الدينية والمذاهب من كل الاتجاهات تتناسل وتعتقد كل واحدة منها أن مبادئها هي العليا، وتدعو لها وكأنها الطريقة الوحيدة الصحيحة لعبادة الله والفوز برحمته.
فإذا كان المغاربة كلهم، أو أغلبهم، مسلمين سنة ومالكيين وأشعريين وجنيديين، فما الداعي إذن إلى وجود هذا العدد الكبير من التيارات والجمعيات والزوايا والطرق الصوفية؟ وإذا كان الشيعة هم أتباع علي وشيعته، وهم أصفياء آل البيت وحماته، فلماذا هذا السيل الهائل من الفرق وتعدد الحوزات والأئمة، الظاهر منهم والخفي؟ هناك، في الضمني أو الصريح من الأحكام الدينية، تقديرات مختلفة لكلام الله وطبيعة ملكوته ونصوصه وطقوسه، وطبيعة الطرق المؤدية إليه. وهي التقديرات ذاتها التي يمكن أن تقود، في سياقات بعينها، إلى الاقتتال بين أبناء المذهب الواحد. وهو ما يوحي، أو يصرح، في الكثير من الحالات، أن المرء لكي يكون مؤمنا حقيقيا يجب أن يقتل من يخالفونه في الدين أولا، ومن يخالفونه في الطائفة ثانيا، ومن لا يتفقون معه في المذهب ثالثا، ومن ليس متشددا في تطبيق مبادئ المذهب رابعا. وفي المحصلة إن أتقى الناس وأحقهم بمرضاة الله هو من يقتل كل الناس، عدا الفئة التي ينتمي إليها، فهي وحدها مالكة للحقيقة التي تعبر عن حق الله على كل النفوس. والحال أننا يجب أن نترجى رحمة الله، لا الخوف من عقابه ( ما هي الأسباب الحقيقية وراء الاقتتال الحالي بين التيارات السنية، والاختلافات بين الفرق الشيعية).
ومن الزاوية ذاتها يمكن النظر إلى حقيقة الصراع بين السنة والشيعة، فهما من الدين الإسلامي ومن سنته أو بعض منها، ولكن لا شيء في الأصول والفروع يمكن أن يجمع بينهما. لذلك لا فائدة تُرجى من حوار بين تصورين وُجِدا أساسا للصراع والتطاحن. فالجمع بينهما من جديد يقتضي إعادة كتابة تاريخ ممتد على ما يقارب الأربعة عشر قرنا، أي تصحيح ما وقع، أو ما يُفترض أنه وقع وكان أساس انشقاق هؤلاء عن أولئك. وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبدا، لأن ما جرى لم يعد «واقعة من التاريخ»، بل أصبح سبيلا جديدا إلى الله، يلغي كل السبل الأخرى، أو يستهجنها. لقد ظل الله في النص واحدا، لكنه اختلف في المعاني وفي طبيعة القناعات المسبقة عند الفريقين معا. إنهم لا يقرؤون النص، وإنما يبحثون فيه عما يودون الوصول إليه.
وهو ما يعني استحالة كل إمكانات التفاهم. ذلك أن الحوار يستند، في الأساس، إلى الرغبة في الوصول إلى حقيقة مجهولة، أو لا يعرف عنها المتحاورون إلا ما يمكن أن يقود إليها. والحال أن المذهبين معا وضعا الحقيقة خلفهما. والتسامح وحده هو ما يمكن أن يضمن تعايشا بين ما يمارسه هؤلاء وأولئك منفصلين في مساجدهم، أو في بيوت تخصهم وحدهم، تحت غطاء قانوني واحد وفي حماية دولة مدنية تضمن حقوق كل الناس.
إن الحاجة إلى التسامح ضرورة، لأن لا أحد من التيارين سيقضي على الآخر، أو يلغيه من الوجود، فإما الصراع والاقتتال والكراهيات إلى الأبد، وإما نشر المحبة بين الناس وضمان حياة مشتركة تتسع لكل الآراء، بما فيها قدرتها على استيعاب ممكنات التميز والاختلاف في الطقوس وشكل العبادات. إن المعبود واحد لا شيء غيره، وهو وحده الذي يعرف كيف يميز أصفياءه من المؤمنين عن الضالين منهم. إن التعصب يقتات من الجهل والصراخ، ويغذيه السلوك الأهوج للحشود المسعورة.
ولنا في التاريخ من الدروس ما يكفي، فنحن في نهاية الأمر وبدايته جزء من هذا الكون: لقد تطاحن البروتستنت والكاثوليك ( كما يثبت ذلك فولتير في هذا الكتاب) لما يربو على ثلاثة قرون ونيف، ونكَّلت الفرق الكاثوليكية بعضها ببعض. مات الآلاف من هؤلاء وأولئك، وهُجِّر الكثيرون ونُهِبت أموالهم، وتغيرت خرائط الكثير من البلدان، ولا أحد انتصر في النهاية، لقد اقتنعوا جميعا ألّا أحد منهم يستطيع إلغاء الآخر والقضاء عليه.
لم يتخل البروتستنت عن قناعاتهم لحد لآن، ومازال الكاثوليك متشبثين بمبادئهم، وما زالت هناك في أوروبا، وفي كل ربوع العالم الغربي، الكثير من الطوائف والعقائد المختلفة كل منها يعتقد أنه الحق، ولا حق خارج ما يدعو إليه، وخارج الطقوس والسبل المؤدية إلى ملكوت الله. ولكنها تمارس قناعاتها تلك في الكنائس والمنازل والتجمعات المخصوصة، خارج الفضاء العمومي، وفي استقلال عنه. لقد اقتنعوا جميعا، طوعا بالتنوير والتربية على العقل، أو بحد القانون المدني، ألّا رابح في المعارك الدينية، والخاسر فيها واحد دائما، الإنسانية: اقتتال وتدمير وأحقاد وكراهية وكساد في كل شيء، في الفكر والاقتصاد والمشاعر الإنسانية النبيلة.
ومع ذلك، فإن للتسامح وجها آخر، فهو، في الغالب من الحالات، ليس سوى موقف «إنساني»، فردي أو جماعي، يقيس الأشياء بمقياس «السياق العرضي»، أو بمنطق «الهدنة العابرة». فالتسامح إحساس بالقوة، أو هو موقف من يملك سلطة يمارسها حسب مشيئته ومزاجه. لذلك قد يتسع فضاؤه أحيانا لكي يشمل كل الناس، وقد تضيق دائرته لكي لا يستوعب سوى «الآخر»، المختلف في الدين والثقافة واللغة ( المغربي متسامح مع كل الأديان، إلا مع المغربي الذي يجب أن يكون مسلما بالضرورة). وهو ما يعني أننا لا يمكن أن نكون متسامحين إلا تجاه ما نستطيع تغييره أو منعه.
وهي صيغة أخرى للقول، إن الحق مع القوي، ولكن بإمكان هذا القوي أن يسمح للضعيف بممارسة «ضلاله» تحت راية حقه وحقيقته التي أنعم الله بها على فرقته أو مذهبه أو دينه وحده. إن التسامح، استنادا إلى كل هذا، ليس حقا يتمتع به كل المواطنين في ظل قانون مدني يحمي الخصوصيات في الانتماء والسلوك الفردي، بل هو تنازل عن حق كان من الممكن ألا يتنازل عنه صاحبه.
وهذا ما يميز مفهوم «التسامح» عن مفهوم «الحق في الاختلاف»، والمفهوم الأخير من إفرازات شروط العيش الجديدة في حاضرنا المعاصر. فالفرد مؤمن في التسامح الديني، ولكنه مواطن في الاختلاف، إن التسامح لا يُخلي الفضاء العمومي، فهو ملك للمُتَسامح، أما الاختلاف فيتأسس داخل هذا الفضاء، فهو شرط من شروط تحققه. إن التسامح تحميه عاطفة الناس ومزاجهم، لذلك فهو مفهوم أخلاقي، أما الاختلاف فيحميه القانون، إنه بذلك مفهوم سياسي، في الدين نُعلي من شأن قناعاتنا على حساب قناعات الآخرين، أما في المجال المدني، فنعلي من شأن قوانين الدولة التي تحمي كل المواطنين، المؤمنين وغير المؤمنين.
ومع ذلك، فإن التسامح لا يعني القبول بكل الآراء بما فيها تلك الداعية إلى العنصرية والكراهية والأنانية، إنه على العكس من ذلك حماية من كل هذه الأمراض، فهو مبني على مبادئ القانون الإنساني الذي يعترف بحق الناس في التعدد في العقائد والأفكار والرؤى وأنماط الوجود على الأرض، دون أن يقود ذلك إلى المس بكرامة الناس وحريتهم، أو التضييق على قناعاتهم الدينية أو الإيديولوجية. إن ما يوحدنا ليس الإيمان بفكرة واحدة، بل التعدد في الرؤى، لأنه يكشف عن الغنى في الطبيعة والإنسان.
يتعلق الأمر بفواصل بين المحددات الأولية للوجود الإنساني على الأرض، وبين ما يصنف ضمن القوانين الوضعية. فهذه المحددات كونية، لا تمايز بين الشعوب والأمم داخلها، إنها ليست مشروطة بنمط ثقافي بعينه، فهي موجودة خارج الرأي والمعتقد الديني أو الإيديولوجي أو السياسي، من قبيل الحرية والكرامة والحق في الحياة. فهذه حقوق يحددها الشرط الإنساني ذاته. أما القوانين الوضعية فهي الضمانة على تصريف هذه المحددات ضمن سياقات سياسية بعينها، أي وفق ما يقود إلى توفير فضاء عام يستوعب حريات الناس جميعها، أي ما يوازي بين خلاص النفوس، وضمان المشترك من المصالح في الوقت ذاته. وهذه القوانين ذاتها هي التي تحد من الشطط في استعمال الحرية الفردية للإضرار بالآخرين، واستعمال القناعات الدينية لحرمان الآخرين منها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.