انعى ببالغ الأسى وحرقته لكل الأصدقاء وفاة حبيبنا فريد النعيمي الذي تصارع دون جدوى مع مرضه العضال الذي أصاب كل جوارحه وعطل فيه كل خلية من خلاياه، فحوله إلى ظل بارد ، ولون باهت ، وصوت خافت ، ومخلوق يتحسس الطريق فلا يركبه ، ويحاول مثابتة الوجه الذي يقابله فلا يحصل على قسماته وسمات بشرته ، لأن نور بصره غيبه ظلام سرمدي ومحا إشعاعه ضباب أبدي. علاقتي بفريد علاقة سنوات طويلة لا يأخذ منه النسيان صدقها، وإخلاصها، ووفاءها. تعارفنا في مكتب الاتحاد الاشتراكي بالحي اللاتيني في نهاية عام 1967، لما قررت- وأنا الشاب الطموح- أن أتابع دراستي بجامعة السوربون ? قسم اللسانيات . كنت أظن أنه طالب من طلاب المغرب المسجلين في المعاهد العليا والكليات المتخصصة ، وأنه جاد في التكوين والدراسة والبحث . غير أنني اكتشفت فيما بعد أنه لم يحظ بأي تكوين تعليمي يذكر، وأن تحفزه النادر وإرادته في اقتحام ابواب المعرفة هما اللذان دفعاه إلى محو أميته بواسطة تعلم الفرنسية عبر دروس ليلية ، وسماع ، ومشافهات يومية فرضتها عليه أعمال مختلفة تداولها لاكتساب رزقه، وحفظ ماء وجهه ، مدفوعا بغلوة شبابه ومتذكرا ما قاساه من حرمان في قريته السوسية ، وتعذيب على يد بعض رجال المقاومة . لقد وجد في باريس مدينة النور والعلم ما لم يجده في مسقط رأسه : بعثا جديدا وحرية في الهواء المستنشق ، والتعبير عن كل ما تتمخض به الذات المسجونة . ومن حظه كذلك أنه التقى بزوجته (شوك ) التي كانت له الحصن الحصين ، والقلب الأمين إلى أن التحق إلفها بالرفيق الأعلى ، وفي نفس الوقت عاصر وصادق في الستينيات جيلا مباركا من النخبة المغربية : المهدي بن بركة ، عبد الرحمان اليوسفي ، عبد الله العروي، علال سيناصر ، حرية سيناصر ، فتح الله والعلو ،لحبيب المالكي ، إدريس بنعلي ، محمد برادة ، محمد خير الدين ، محمد باهي، وشخصيات أخرى علمية وطبية يطول ذكرها . أما من المستشرقين فقد كان صديقا حميما لجاك بيرك وماكسيم رودانسون .إن هذا الوسط النخبوي هو الذي كان مرآة لفريد النعيمي ، ومقياسا لما يجب امتلاكه واعتناقه في أقرب وقت، وإلا ضيع الشجرة والثمرة . وما كان منه والحالة هذه إلا أن التحق بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا حيث لم تكن البكالوريا مطلوبة للتسجيل قبل التخصص في تاريخ المغرب ، وكيف لا وهو قد أصبح يصول ويجول في اللغة الفرنسية بفضل ذكاء نادر ، وإرادة تدفعه كالماء الهادر للتمكن من أسباب العلم، وأدوات البحث، وأساليب المحاججة في شتى المواضيع التي كانت شائعة ومتداولة لدى النخبة المغربية، فيما يتعلق بالمغرب السياسي والاقتصادي والحريات العامة . إن وضعيته الجديدة المكتسبة - كباحث - بعرق جبينه هي التي أعادت له الاعتبار، ونفضت عن اسمه كل غبار، واصبح لامعا في اجتماعات الطلبة بدار المغرب ، والندوات المنعقدة هنا وهناك ، والمؤتمرات المنظمة حول شخصيات تاريخية مغربية ، وحول مواضيع وقضايا تخص الحريات والمواطنة في المغرب الحديث. ولم يتوان في الدفاع عن كل ما يجعل من المغرب بلدا ديموقراطيا متكاملا في تاريخه وجغرافيته وأجهزته الاقتصادية والتشريعية، ومحترما من قبل الدول المشهورة بحرياتها وبالعيش الرغيد. إن حب فريد النعيمي للمغرب هو الذي جعل منه ? زيادة على اهتمامات أخرى ? جماعة كتب حول المغرب قديما وحديثا بحيث أن مكتبته المشهورة لدى أصدقائه الجامعيين فاقت الآلاف من الكتب الفرنسية النادرة التي اقتناها كالذهب من كتبيين متخصصين على مدى سنوات طويلة . ونحمد الله على أن معظم هذه الكتب القيمة قد أهداها صاحبها لمؤسسة مغربية ثقافية ، لما علم أن مرضه لا علاج له ، وأن أجمل ما يهدى للمغرب هو العلم المنفتح والحرية الدائمة . رحم الله فقيدنا وألهم زوجته وذويه واصدقاءه الصبر والسلوان * أستاذ جامعي