بين المتعاطفين مع السياسة الروسية ثمة من يخلط بين الإمبراطورية التي كانت وازدهرت زمن الإمبراطوريات، وحتى في زمن الإمبراطورية السوفييتية، والتي صاحبها ازدهار الفنون والأدب والرياضة ونمو الصناعة، وبين روسيا اليوم التي باتت مجرد دولة لا يكاد أحد يلحظ أنها تضيف شيئا جديدا للعالم في مجال الثقافة والفنون والصناعة والتكنولوجيا والعلوم. ثمة من يخلط بين الاتحاد السوفييتي السابق وبين روسيا اليوم، التي يتحكم فيها فلاديمير بوتين، والطغمة الملتفة حوله من رجال المال والأمن، بحيث تحولت إلى بلد من بلدان العالم الثالث، في نمط الحكم وتهميش المجتمع، وكبح التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفقدان الديمقراطية الليبرالية، التي تميز الدول الغربية. وفي حقيقة الأمر فإن روسيا اليوم هي بمثابة دولة فقيرة، فهي رغم حجمها الكبير، كأكبر بلد في العالم، مع 17 مليون كلم2، وقلة عدد سكانها (145 مليونا)، وثرواتها المعدنية والنفطية، فإن مستوى المعيشة فيها منخفض، ومستوى خدمات التعليم والصحة والبنى التحتية فيها مترد. وبحسب تقرير التنمية البشرية (2014)، الصادر عن هيئة الأممالمتحدة، فإن متوسط حصة الفرد من الدخل السنوي تبلغ في روسيا 23 ألف دولار (الولاياتالمتحدة 51 ألفا)، أي أن ثمة 45 دولة أعلى منها، علما أنها تحتل الترتيب 57 في دليل التنمية البشرية. مقارنة مع الولاياتالمتحدة التي يبلغ ناتجها القومي السنوي 15 ترليون دولار، فإن الناتج السنوي لروسيا يبلغ 3.4 ترليون دولار، وثمة دول عديدة أعلى منها، أو تتساوى معها. ومعلوم أيضا أن الولاياتالمتحدة تنفق 3 بالمئة من دخلها القومي على البحث العلمي، أي ما يساوي 450 بليون دولار سنويا، بينما تخصص روسيا 1.2 بالمئة فقط، أي ما يقارب 40 بليون دولار. كذلك فإن الولاياتالمتحدة تنفق على التسلح حوالي 700 بليون دولار سنويا، أي ما يعادل خمس الناتج القومي الروسي. والأهم من ذلك أن ثمة فجوة علمية وتكنولوجية كبيرة بين الطرفين، إلى الدرجة التي تشكو فيها روسيا من العقوبات الأميركية، وتلح بضرورة رفع الحظر عنها؛ مع كل ادعاءاتها عن ذاتها بأنها دولة عظمى. فوق ذلك يمكننا أن نتعرف على واقع روسيا من حقيقة أنه لا توجد سلعة واحدة لديها تمتلك المواصفات التي تمكنها من منافسة الآخرين، لا في الملبس ولا حتى في الأدوات المنزلية، ولا في أي صناعة. وقد شهدنا أن روسيا، وطوال قرن كامل، ظلت تعرّف من خلال تصديرها ثلاثة أشياء: الأيديولوجية الشيوعية والنفط والغاز والأسلحة. الآن ذهبت الأيديولوجيا والثروة النفطية تدهورت أسعارها، فضلا عن وجود مصادر عديدة، بحيث لم يبق سوى السلاح، وعبر هذه السلعة يحاول بوتين تعزيز مكانته ومكانة دولته، حتى لو تطلب الأمر تدخل وحدات عسكرية روسية، كما يحصل في التورط الروسي في سوريا. لنلاحظ في هذا الصدد أن مجلس الدوما الروسي، في عهد بوتين، صادق بالإجماع على التدخل العسكري في سوريا، وأن الكنيسة الأرثوذكسية باركت ذلك، وأن القوات العسكرية سارعت إلى العمل دون أي تردد أو سؤال، والمغزى أنه ليس ثمة أحد في روسيا اليوم يقول لا لبوتين، أو يعترض على ما يقوم به. هذا هو واقع روسيا وشعبها اليوم، في ظل قيادة بوتين، الذي يبحث عن تعزيز مكانته وسلطته بالدخول في مغامرات، دون حساب للعواقب التي يمكن أن تنتج عنها، مستخدما في ذلك الشيء الوحيد الذي مازالت روسيا تمتلكه، أي التسلح والقوة العسكرية، لأنها لا تملك شيئا آخر. الآن، من الصعب ومن المبكر، التكهن بمآلات التدخل العسكري الروسي في سوريا، لكنها في كل الأحوال، وعلى الأرجح، لن تكون لصالح روسيا ولا شعبها.