قبل البدء: الوحدة مطلب الأمة و مزاعم التكفيريين لا تغير من واقعه شيئا اختيارات الإنسان الفكرية ليست حائلا بالضرورة دون نشدان توحّد الأمة وصيانة مصيرها من عبث العصبيات التكفيرية. إذ ليس هناك حدود لاختيارات الإنسان الفكرية. ولذا دعوت دائما إلى الاقتصاد في الاعتقاد والغلو في التفكير. ذلك لأن الاعتقاد بما أن موضوعه غير نظري فهو يقتضي اقتصادا ، أما التفكير فهو يتطلب نفوذا في أقطار السماوات والأرض ، فلا حدود له. نحن لسنا ضدّ الغلو حينما يكون غلوّا في التفكير المسلح بالعقل، بل نحن ضدّ الغلوّ في الاعتقاد الذي هو تمثّل لما تقررت منزلته تحت النظّر. إن موضوع الوحدة والتقريب بين المسلمين لا علاقة له باختيارات المسلم المعرفية. فليس أمام المسلمين سوى أن يسعدوا داخل اختلافهم وتعدديتهم أو يشقوا بفرقتهم ولن يحققوا الغرض. فلا بديل لهم عن الوحدة والتقارب. صحيح أننا ندرك أن العالم العربي يشعر بضعف قاتل وحساسية مفرطة تجاه النمو المضطرد للعالم الشيعي وقدراته. ولا ندري هل وجب أن يتوقف الشيعة عن نموهم وتقدمهم حتى لا يظن بهم الظنونا؟! مع العلم أن تطور المجال الشيعي هو قوة للإسلام وللعرب وللسنة إن هم غيّروا نظرتهم وتخلّصوا من دائي الشيعوفوبيا والإيرانوفوبيا. فهما مرضان فتّاكان أفقدا بعض العرب صوابهم وفوّت عليهم الكثير من الفرص والإمكانيات. مع أننا لا نجد هذا الهذيان الشيعوفوبي حاضرا لدى تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية الإسلامي السنّي، والذي يعقد تحالفا خاصا مع إيران ، كما لا نجد هذا الخوف المرضي لدى سوريا العربية التي وحدها تقود الصمود العربي ضد إسرائيل، ناهيك عن أطراف عديدة مثل باكستان وماليزيا وأندونيسيا و قطر وعمان وحتى والكويت والبحرين الإمارات نفسها تربطها علاقات خاصة تختلف في مستوياتها لكن لا تخرج عن حدّها الموضوعي والمقنع . هناك إثنان فقط يشعرون بالرعب من العالم الشيعي اليوم: شرذمة ارتضت لنفسها نهج التكفير للمسلمين و تحاول تعميم رأيها السوداوي في العالم الإسلامي عبثا، وهم أخطر على المسلمين السنّة قبل الشيعة، كما دلّ تاريخهم الدّموي على ذلك . وهناك إسرائيل وحلفاؤها في الخارج والداخل الذين لا يميزون في حربهم على العالم العربي والإسلامي بين سنييه وشيعته ، لأنّ علم الكلام ليس علمهم. وهو التواطؤ الموضوعي الذي نستشعره من خلال التحولات في الاستراتيجيا الخارجية للمنطقة. فحينما تصبح المعارك الطائفية مطلبا للاستراتيجيا الإسرائيلية والأمريكية، تحلّ الروح الخبيثة فورا في التيار التكفيري فيصبح له أبواق وضوضاء ؛ فهي خلايا انحطاط نائمة في العالم الإسلامي جاهزة للفتنة تحت الطلب. وبينما كانت غزّة تنتظر كسرا نضاليا للحصار ، سعت تلك الطغمة إلى كسرها تحت رعاية إحدى جمعياتها لإقامة مؤتمر طائفي في غزّة. وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها استثمارا في عرض إحدى أمّهات المؤمنين، لا تهمهم سمعة الرسول الأكرم(ص)، وهكذا أرادوا أن يستغلوا الأمر في نشر الفتنة التي أرادوا لها أن تبدأ من غزّة المحاصرة التي لم يقدموا لها سوى الفتنة والتآمر على مقاومتها وليس النصرة. هكذا وفي أرض الكنانة تنتصب فضائية مشبوهة جمعت كل جاهل وقميء يحاورون أنفسهم ويشفون غليل أحقائدهم بالسب والشتم للمسلمين من دون حسّ مهني ولا نضج فكري ولا علم شرعي ؛ فضائية تكفيرية بامتياز ، هي ما جعل شيخ الأزهر الدكتور الطيب يصدم تهريجهم بفتوى تنبض بالمسؤولية وتضع عصى في عجلة الفتنة. ولم نجد في فضائيات الطرف الآخر من يملك أن يسب ويكفر طائفة من المسلمين وإن مارس نوعا من الاختلاف في الرأي. لأن الذي يتحمّل مسؤولية هذا البؤس الفتنوي ليس مجموعة الحمقى الذين كاد أن يرفع عنهم القلم أو شرذمة من الانتهازيين الذين يتاجرون في مصير الأمة وهم فئات لا تخفى على ناظر متفحص ، بل المسؤولية تتحملها الدوّل التي تسمح بقيام فضائيات تكفّر المسلمين بصريح العبارة وبوقاحة لا نظير لها. إننا ندرك أن مثل هذا لا محالة سينشئ ردود فعل لدى الطرف الآخر. وهكذا جميعا وجب أن ندرك سبب تمرّد بعضهم في الآونة الأخيرة وتجرّئهم على رموز المخالفين لهم ، كردّ فعل على ما عاشوه ويعيشونه من استهتار بتراثهم ورموزهم وهضم لحقوقهم حتى أنهم شملوا بالسبّ واللعن رموز الشيعة أيضا ، الذين رغم ما يكال لهم لا زالوا أوفياء لمصلحة الأمة وحرصا على مصير المسلمين جميعا. ومن هنا لا أرى في ما ذهب إليه السيد مجتبى الشيرازي والشيخ ياسر حبيب سوى ردّ فعل على هذا الأمر، إذ يحتاج الإنسان أن لا يسمع ولا يلهي نفسه باستفزازات التكفيريين حتى لا تتمكن منه غريزة ردّ الفعل. ويا ما كادت تستدرجنا تلك الاستفزازات لكي نقع في محذور الطائفية التي عفانا الله من سورتها ولم يعد لنا من ردود فعلها سوى حجرا نلقمه لصناعها الفاشلين. لم يعد العالم الإسلامي غبيّا حتى تلعب بمصيره الحضاري شرذمة من الأعراب القمّل صنّاع وحراس هزائمنا، بل العالم الإسلامي يعد بأجيال لا تفيد معها رعونة التكفيريين الذين هم أدوات العدو الخارجي لتكريس انحطاط الأمة السياسي والديني والحضاري. نعم ندرك أن العالم الشيعي الذي هو جزء من العالم الإسلامي ووجب أن يكون كذلك من دون فروق ، يمتلك من القوة والإمكانات لو أن عصبة التكفير امتلكت ثلتها أو أقلّ من ذلك لأبادت المسلمين عن بكرة أبيهم. فداخل هذا العالم يغلب موقف الوحدة والتسامح وروح المسؤولية تجاه عموم المسلمين. وقد أثار عجبي أنني في العالم الشيعي أسمع الحديث عن الأمة الإسلامية أكثر مما أسمعه في مناطقنا التي لم تفطم بعد عن أن تقسم المسلمين إلى فسطاطين ما أنزل الله بهما من سلطان. وحينما نقف على حقيقة اقتناع الناس من مختلف الطبقات والمستويات والحساسيات بفكرة ما أو نهج ما، فذلك دليل على أنه يملك شيئا أبعد من أن يكون مجرد جاذبية مغشوشة. إننا نسقط في امتحان ثقافة احترام المختلف من هاهنا. وبالفعل من هاهنا فقط يتضّح إن كنّا حضاريين حقّا أم بقايا متوحشين في الأزمنة الحديثة. وفي هذا نعتبر كل مبادرة وكل محاولة تسعى للفهم والتقارب مهمّة ومحترمة بلا شكّ. ولا يحتاج الأمر إلى قلّة نوايا المغرضين في تأوّل كلامنا على نحو فاسد، لأننا لا نقصد في نقدنا أشخاصا بل نصف حالات قائمة. كما أن التحرّش بالآخر بحقد ليس طبعنا ولا أخلاقنا. ولا أخفي أنني لم أقرأ و لا أقرأ لأي مغربي حتى الآن في مجال التقريب أو محاولة تفسير المختلف لأنني لا أجد أي جديد في ذلك فضلا عن أنها محاولات مبتدئة جدّا في هذا المجال بالنسبة لإسلامييه الذين ينطلقون من خلفية اعتقادية لا تحليلية؛ وبالتالي لن تخلو من تساهل وتسطيح واجترار الموجود ، ولأنها صناعة لم ترس بعد على قوائم من حديد في صقعنا ؛ فضلا عن أنها صناعة لا تفيد من كانت المقارنة نهجا في حياته كلها والتأمّل المتجرّد في تراث المختلف اختيارا جادّا لم يسبقنا إليه سابق. فالقمش في تراث الآخر وممارسة الانتقاء أمر لا يعني لدينا شيئا لأننا ندرك ذلك التراث والطريق الأمثل والمشروع للتعاطي مع متونه التي فيها المعتبر وغير المعتبر. فهذا كما أكدنا مرارا لن يعلمنا إيّاه من سلك مسلك الخصومة ضد هذا التراث أو سلك مسلك ترجيح ملّته عليه. لكنّني أذكّر مرّة أخرى أنّني كنت ولا زلت متواضعا في هذا الحجاج لأن ما فعلته حتّى الآن هو أنّني عرّفت بوجهة نظر مدرسة مخالفة ولم أقم بمقارنة ولا حتى بتعريف مدرسة أمارس اختلافي المشروع والمعرفي معها كما لدي فيها ملاحظات معرفية ليس هاهنا محلّها. وكان من المنتظر ممن كان قلبه على مصلحة الأمة ووحدتها أن يقدّر هذا الموقف لأنه لا يردّني عن ذاك الحجاج راد من ضعف اقتدار أو لومة لائم أو مهارة في تعرية ما للمحاجج المغشوش من عورات مذهبية قاتلة؛ إن البيت البيت البيت من زجاج فافهم. ولأن زاويتي هذه ليس غرضها ما تنطوي عليه نوايا المغرضين بل هي زاوية فكر أستدرج فيها أحيانا لبيان شبهات ينفثها من لا شغل لهم غير الفتنة . يحدث بين الفينة والأخرى أن أقرع من خلالها رؤوس شرذمة ممن ختم الله على قلوبهم من التكفيريين المفلسين حتى لا يظنوا أن العلم انتهى عند آرائهم القاصرة. فلو شئنا لبسطنا حولها حديثا إلى يوم يبعثون وبهت عندها الذي كفر. إنني أنأى بنفسي أن أبسّط حديثا مبسطا وأمامي قرون من الحجاج والنقاش العريض الطويل الذي لم يؤدّ إلى نتيجة. إنّنا إذن في موضوع مختلف يهمّ مصلحة الأمة. لأنّنا لا نريد لهذا التجديف أن يحدث ردود فعل في العالم الشيعي الذي لا يزال يصبر على الكثير من الإهانات والتجديف في حقّه ومعتقداته من قبل شراذم تتسكع على موائد العم سام. وهم في قرارة أنفسهم يدركون ما يتمتع به هؤلاء من ضمير ومسؤولية في حفظ الأمة ، لذا يقولون فيهم كل شيء ولا يبالوا. وهذا مطلب شرعي جدا: أن تفكر مسلما مهما كان اختيارك المذهبي. وطبعا إن التقريبيين والوحدويين هم غالبية الأمة بلا شك؛ وهذا ما يثير حنق الطغمة التكفيرية البائسة المعزولة المنفّرة والمدلسة في كل أحاديثها وأخبارها ، التي لم يحصد منها العالم الإسلامي إلا الذّل والهوان والتخلف والإرهاب والتآمر على مصيره. وهذه الطغمة بلا شكّ هي طغمة ستكون هي الخاسر الأكبر في أي حرب طائفية في المشرق العربي، لأنها لا تملك سوى أن تكون ظاهرة صوتية. وهي تدرك أن العقلاء لا يجارونها في فتنتها الخطيرة. وها هي بعد أن كفّرت المسلمين السنة واتهمتهم بالضلال والبدعة ومخالفة التوحيد في الألوهية والربوبية وحملت عليها حملاتها المشهودة ، هاهي تختفي وراءهم لتقحمهم في فتنة لا علاقة لهم بها. فالتكفيريون الذي كفّروا الشيعة هم أنفسهم من كفّر الأشاعرة والصوفية والمالكية المتأخرين وأتباع المذاهب الأربعة ، وقد شعروا اليوم بالإفلاس. لقد كان رأيي ولا يزال أن استيعاب المختلف ونهج المقارنة الموضوعي لم يكن يوما ثقافة تكفيرية مهما تسترت خلف السنة العريضة التي تمثل غالبية العالم الإسلامي الذي تتهمه شرذمة شاذة من التكفيريين بالضلال. نتمنّى أن تتطور الثقافة المقارنية عندنا لكي نخرج من سلفويتنا وسلبيتنا وتوحشنا تجاه الآخر ، فهذا هو المطلوب . ولنترك الأستاذية البائسة التي يتمثلها كوكبة من الدعاة الفاشلين تجاه المذاهب المخالفة في فضائيات الفتنة الطائفية. فلا العرعور المعرعر يفقه في المقارن ولا دمشقية المتمشدق يعرف أصول الخلاف ولياقته الموضوعية ولا باقي الكوكبة المتسافلة بالنقاش إلى تدليس المدلسين سوى نثارات جاهلية وعصبية وبؤس خِلقي وخُلقي. فلست من عالمهم ، بل أنا من عالمك ومن بيئتك ومن ثقافتك لكنني رفضت الشوفينية والطائفية والعرقية والحواجز الصلبة التي يصطنعها زبانية الإرهاب الفكري والثقافي والديني. لا تحاول أن تجعل منّي أجنبيا دخيلا، فأنا من وطن قدّم فيه آباؤنا دماءهم في معارك التحرير والمقاومة ضد الاستعمار ربما لم يكن آباء بعض التكفيريين سوى خونة وعملاء للحماية. لست سوى كائن متحرر وثائر على عصبيتك واستهتارك بالآخر. فحتما ستجعل منّي أجنبيا لأنني خالفتك نظرتك التعسفية وحاولت أن أكون إنسانا لأمارس تسامحي مع الآخر. فكيف تدور "الدارة" ليعلمنا غير المتسامحين المتقوقعين دروسا في التسامح وكيف تدور الدائرة ليعلّمنا أبناء الخونة وعملاء الاستعمار دروسا في الوطنية. إننا لا نزايد على أحد ، فلم يا ترى يسعى حتى صغار القوم أن يزايدوا علينا بالوطنية ويتأستذوا فوق رؤوسنا بجهلهم وبساطة المحتوى. إن حديثي منذ البداية يسعى لإدخال طائفة من المسلمين في حظيرة الإسلام، بينما تسعى شرذمة قليلة إلى إخراجها من الإسلام وكأنّ الإسلام دين اصطنعه أبوهم أو تأبيد خطئها بتمجيد طريقتنا الأثيرة دائما وتأكيد معصومية اختياراتنا كما لو أننا خلقنا على صواب وسنموت على صواب والآخر مخطئ مسبقا. إننا نمارس طفالتنا بامتياز حينما نتشبت كأطفال بآرائنا وأحيانا نتوسل بالشقاوة والبكاء والضجيج لإقناع الآخر بأنه على خطأ ونحن على صواب؛ يريدون من المختلف أن يقول لهم : بابا ، خلاص .. استسلمنا أنتم على حقّ.. هل أعجبكم ذلك؟ هذه نزعة طفالية مرضية حينما يتمثلها الكبار. لذا نقول إنكم لا تملكون الحقيقة كما تعتقدون، بل أنتم كسائر أبناء هذه الأمة ليس لكم إلا أن تدافعوا عن آرائكم رأيا مقابل رأي ولا تحتكروا الإسلام ولا كل قيمه. لا توجد في طريقة هؤلاء مهما تحايلوا وخاتلوا وتلوّنوا سوى المنطق نفسه: أنا على صواب وأنت على خطأ. ولا أخفي أنني قلّما أنتبه لما يقال عندنا لأنني أعرف أنه ليس سوى صدى لما يقال هنا أو هناك ، لذا أستهدف في حديثي العالم الإسلامي والسلفية في عقر دارها ومراكزها وشخوصها الكبار ولا أعني صيصان السلفية ونابتتها من المقلدة الذين طلع عليهم النهار متأخرا . لقد رددنا قبل سنين عديدة ، على كبارهم من أمثال الجبهان وإحسان إلهي ظهير وغيرهما ولم يعد من المحرز أن نناقش مقلدتهم من العراعرة والمتمشدقين وضاربي أخماس بأسداس. أفلا يخجل المقلدة أن يبارزونا بما رددناه على شيوخهم في نقاش قديم لم يعاصروه. وهل ليس لنا من وقت لكي نمضغ في الشبهات وقد بححنا في ردّها. أم يجدون راحتهم وهوايتهم في الضجيج واللجاج أما جماهير لا تحسن التحقيق، لأنهم لا يحسنون إلاّ العيش على تكفير المسلمين ومواجهة صريح الأدلة بتأوّلات سفيهة. لا يوجد سليفي مغربي واحد يملك رأيا خاصا جديدا سوى تقليد بليد ممضوغ "ممرمد" لشيوخ نجد هداهم الله إلى الصواب. كما أن حديثي عن الوحدة والتقريب يستحضر كبار العلماء والمفكرين من هذه الأمة في الأزهر الشريف والزيتونة والقرويين والنجف وقم وباقي العواصم والمراكز العلمية في العالم الإسلامي ، وطبعا لا نتحدث عن خوارج الأمة الذين هم قلة قليلة لا يعتد برأيها ، ولا مجال لإقناعها ، إذ عجز علي بن أبي طالب عن إقناعها. ولقد أجبنا بإشارات تغني اللبيب عن كل شبهاتهم لكن لات حين مناص ، حتى نسوا حظّا مما ذكّروا وعادوا إلى مضغ الشبهات نفسها كما لو لم نتطرق إليها: فالأسطوانة مشروخة والأحجية والتدليس لا ينتهي ، لأن المطلوب من هذه الشرذمة لا التفكير ولا الإقناع بل الضوضاء والتشويش إلى يوم يبعثون : فلنتركها على هوايتها إلى يوم يبعثون. ولن نمنحها وظيفة على حساب وقتنا والتزاماتنا تتزلّف بها إلى دهاقنة الفتنة ومراكزها. والمطلوب أن تمضي الوحدة بين المسلمين إلى نهايتها ، ولنقذف برأي التكفيريين الحاقدين الهمل الرعاع إلى مزبلة التاريخ، لنفعل ذلك كسنة وشيعة. مع أننا نتمنّى لهم الهداية إلى الرشاد وأن يملأ الله قلوبهم محبّة بعد أن ملئت سمّا وحقدا وظلاما على المسلمين. فهم في اعتقادنا مسلمون باغون على إخوانهم ، ما لم يقعوا في نصب، ولا تهمنا جنتهم ولا نارهم بل يهمنا أن نكشف عن الشبهات التي ينثرونها في العالم الإسلامي تجاه المسلمين المختلفين معهم كذريعة لتكفيرهم وإخراجهم من الملّة و لزرع الفتنة في العالم الإسلامي وتفويت المصلحة على المسلمين في التقدم والتنمية والتضامن. وعليه ، أردنا أن نساهم ببعض الأفكار حول التقريب بين المسلمين ؛ لا يردعنا عن هذا الواجب ضوضاء الأقلية المتعصبة وتشغيبها، من أتباع الدرعي والحرّاني التي جمعهم ذات مرّة محمد علي باشا تحت شجرة ، مسائلا إياهم بما معناه : إن كانت تكفيكم شجرة واحدة فلم تحرمون المسلمين من جنة عرضها السماوات والأرض . فرحمة الله واسعة وجنته عريضة، والإسلام واسع يدخله كل من نطق الشهادتين. إننا ندرك لعبة التكفيريين الذين يخدعون الأمة بنشر الفتنة والتهريج ونفث الكذب على من خالفهم الرأي من هذه الأمة. وإذا كانوا مستعدين لخدمة أسيادهم في تمزيق العالم الإسلامي كما كانوا دائما ، فإننا نواجه ظلاميتهم بتنوير المسلمين ، كما نواجه فتنتهم بإحباط مؤامراتهم. فإننا نعتقد أن مكرهم ضعيف. لذا فحديثنا كان ولا يزال موجها إلى عقلاء الأمة جميعا بكل أطيافهم، أما شرذمة التكفير الظاهر منهم والباطن، فإهمالهم أولى. الانقسام بين المسلمين قديم فما العجب منه اليوم نتساءل إذا ما كان المسلمون قد انقسموا حقا إلى مذاهب وطوائف شتّى منذ فجر الإسلام أو لنقل ضحى الإسلام، لا مشاحة في الاصطلاح وأحب أن أقول إنه انقسام مسلمين لا انقسام إسلام فلماذا نتعاطى مع موضوع الاختلاف بنزعة غارقة في الدهشة، وكأن لسان حالنا إن هذا لشيء عجاب! أقول: إن هذا انقسام مسلمين في التأويل لا انقسام إسلام في نفس الأمر. فالأمة لا تجتمع على ضلالة ؛ من هنا يصبح اختلاف المسلمين رحمة ، وكان أحرى أن نخشى من وحدة وتماهي على الباطل. إن الاختلاف يترك مساحة للذهاب والإياب وتلاقح الفكر والنظر والاجتهادات. وثمة بون شاسع بين الحقيقتين. صحيح أنه بالنتيجة نتحدث عن إسلامات بعدد المذاهب والمدارس الإسلامية، لكنه تعدد تأويلات وتعبيرات ووجهات نظر طبيعية ، طالما انحصر الخلاف في حدود الدليل الذي هو مناط الاعتبار في الاختلاف. المشكلة تبدأ حينما نتعاطى مع ظاهرة تعدد وانقسام المسلمين بحسب آرائهم بنزعة الدهشة والغرابة بعد مرور أكثر من 14 قرن على هذا الاختلاف. كما أن الأزمة تبدأ متى تناولنا إشكالية الاختلاف من باب التمركز على إحدى التعبيرات بوصفها الحقيقة الإسلامية كلها وباعتبار أن الآخر ليس على شيء؛ أي بتعبير أضبط: حينما نتعاط مع إشكالية الاختلاف من باب أحكام الملل والنحل والأهواء. كلنا يعلم أن هذا الاختلاف بدأ مع رجالات الإسلام الأوائل، فهم المؤسسون. وحينئذ ليس الطبيعي أن لا يختلف الخلف بعد أن اختلف السلف. واختلاف السلف كانت له أسباب عديدة؛ واحدة منها بل أهمها التحاق صاحب الدعوة ( ص ) بالرفيق الأعلى ، فكان لابد حسب منطق ختم الرسالة أن يحدث نوع من الانتقال من مرحلة التنزيل محك المورد الأول إلى مرحلة التأويل محك النوازل ؛ وبالجملة حدثت صدمة تاريخية يعلم تفاصيلها كل من اطلع على حوادث الصدر الأول وما بعده . إنه خلاف سياسي بالدرجة الأساس. ثمة من لم يستطع استيعاب إكراهات النقلة من مرحلة التنزيل إلى مرحلة التأويل؛ باختصار كانت فتنة.الأجيال التي جاءت تباعا ورثت آثار هذه الفتنة، لكن الجسم الإسلامي الكبير والقوي استطاع أن يحافظ على المفاهيم والأطر العامة والكبرى للإسلام، تلك التي لم يدب إليها الاختلاف . فهي ما دامت مجملة تظل موضع اتفاق . الاختلاف مس التفاصيل ولم يمس الكليات. وهذا منشأ الأمل في تقارب الأمة ووحدتها. إن التوحيد والنبوة والقرآن والإيمان باليوم الآخر ظلت مسلمات اعتقاديه عند المسلمين كافة. أما ما تعلق بالاختلاف في كيفية فهم التوحيد، فكان اختلافا في تصور التنزيه. الدارسون للعقائد الإسلامية والخلافات الكلامية بين أقطاب الكلام الإسلامي يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الاستنتاج، حتى أولئك الذين خانهم التجريد ووقعوا فيما يؤدي إلى التجسيم أو الظلم وما شابه ما فعلوا ذلك بوعي وتصميم مسبق ، بل هي النتيجة التي انتهى إليها وهمهم الخاطئ. نحن في النقاشات التفصيلية نستطيع أن نناقش ونعالج أسباب هذه الاستنتاجات، وهذا ما أدى إلى هذا التراث الكلامي الهائل الذي هو ثمرة علمية مفيدة ومعبرة عن أننا أمة تفكر . لكن المشكل حينما تنزل تلك التفاصيل إلى الجمهور بلغته ومداركه وشروطه في التعاطي الساذج مع المعرفة ، بدل أن يصعد الجمهور إليها بلغتها ومفاهيمها وشروطها المعقدة، حيث قلما يدركون الإطار الإشكالي والمفهومي لهذه الآراء ، أو حينما تتحكم العصبية في تحويل النقاش من دائرة العلم إلى دائرة التهييج ، هنا يحدث المحذور. لأن قدرنا أننا ورثنا إسلاما تكاثرت التأويلات حوله، وتكاثرنا حوله حتى أصبحنا قاعدة سوسيولوجية واسعة نعد ديموغرافيا بمئات الملايين ، حيث الصراع الأول بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة كان بين عشرات المسلمين ، قرروا من خلال اختلافهم وضعية تاريخ بأسره واختلاف العالم بأسره. وورثنا مذاهب إسلامية كانت قد نشأت واكتملت وتمت وأصبحت مذاهب محروسة لا مفتوحة، كل ذلك حدث قبل ورودنا ، فكان أحرى أن نتساءل إزاء من يستشكل على اختلاف وانقسام المذاهب والمدارس الإسلامية، لنقول : إن هذا شيء عجاب! ولكنني قبل المضي في هذا النقاش أحب أن أؤكد على أن المناخ الطاغي اليوم حول هذا الموضوع هو الانفعال والخوف والتهييج وما شابه. لكن لنطمئن ، فهذه الأمة مرت بدورات وأزمات كبرى ، ولم يكن ذلك ليؤدي إلى انقراضها، لأن مفاتيح الوحدة والتقريب لا زالت حية طرية كبيرة ومهمة وواعدة ولو في حدود الوجدان. إننا لم نتساءل لماذا رغم كل ذلك بقينا أمة لا زالت تملك الإحساس بوحدتها. والجواب ، لأن اللاّوعي الإسلامي يملك الجواب حتى لو طغى الوعي وعاند وشط بعيدا. إذا كان الله والنبي والقرآن والعمومات الإسلامية لم تجمعنا، فالمشكلة فينا لا فيما بين أيدينا. هذا معناه أننا نستصغر ما بين أيدينا من عناصر اتفاق ونعطي أهمية بالغة للفروع والتفاصيل التي إن أخرجت المكلف عن مقتضى المذهب فإنها لا تخرجه عن حاق الإسلام. المسلمون أسرى الموروث الانقسامي لم ينجح المسلمون في التحرر من أسر الموروث التاريخي . ولا زال المذهب والطائفة أكبر من الإسلام ومقاصده. وحين تأتي اللحظة التي نستطيع أن نجعل فيها الطائفة هي الأمة والمذهب هو الإسلام، سنكون قد حققنا ثورة على هذا الأسر التاريخي. ولا نغالي في الخيال أن نتحدث عن إسلام خارج إمكانات المذاهب التي هي بين أيدينا ، ولكن الإسلام في منطقه العام وروحه الكلّي الذي يشكل ضمير الأمة ومثال نشاطها المذاهبي. إن الإسلام هنا حاكم على المذاهب وليس العكس. ربما نحن لم نكن قد استحدثنا الخلاف ، بل ورثناه وراثة. لكننا منحناه من العصبية والانفعال ما لم يعطه الأولون. مهما بلغنا من أمر الاقتتال الذي جرى بين المسلمين واللغة والذهنية التي تحكمت في تدبير خلافاتهم، فإن ذلك كان طبيعيا. لأن ثقافة عصرهم كانت تسمح بظهور هذه العصبيات أو كما عذرهم طه حسين: أنهم لم يكونوا يعرفون الدستور. بالتأكيد لا نهون من صور الفظاعات التي شهدها تاريخنا من جراء التطاحن والاقتتال الطائفي، لكن هذا أمر لم تنفرد به الأمة ، بل هو ديدن كل الطوائف في العالم. لو أننا تأملنا الصراع الطائفي في أوربا الحديثة بين الكاثوليك والبروتستانت، لوجدنا من همجية التطاحن والاقتتال ما ينسينا تاريخنا الطائفي الأسود. ليست المشكلة أننا لا زلنا أسرى انقساماتنا التاريخية فحسب ، بل المشكلة أننا لم نستطع أن نتقدم في ثقافة التسامح والحوار. لا زالت العصبية هي سلطان الموقف! المذهبية ثقافة حتى داخل المذهب الواحد هذا يؤكد على أن العصبية حينما تستحكم في النفوس ويصبح لها سلطان في تدبير علاقاتنا مع الآخر الذي يتقاسم معنا الوجود ويتقاسم معنا الإسلام ، فسيمتد الخلاف إلى عمق المذهب الواحد ، بل إلى عمق الرأي الواحد. ومثال ما جرى بين أتباع المذاهب الأربعة في المدرسة السنية وما جرى بين الأصولية والأخبارية في المدرسة الشيعية الجعفرية دليل على أن الصراع هو أوسع من أن ينحصر بين الشيعة والسنة. وفي تصوري أننا إذا لم ننفذ إلى عمق الأزمة ، فإننا حتى لو هدأنا من روع الخلاف السني الشيعي ، سنجد أنفسنا أمام فضاءات جديدة للصراع واعتمالات الوعي الشقي. لقد كانت التجربة السنية في تهدئة الوضع بين المذاهب الأربعة ناجحة، بل تكاد تكون انقلابا سعيدا أمّن نوعا من التلاقي بين أقطاب المذاهب الأربعة ولا يزال يؤمن مزيدا من التداخل والتكامل في حدود النوازل وما تقتضيه من انفتاح على مقتضيات المذاهب فيما بينها. وقد كان سماحة المفتي الشيخ شلتوت قد انطلق من روح هذا الواقع ليؤكد على جواز التعبد بالمذهب الجعفري واعتباره خامس مذهب من مذاهب السنة ، لما أدرك أن لا فرق في الأصول إذا ما تعاطينا معها وفق المساطير التي أرساها أعلام وأئمة المذهب ، والتي اتضحت بشكل كبير من خلال النشاط المشترك الذي كانت تقوم به دار التقريب وطلائع الوحدة والإصلاح والتقريب منذ العقود الأولى من القرن العشرين. جهود لم تكتمل ولم تؤمن لها شروط الاستمرارية الضرورية. الأمر يتعلق بحالة العزلة الطويلة بين السنة والشيعة ، حيث تطور تجربتين فيهما من الاختلاف ما زاد من حدته تكامل التعبيرين ضمن نسق سوسيو ثقافي أضفى تنوعا أكثر مما هو موجود بين المذاهب السنية ؛ بالإضافة إلى بعض الاختلافات التي تمس تفاصيل الأصول . وحيث استمر الخلاف طويلا وانعدم التداخل وارتفعت الرقابة الذاتية المتبادلة بين الطائفتين، وأصبح كل مذهب وكل طائفة تجتهد وتفكر وتنسق آراءها بعيدا عن الرقيب الذاتي الذي تكفله العمومات الإسلامية والمقاصد الكبرى للإسلام ، وفي مناخ الصراع والحراب ، حيث لم تراع الآخر ولم تتسامح معه ولم تقتصد في خلافها معه، بالإضافة إلى تواطؤ عوامل داخلية بالعوامل الخارجية ، كل ذلك أدى إلى تشكل تراث خلافي ، يستجيب للعصبية وثقافة الاستئصال أكثر مما يستجيب لثقافة التقارب والتسامح. إنه بتعبير آخر غياب المسؤولية لحظة تأسيس وتنسيق المذاهب، تحكمت به السياسات والدول لما كان المذهب يشكل أيديولوجيا سياسية للدولة. لقد ازدادت المشكلة فحشا لما نزلت إلى الجمهور وكان مقتضى تحصين أتباع المذاهب تكريس صورة نمطية ضد الآخر. إذا كنت سنيا وسمعت أن الشيعة لهم أذناب بقر أو أنهم أصحاب تقية لا يصدقونك القول أو أن لهم مصحف مختلف أو أنهم يعتقدون بخطأ جبريل في تبليغ الرسالة أو..أو.. فحتما لن يحصل ما يرضي السني الذي قد تتمكن منه هذه الصورة النمطية. وحينما يتصرف السني على أساس كل هذا التراث من التنميط ضد الشيعي ، فحتما الشيعي ينظر إليه كما لو أنه عدو لأهل البيت ، وبأنه استمرار للمشروع الناصبي. إنها علاقة محكومة بالكثير من الجهل بحقيقة المذهبين، وأن أحكام القيمة التي تنطلق من هنا وهناك مبنية على سيادة هذه الصورة النمطية الراسخة . السني مستكف بدراسة مذهبه والشيعي كذلك في الأعم الأغلب. وإذا درسه ، فعل ذلك من خلال تصميم ومقاربة معينة وليس بحسب ما هو مقرر في المدرسة الأخرى. ما ليس معقولا في نظامنا التربوي ، أننا ندعو إلى دراسة علم الأديان المقارن حتى نصل إلى درجة من التسامح والتفهم للآخر المختلف دينيا ، لكننا لم ندع إلى إدخال مادة المذاهب الإسلامية في مقرراتنا التربوية ضمن خطة تربوية مدروسة، وليس كما هو واقع في بلداننا أننا ندرس المذاهب الأخرى كما لو كانت مجرد أهواء وبدع وضلالات. المذهبية ولعبة السياسة ليس العيب في أن تعتمد أنظمة سياسية على مذهب واحد في سياستها الدينية إذا ما كانت خلفية ذلك إجرائية ، تفرضها شروط تمذهب مجتمع أو انتماء أغلبيته لذلك المذهب مع الحفاظ على الوضع مفتوحا تجاه المختلفين ، وأيضا في تأمين حقوق الأقليات في إطار سياسة دينية متسامحة ومفتوحة. إنها وضعية نظم سياسية من هذا القبيل، لها مشكلات مع قضايا حقوقية أوسع تطال الضروري أحيانا. والأمر يصبح فظيعا لما توظف المذهبية في ممارسة القمع، هنا يصبح الأمر مدعاة للصراع. إن الإشكال هنا في السياسة والتدبير لا في اعتماد الأساس الديني أو المذهبي في حدود الأجرأة والأحوال الشخصية، وعدم اعتبار الخارج عن المذهب بمثابة الخارج عن الدولة أو الإسلام. آثار السياسة على الصراع المذهبي السياسة حاضرة في كل شيء. وبالتأكيد إن منشأ الصراع هو سياسي، وسيظل سياسي. وقد كانت للمرحوم السيد شرف الدين الموسوي عبارة غاية في الأهمية: أن الذي فرقنا هو السياسة فلتجمعنا السياسة. هنا تصبح المسألة رهينة للإرادة السياسية، وهذا ما لم تظهر معالمه حتى اليوم. سياساتنا تتخبط في أزمة بنيوية وهي غير قادرة على تقديم رؤية أو مشروع لحل مشكلات خدماتية لأقطارها بالأحرى أن تقدم حلولا للعالم الإسلامي. وإذا كانت السياسة تلعب دورا سلبيا في الصراع المذهبي ، فحتما سيكون الاقتصاد والإعلام والثقافة وكل ما يقوم الدولة، طرفا في هذا الصراع وعامل تكريس وتأبيد لمفاعيله. التدخلات الخارجية ليست العوامل الخارجية هي من أوجد المادة الأولى للصراع المذهبي والطائفي في عالمنا الإسلامي . فنحن اختلفنا وتصارعنا وتقاتلنا قبل أن تكتشف أوربا القارة الأمريكية وقبل أن تغتصب الصهيونية فلسطين. لكن العامل الخارجي يحضر هنا كمحرض وموجه يستغل كل مواقع الضعف في العالم الإسلامي لتحقيق استراتيجيا أخرى لا علاقة لها بعلم كلامنا، بل لها علاقة بوضع اليد على موارد العالم الإسلامي . وعلى هذا الأساس لو قبل المسلمون أن يؤمنوا لقوى الهيمنة أطماعهم باسم مالك وابن حنبل والشافعي ، فحتما سيتشيع الاحتلال لهؤلاء ، وإذا أمّنا له أطماعه باسم علي والحسين ، فحتما سيتشيع الاحتلال لعلي والحسين. الاحتلال حاوية فارغة إلا من الأطماع. ولكنه قابل أن يصادق من يؤمن له مصالحه. ومع ذلك هو لن يقبل إلا بمزيد من التناقض والتفرقة بين أبناء العالم الإسلامي ، لأن قضية الهيمنة مرفوضة عقلائيا قبل أن يحتاج فيها الإنسان إلى أي دين أو مذهب ما. إن خطر العامل الخارجي يتضاعف هنا إذا ما وجد الفراغ السياسي ، أي انعدام تدبير أمثل لأوضاعنا ومشكلاتنا. الدول الاستعمارية والمهيمنة تعاني هي الأخرى من التعددية والطائفية . وهي تحاربنا بجيوش متعددة الأعراق والمذاهب والطوائف والألوان لا توحّد بينهم سوى الوطنية وخدمة العلم. ولكنها تستغل ضعفنا وغياب الانفراج السياسي الذي وحده يؤمن الدولة من احتقان المجتمع وتمكين العامل الخارجي من استغلال الورقة الطائفية والمذهبية. نعود مرة أخرى لندرك بأن القضية تتعلق بإرادة سياسية وبنمط سياسي ، يكرس فينا القابلية للاستعمار. فحينما تغيب دولة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة الحقيقية ، دولة الأحزاب الحقيقية والمجتمع المدني الحيّ والدولة القوية التي تملك الإرادة السياسية والقرار السياسي والسيادة والاستقلال والثقافة الحديثة المفتوحة على التقدم والتنمية والتعايش والتسامح ، فلن تنجح دعوات الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي والفئوي والمصالحي ؛ لأن دعاوي الصراع في المجتمعات المتخلفة والدول الهشة لا تقف عند الاختلاف المذهبي والطائفي والديني بل تمتدّ إلى ما لا يد لهم فيه: الخلاف العرقي والعنصري والقبائلي والفئوي... وحدة بين أهل المذاهب وتقريب بين المذاهب لعلها من أهم الصور المطروحة في مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية. وهي تعبير عن وجهة نظر راجحة لدينا ضمن جملت ما طرح في لحظات مختلفة. لكننا نستطيع اليوم أن نؤكد بأنها لا تعدو أن تكون محطات في تطور المنظور لمسألة التقريب. ذلك المنظور الذي بات أكثر واقعية وتشخيصا للواقع الإسلامي ومعطياته وتناقضاته وأزماته. الوحدة بين أهل المذاهب ، لعله آخر ما توصل إليه الفكر التقريبي ، لأنه أدرك أن المذاهب والمدارس الإسلامية لا يمكن التعاطي معها كما لو كانت مواقف وآراء مجردة عن أنساق علمية وفكرية ، تلخص قرونا من الفكر والنظر . الوحدة بين أهل المذاهب يرمي إلى إيجاد ثقافة حوارية وقاعدة أخلاقية لتدبير الخلاف بين المسلمين يقبل بعضهم ببعض دون أن يفسد الخلاف في الود قضية. وهذا يناسب نضج الاجتماع البشري اليوم القائم على ثقافة التسامح. مقتضى التسامح أنك لا تحاسبني على خطأ ما دمت من المحتمل أن تقع في الخطأ نفسه. فانطلاقا من أن الإنسان بطبعه خطاء، فإن لا أحد يملك أن يحاكم الآخر على خطأ يحتمل الوقوع فيه أيضا. ولو حللنا ذلك في مجال الحقائق لقلنا إن الخطأ في المعرفة وارد ومحتمل. فلا يمكنك أن تحاسبني وتحاكمني أنني قطعت برأي قطعا، طالما أنك تقطع بشيء وترى أنه الحقيقة. مسألة القطع مسألة ركيزة في المقام. ولذا نجد أن الأصوليين اعتبروا مدار التكاليف على القطع. واعتبر قسم منهم الأصوليون الإمامية أن القطع حجة ذاتية ليست مجعولة ، واعتبروا طريق القطع معتبرا مهما كان مصدره ، لأن القطع في النتيجة يبلغ بالقاطع إلى درجة يرى الحقيقة كما قطع بها حتى لو كانت في الواقع غير كذلك. فالقطع حجة وعليه مدار التكليف. وفي هذه الحالة لا نستطيع أن نحاسب أصحاب الجهل المركب ، لأن قطعهم لا يقل قوة عن قطع من طابق قطعهم الواقع. لذا كان الجهل المركب من أقسام العلم عند البعض، حتى وإن كان جهلا في جهل. وعليه، مقتضى التسامح أن يقال طالما أن قصة القطع هي كذلك، وبأن المقطوع به يحتمل الموافقة وعدمها، وما دام أن الإنسان يدرك أن القاطع مشدود إلى اعتبار قطعه حقيقة، كان هذا مدعاة لتفهم موقفه وعدم محاكمته على قطعه. بل قصارى ما يجب فعله محاولة الدخول معه في حوار لصرفه عن قطعه. فلا نحاكم ولا نحاسب إلا المعاندين. بينما الموقف من القاطع أن تحاوره وتكشف عن عوار قطعه ، وأيضا تمنع من ترتيب آثار على قطعه إن كان ظالما. أعود لأقول إن الصيغ المذكورة للتقريب تتفاوت في مراتب واقعيتها. فمثلا أن نتحدث عن دمج بين المذاهب ، فهذا ليس فقط أمرا مستحيلا من وجهة النظر العلمية والتاريخية، بل هو بخلاف منطق الأشياء وسنة الأحوال وتطور المعرفة. فالاختلاف سنة طبيعية في الفكر كما في مظاهر الوجود. ومقتضى الحرية ومقتضى التفاوت في الخبرات والعلوم والتفكير وما شابه مقدمات ضرورية لوجود التنوع والتعددية. هي بالتأكيد أهداف مثالية ، لكنها محكومة بفهم خاطئ لوحدة الأمة التي هي كالبنيان المرصوص. فهذا أجنبي عن إشكالنا ، لأن البنيان المرصوص قد يكون بنيانا متنوعا . ثم إن مقتضى التنوع في الاجتماع الإنساني هو التكامل في الوظيفة ، ولا تكامل إلا مع المختلف. في تقديري أن ثمة إمكانية لإرساء استراتيجيا للتقريب تستند إلى معالجة شمولية وجذرية ، يكون فيها الجميع مسؤولا وتنسق فيها الأدوار من قمة الهرم السياسي إلى أسفل المجتمع المدني؛ أي نهج سياسة تقريبية يساهم فيها النظام التربوي والسياسة الدينية والثقافية والاقتصاد والخارجية والداخلية. قوام هذه الخطة أن نخفف من قوة العازل بين الطوائف والمذاهب ونؤمن ضربا من الذهاب والإياب السمح بين مختلف المدارس، ونرسي ثقافة قوامها أن الاختلاف أصل وأن نبرز القيم العليا للإسلام التي بها يكون الخارج عنها خارجا عن الإسلام وليس أن الخروج عن المذهب خروجا عن الإسلام، وهذا لا يتحقق بالعزلة وسياسة "لا مساس" ومنع المعرفة ؛ فهذا يؤدي إلى نتائج عكسية ، بل المطلوب إشاعة المعرفة الصحيحة والتخفيف من وطأة الخلاف بتتبع الأوهام المؤسسة لهذا الفصام النكد بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، وإشاعة روح المسؤولية وثقافة المسؤولية وتكريس ثقافة وقيمة الأخوة تجاه الجسد الإسلامي الكبير. هذا النوع من التخفيف من وطأة الخلاف والأوهام المؤسسة له من شأنه أن يقرب بين المذاهب ، لأن أكثر ما يمثل اليوم محط استشكال الطرف الآخر هو محض أوهام يمكن القضاء عليها بالعلم . وهذا ما نسميه بالاقتصاد في الخلاف. فهذا الأمر ستكون له نتائج حتمية على الأرض ، لا سيما إذا ما جرى في مناخ مختلف عن مناخ التوجس والتنميط. فكما أن مناخ التوتر أنتج ثقافة طائفية شامخة البنيان ، من الممكن جدا أن ننتج في مناخ التسامح والتقارب ثقافة اختلافية تؤمن نوعا من الاقتصاد في الخلاف والتواصل عبر خط ذهاب وإياب ناجع بين المذاهب الإسلامية. طوباوية إسلام بلا مذاهب هذا شعار جميل ، ومقصد نبيل ، لكنه كما قلت هو شعار. شعار مستحيل وليس ذا موضوع. إن المذاهب الإسلامية ليست ظاهرة عارضة على الإسلام في نفس الأمر أو أنها على مسافة من أصوله وتعاليمه. إن الإسلام منذ أن برحنا عصر التنزيل كفّ أن يظهر كما هو في نفس الأمر. فالمذاهب هي طريقة في فهم الإسلام ومنهج في الاستنباط . وعليه ، فإن دعوى إسلام بلا مذاهب على إغرائيتها ، لن تكون إلاّ دعوة مذهبية جديدة متلبّسة، تحتاج إلى من يؤصلها ومن ينسقها ، أي تحتاج إلى إمام مذهب جديد لن يختلف عن أئمة المذاهب الأخرى. ونحن الذين ندعوا إلى فتح باب الاجتهاد لا نرى مانعا من إبداع مذاهب تفكير إسلامية مختلفة ومتنوعة اجتهادية. فكل مجتهد مؤهل لأن يكون إمام مذهب في التفكير والفقه لا شك في ذلك . ويظل للإسلام مرجعيته الكبرى التي أجمع المسلمون على أنها لا تقاس بغيرها . إنها أشبه بدعوى أخرى تتحدث عن نهاية الأيديولوجيات، أو دعوى أخرى لا تقل مثالية، البحث عن الدين الحقيقي؛ الدين الكوني أو دعوى دين الخروج من الدين. إن قصارى ما هنالك أن نتحدث عن معالم كبرى للإسلام، تلك المعالم الكلية التي هي محط اتفاق ثم نمنحها الحكومة على باقي أشكال الاختلاف ضمن رؤية مقاصدية، تجعل الخلاف المذاهبي والطائفي يجد مرجعيته عند اشتداد الخلاف واستفحال الأزمات ، في هذه الأطر الإسلامية العليا. وعلى هذا الأساس كان لا بد أن ينشأ مجلس إسلامي أعلى ، يؤدي وظيفة المرجع الأعلى للأمة على خلفية العمومات والمشتركات والمقاصد العليا للإسلام كدين والمسلمين كأمة في ضوء التحديات التي تحدق بحقيقة الإسلام كدين وبمصير المسلمين كأمة. ليس المطلوب أن نجد مخرجا للمسلمين بإخراجهم عن مقتضى أطرهم المذهبية ، كما وجد بعضهم المخرج في حكاية دين الخروج عن الدين. هذا حل سهل، لكنه ممتنع. التعاطي مع الواقع كما هو، ومحاولة إيجاد حلول ميدانية وتتثقيف مستمر والنهوض بهذه المسؤولية التحسيسية على نطاق واسع واستنهاض كافة القطاعات في تحقيق هذا الهدف. لأن المسألة ليست جانبية أو مهملة ، بل هي مرتبطة بالوضع الاستراتيجي والمصيري للأمة. بل إن النجاح في التقريب له بالتأكيد مردودية على التنمية والاقتصاد ومجمل نهضة الأمة. إننا نتساءل أمام هذه الدعوى لإسلام بلا مذاهب ، فأقول : أين يوجد هذا الإسلام ال "لا بشرط" أو "بشرط لا" ، كما يقول الحكماء. حينما نخوض في تفاصيل تتعلق بالأصول أو الفروع، حتما سنختلف. فكل دعوى تحتاج إلى تنسيق وكل تنسيق يستدعي مواقف منهجية وعلمية . وكل تنسيق هو تمذهب. وحتما ستفتح دعوى إسلام بلا مذاهب الباب على مصراعيه لظهور مذاهب بعدد الآراء والعصبيات المعاصرة والمصالح المختلفة. المذهبية قدر الأديان والأفكار والفلسفات. صحيح أن الدين هو في نفس الأمر واحد؛ ذلك الدين الذي هو في مرحلة الثبوت أو ذلك القرآن الذي هو في اللوح المحفوظ. أما حينما ينزل ويصل إلى مرحلة الإثبات وتحيط به النوازل ويصبح التأويل وحده الطريق إلى فهم النص ، فحتما سيكون الإسلام بقيد المذهبيات . فليست مهمة البحث عن إسلام بلا مذاهب بأسهل من محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية وفق رؤية أكثر واقعية وعملية. من السهل أن يقول الطبيب للمريض أننا في حاجة إلى جسم جديد بلا أسقام ولا أمراض ، لكن مثل هذه الدعوى لا تعالج مريضا ولا تجلب له الشفا. لا نحل مشكلة بإشكالية. لنثبت أولا إمكان وجود إسلام مجرد عن المذاهب، ثم نبحث في هذه الإمكانية التي يطلبها جميع أهل المذاهب. وإذا ما اعتبر أن طريقة ما في فهم الإسلام هي الإسلام الحقيقي المجرد ، فتلك عودة بالإشكال إلى الوراء، أي رأيي هو الصواب، ورأيك الخطأ. ومن هنا بدأت قصة المذاهب نفسها. فدعوى إسلام بلا مذاهب مفارقة كبرى تعاني من دور وخلف منطقيين! هل أطروحة التقريب بين المذاهب قد فشلت ؟ فتوى الشيخ شلتوت رحمه الله علامة فارقة في مسار التقريب بين المذاهب. وليس بعيدا عنها مواقف شيخ الأزهر من الشيخ سليم البشري حتى الشيخ علي جمعة وشيخ الأزهر الطيب في تصريحه الأخير الذي تكامل مع آراء كبراء الأمة لا صغارها. وطبعا ثمة ما أعاق هذا المسار الذي واجه معيقات موضوعية ، لها علاقة بإرادات سياسية وهواجس سياسية، حيث الدول المستقبلة لهذا المشروع عاشت على سبيل التوتر السياسي ولم تكن دائما متحمسة لهذا المشروع. التناقضات السياسية في العالم الإسلامي والشرط الدولي الحاضر بشكل من الأشكال في موضوع التقارب بين أقطار العالم الإسلامي والمذاهب الإسلامية ، كانت أكبر معيق لتقدم مسار التقريب بين المذاهب الذي اتخذ في الفترات الأخيرة طابعا موسميا وشلليا بصورة غير مدروسة وتتحكم بها أقطاب عاجزة عن استقطاب واحتواء العالم الإسلامي ورسم خطة حقيقية تطال المجال الإسلامي كله عبر فعالياته الكبرى والمؤثرة. وحينما نتحدث عن الشرط الدولي والعامل الخارجي فذلك لسبب بسيط وهو أن التقريب بين المذاهب معناه التقريب بين شطري الأمة وينضاف إليه الوحدة بين دول إسلامية كبرى على أرضية الرابطة الإسلامية وما يستتبعها من آثار سياسية واقتصادية وحضارية. وكلنا يدرك أن هذا النوع من الروابط ينظر إليها على أنها تهديد ضمني لمشروع الشرق الأوسط الكبير ؛ مشروع يجد مقدماته في إعادة تفتيت المنطقة وتفكيك روابطها الدينية والحضارية لصالح مشروع تشكل هوياتي جديد في أفق شرق أوسط جديد وكبير له معاييره وقيمه وغاياته وأهدافه وإمكاناته التي تقطع مع كل صور المنظومة الثقافية السياسية والحضارية لما يعرف بالعالم العربي أو العالم الإسلامي وما شابه. واليوم تبدو حالة العراق نموذجا لحضور هذه السياسات التي تريد أن تبلغ بالتناقضات الداخلية إلى منتهاها. مع أنني لا أعتقد أن ما يجري في لبنان هو عامل فشل في سياسة التقريب. فلبنان قدم أعظم نموذج لإسقاط خيارات التفتيت والفتنة الطائفية ، رغم أنه لا يتمتع بدولة قوية . لكن المجتمع اللبناني يملك ثقافة ووعيا بمخاطر الحرب الأهلية ونجح في أن يضع حدودا حمراء في طريق الفعل السياسي، مما جعل الدعوات التفريقية في عداد المقموع والشاذ. ففي بلد مركب تركيبا طائفيا مثل لبنان، يشهد تجمهرا سياسيا في ساحتي الشهداء ورياض الصلح لأكثر من مائة يوم دون أن تحدث انزلاقات في اتجاه العنف الأهلي ، وذلك هو قمة النضج وأيضا اليقظة والمسؤولية والحركة التحسيسية المتواصلة التي تقوم بها فعالياته الوطنية. لا خوف على لبنان ، بل إن لبنان هو المثال النموذجي الذي يصلح مثالا على نجاح التوافق والوحدة والتقارب رغم كل التحرشات التي تهدف إدخاله في أتون حرب أهلية. يتحدث وليد جنبلاط عن فائض القوة لدى حزب الله ، الذي فسّر به جنوح المقاومة أحيانا لتكريس قوتها في البلاد ، لكن جنبلاط نفسه أدرك أن فائض القوة هذا لم يخرج عن مطلب استقرار لبنان ، حتى أن السابع من إيار كان منعطفا أساسيا لدرء فتنة كانت على الأبواب. فلو كان فائض القوة لدى طائفة في مجتمع لا يستحضر مخاطر هذه الحرب لحدثت حوادث خطيرة. بل حتى العراق ، لا يمكن أن نعتبره سقط سقطة لا رجعة فيها في الفتنة الطائفية. ثمة محاولات كثيرة لاستدراج العراقيين لهذه الفتنة ، لكننا حينما نقيس وضع العراق والفوضى وسياسة الاحتلال وما شابه بحجم ما يقع على فظاعته ، نقول إن العراق لن يسقط نهائيا، فثمة إرادة لا يستهان بها داخل العراق لإحباط مخططات الفتنة، وهذا طبعا لن تظهر معالمه إلا بخروج الاحتلال من أرض العراق والوصول إلى صيغة توافقية لدرء الفتنة وتحصين العراق من خطورتها. لذا أقول ، ليس مثال العراق ولبنان دليلا على فشل سياسة التقريب، بل إن المثالين المذكورين من شأنهما أن يحفزا إلى مضاعفة الجهود وإعادة فتح ملف التقريب بين المذاهب والدفع بمطالبه إلى أقصاها. إنهما محفزان لمزيد من السياسة التقريبية وليسا أمارة على فشلها. ففي العراق وفي لبنان لعبت المرجعيات الدينية دورا بارزا في درء الفتنة الطائفية . وهذا أمر لا يحجبه كل الضوضاء الذي يروجه أعداء العراق والمتعالمون على شعبه الذي عبّر في كل الانتخابات عن قياداته التاريخية رغم محنة الاحتلال. المنظور العلمي والواقعي للوحدة والتقريب كما ذكرت سابقا ، إن الطريقة العلمية تتلخص في النهوض بجهد استقصائي لمواقع الخلاف ، وهذا لا يكفي بل بتكريس الدرس المذاهبي المقارن لتحصيل ملكة التفكير عند هذا المذهب وذاك. إن الدرس المقارن لا يتحقق إلا بقطع الصّلة مع الحنين العقائدي للمذاهب. فلا هو مجرد سفر فضولي في مصنفات الآخر ولا هو انتقاء مفضوح في نصوصها ولا تصرف في غير المعتبر من متونها وآرائها. إن الدرس المقارن لا يقوم به إلا الخارجون عن التمذهب وسلطته. الذين يسعون لترجيح مذاهبهم عنوة ليسوا مقارنيين. المقارنيون من خرجوا منهجيا ثم رجعوا أو خرجوا ولم يرجعوا. وإلاّ فهي العقائد تفعل فعلها خارج إطار النظر. من شأن جهد وحركة علمية كهذه أن تضع بين العلماء قاعدة معطيات وافرة، لمرحلة أهم من الأولى وهي مباشرة تبديد أشكال الأوهام المؤسسة للخلاف في نطاق ما سميناه بالاقتصاد في الخلاف. فبدل أن يكون عدد مواقع الخلاف خمسين في المائة سنكتشف من خلال هذا العمل أن عدد المواقع تقلص إلى عشرين أو عشرة بالمائة. هذا عمل إحصائي يمكننا من أن نشرع في المرحلة الثالثة، حيث لا ينبغي أن يدور النقاش حول ما ليس موضوعا للخلاف. ثم يستمر البحث يتقدم خطوة خطوة، مرحلة مرحلة، لنقف على الضروري من الخلاف، فنجد حتما أنه أقل مما هو مورد اتفاق. وأيضا سنكتشف أن هذا المقدار من الخلاف لا يخرج صاحبه من الإسلام بل يخرجه من مقتضى مذهب من المذاهب. نتائج هذا الجهد العلمي الجماعي هي ما سيشكل الخميرة لمادة علم أصول المذاهب المقارن التي يتعين أن ينهض بها القطاع التربوي في مجتمعاتنا. الإمتاع والمؤانسة ضرورية ، لأنها مناسبة للتّلاقي والمناظرة العلمية التي تحول الاختلاف من خلاف ومواقف واصطفافات إلى متعة معرفية تساهم في إنماء العقل والمعرفة، وتجعل الأمة أشوق لأن تستمتع بالاختلاف منها بأن تعيش وحدتها الخالصة ، التي هي وحدة مستحيلة في حق الاجتماع ، مادام هو محكوم بسنة التحول والتغير وهو مصداق قوله تعالى : "لتركبن طبقا عن طبق". إذا أدركنا فلسفة الاختلاف سوف ندرك حتما كيف نختلف. لأننا إذا اختلفنا في موضوعات الخلاف فإننا لن نختلف في فلسفة وأخلاق الاختلاف. هذا مقتضاه الاتفاق في الاختلاف؛ أي الاتفاق على أرضية منهجية وأخلاقية وثقافية لأدب الاختلاف، وهو أمر بحثه القدامى في تراثنا ووضعوا في طريقه علما كاملا؛ آداب المناظرة وآداب الخلاف. دور مؤسسات التقريب لقد قامت مؤسسات التقريب بجهد كبير وطموح تحمد عليه سواء عندما تأسست دار التقريب بالقاهرة أو حين تأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب في طهران. لكن لا ننسى أن ثمة معيقات لم تسمح بمواصلة المساعي في هذا الاتجاه. فلقد كان العمل من خلال دار التقريب بالقاهرة ساهم فيه أعلام من مصر ومن العالم العربي والإسلامي ، وهو في الأصل مبادرة من إيران ، نهض بها السيد القمّي برعاية من مرجع الدين الكبير يومها السيد البروجاردي. ووجدت لها في القاهرة الموقع المناسب الذي سرعان ما أدى إلى استقطاب أعلام من العالم الإسلامي والعربي ، ساهمت في إيجاد هذه الثقافة التقريبة. وقدمت آثارا لا زالت شاهدة على ذلك التطور في مستوى الخطاب والمسؤولية والإيجابية التي طبعت مبادرة ومساهمة كل الفرقاء. صحيح أن دار التقريب أغلقت في القاهرة، ولكن ثمة محاولات من إيران من خلال المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وهو يعقد مؤتمرات دورية مستمرة. لكنني أعتقد أن ثمة ما هو مطلوب أكثر من مجرد مهرجانات لإلقاء أوراق واستعراض حسن النوايا.فثمة الكثير ممن ازدانت بهم تلك المؤتمرات لم ينطقوا بكلمة حقّ حينما حلّت الفتنة على الأبواب. مشروع مهم وكبير لكن ثمة ملاحظات ليس هاهنا موردها، تجعل المشروع غير قادر على تحقيق الأهداف النبيلة والكبرى للتقريب وترجمتها إلى مشاريع وخطط وكذا استيعاب العالم الإسلامي كله بسياسة التقريب وعدم الوقوع في الجزاف والاعتباطية في تقرير وضع السياسة التقريبية والمقاييس التي تقرر بها تلك السياسات ومفاعيلها. هنا يأتي الحديث عمن هو المسؤول عن القيام بمهمة التقريب. والحق أن الجميع مسؤول من موقعه. النظم والمؤسسات والعلماء. وحينما نقترب من هذا الواقع نلاحظ أن كل هذا الثالوث لم يقدم كل ما عليه، اللهم إلا جهود فردية من هنا وهناك. العمل المؤسسي ضعيف ولا يغطي كل المجال. النظم مترددة ومتخبطة في مشكلاتها المزمنة، العلماء ليسوا كلهم سواء في تحمل عبء المسؤولية. بل منهم من يفضل سياسة الاصطفاف والتخندق الطائفي والمذهبي. بينما المطلوب من العلماء أن يظهروا علمهم متى اشتدت الفتن. المسؤولية جماعية ومتكاملة بل هي جدلية . فلو التقت السياسة بالعلم بالعمل المؤسسي ، نستطيع أن نتقدم على مسار التقريب بأسرع ما يكون وأوسع ما يكون. أي دور للعلماء؟ يجب أن نبحث كيف يستطيع العلماء تحرير أنفسهم من التوظيف السياسي. نحن ندرك أن الكثير من العلماء يلوذون بالعزلة والسلبية حتى لا يتورطوا في السياسة. وهنا مكمن الخطأ. فالسياسة كما قلنا موجودة في كل مكان. هي الهواء الذي نتنفسه، هي الرغيف الذي لا يصلنا إلا بعد أن يتسيس. السياسة إما أن تمارسها أو تمارس عليك. إما أن تمارسها بوعي أو تمارس عليك بلا وعي. فالعالم المعزول هو خائض في السياسة بشكل آخر، هو إن لم يكن فاعلا سياسيا فهو مفعول به سياسيا. فيعود الأمر إلى الفاعل السياسي صاحب الحسابات السياسية. حينما تصلح سياستنا يصلح العالم. وكذا حينما يصلح العالم يصلح العالم. إذا لم يستطع العلماء أن يمنعوا من استغلال الدين لأغراض سياسية كيف يحولون دون استغلال المذاهب؟! في الحقيقة أنا شخصيا لا أملك حلا لهذه القضية إلا بإصلاح سياساتنا وإصلاح أوضاعنا وتحرير الإنسان من رهانات السياسات الخاطئة ومن ضروب الاستبداد. ففاقد الشيء لا يعطيه! الحل في الديمقراطية ودولة المواطنة والقانون مع أن الديمقراطية في الأيام الأخيرة أصبحت شعارا يستغل هشاشة كياناتنا لمزيد من الاصطفاف والتقسيم والتفريق، إلا أننا نؤمن بأن نشوء وقيام ديمقراطيات محلية تستمد شرعيتها ومصداقيتها وجدواها من شروطنا المحلية، أي أن نثقف الديمقراطية ولا نقبلها لا بشرط ثم نعمل على تثقيفها وتبيئتها على درجة من اليقظة والتوافق والحوار الداخلي قبل أن تفرض علينا بتوابع وشروط خارجية تعسفية. ثقافة المواطنة والحقوق ودولة القانون من شأنها أن تخفف من وطأة الخلاف، أو على الأقل تضع أمام المختلفين وسائل تواصلية ناضجة ومتقدمة وتضمن سلامة التواصل وتحيد العنف والتعصب. إنني أطلب إنسانيتي من خلال الإسلام ومن خلال مذهب أراه يجسد التأويل الراجح للإسلام. لكن حينما يستبد العنف والإقصاء ونفشل في تطوير مشروع مواطنة من داخل التقسيم المذاهبي والطائفي ، فدولة القانون والحقوق والمواطنة تكفل حدا أدنى من إنسانيتي ، حتما ستكون راجحة. ولكنني أقول بالنسبة لبلداننا العربية والإسلامية التي تعاني من مشاكل تدبير تعدديتها الدينية أو الطائفية أو العرقية أو العشائرية، إن قيمنا لم تصل إلى الحد الذي يصبح الإسلام بمختلف مذاهبه المعتدلة نقيضا لقيم ومتطلبات الدولة الحديثة. ومن يدري أن الديمقراطيات في ظل هذه الثقافة الخلافية قد تنتج فوضى لا قبل لنا بها. لنقل إذن أن الأمر يخلو من التزاحم. نستطيع أن نكون ديمقراطيين بمذاهبنا وطوائفنا وأعراقنا وفئاتنا الاجتماعية... فالديمقراطية لا تمنع من أن أكون سنيا أو شيعيا.. دينيا أو علمانيا.. عربيا أو كرديا أو فارسيا أو تركمانيا أو أمازيغيا... لكن الديمقراطية قد تمنع الشطط في استعمال سلطة تدبير هذه التعددية. [email protected]