إلى روح فريد النعيمي، وعزاء لباريس هي الثامنة مساء، أغادر النادي الرياضي «Hilth City»، حيث أُعنى عبثا كل عشية بجسد فان. ألوي يمينا لأجدني بعد خطوتين في باحة مقهى «Haagen-Dazs» صيفا، أو قبالة واجهته الزجاجية، شتاء. نحن هنا في نهايات الدائرة XV الباريسية وفي محيط محطة مترو La Motte Picquet. صار طقسا شبه يومي عندي القدوم إلى هذه النقطة، هذا المقهى، لا لأتسلى، فلا وقت لنا هنا، وإنما، وكحج لا بد منه، للقاء فريد، غالبا زوجته Anique. نقضي نصف ساعة أو أكثر في الحديث عن أحوال الوقت، عن السياسة الفرنسية، عن آخر كتاب يقرأه، وهو القارئ النهم، وعن المغرب دائما، الذي يسكن عقله ويسري في دمه. تعرفت على فريد النعيمي، من بعد، أولا، عن طريق شيخ باريس عروة الزمان الراحل محمد باهي، وذلك في مطلع الثمانينات، وأنا حديث العهد بهذه المدينة الفاتنة والمهلكة. كانت علاقتنا متباعدة، أو بالمصادفة، لكل منا عالمه، أنا بين الجامعة والأدب، وحياة الصخب، وهو يخوض أكثر من غمار، بين السياسة والثقافة والعيش النّصَب. أخبرني باهي، أولا، أن هذا الرجل الذي هاجر من تمازيرت، ثم من الدارالبيضاء، منذ نهاية الستينات عصاميٌّ بنى نفسه بنفسه، معرفة وتكوينا في الحياة، وانخراطا في الحياة الباريسية حيث المناضلون والمنفيون، أصحاب القضية، غدا منهم، وتشبّع، حتى كاد يصير لسان حالهم، فيما يراكم الثقافة التاريخية ويحضر الندوات ويخطب كزعيم في التجمعات، ويفلت دائما لكي يكسب قوته بعرق جبينه بدأب، فيما يلاحقه، كما لاحقنا طويلا المخبرون، كتبة التقارير، يسوّدون ما يصدر من فمه حبا لبلاده سما زعافا فيها، وهو يعاني ولا يبالي. فهذا الحب وعشرة رجاله الأفذاذ في باريس، وهم فعلا أبطال حتى ولو بلا أمجاد، هو الأول وزاد المعاد. كان باهي، أحد مناراتي الكبرى في بلاد العجم، قريبا جدا من فريد، شديد الإعجاب بمساره، تجمع بينهما هواية جمع الكتب، ونبش المكتبات والمخطوطات العتيقة، ونوع من الموسوعية النادرة في عصرنا، وكذلك هذا التكوين الذاتي يعطي لصاحبه ثقة في النفس، وأصالة، أكثر مما تهيء له الشهادات الجامعية، زيادة عن الإحساس المشترك بالاقتلاع، والعيش في منفى داخل المنفى، استطاعا أن يعوضانه بشعوب من المعارف والصداقات، بله الثقافات. وإذن، أن تعرف أحدهما، فقد اختصرت، واغتنيت، وعشت أزمنة. لذلك حين وافت المنية باهي، غِيلة، في الدارالبيضاء (يونيو1997) أحس النعيمي بأن جزءا منه، كأنه توأمه، قد بُتر، فاغتمّ كثيرا جرّاء ذلك رغم صلابته وقدرته على المكابدة، أما ولم يمهله الدهر إلا سنوات قليلة فتجرع الكأس الثانية، بفقدان صديقنا الجميل، المناضل المتواضع الأصيل محمد بن يحي، فإني أقول، شاهد عيان وحاضرا في قلب الفاجعة برفقة المناضلين العتيدين إبراهيم أوشلح وعباس بودرقة، بأن فريد أصيب في مقتل. كان يحب بن يحي حبا جارفا، في الحضور والغياب، هو شريكنا في أي جلسة وحديث، وعندما أفل فجأة كنجمة هوت، كان النعيمي يهوي بدوره إلى قاع المرض، وباريس تشيخ وتحزن. بين هذا وذاك، كان قد استعاد أوراقه المغربية «الثبوتية»وسافر إلى تمازيرت، إلى أگادير، وزار أحباءه وأصدقاءه في الدارالبيضاء والرباط، وأصقاع أخرى من مملكة احتكرها ومنعها عن مواطنيها رهط من «الجلاوزة»، وبقيت وتبقى باريس في القلب والرأس، بلا بديل، وهذا لا يفهمه العابرون والمتعجلون ونهابو الفرص، داء بلا دواء، وكذلك حل المرض بصديقنا، وتناوبت عليه العلل، وتنقل بين كل الاختصاصات في المستشفيات الباريسية، تفانت زوجته المخلصة آنيك وعائلتها جمعاء في العناية به من كل النواحي، لا ملل، ولا كلل، أرى هذا والرجل شجاع يتقلب بين الموت ممسكا بأهداب حياة هاربة، قد أنهكه المرض وأقعده، نُقوِّي شجاعته وصبره إذ نسمعه بأيّ عياء ونفاذ صبر، يردد بالدارجة المغربية والفرنسية التي كان سيدها، يردد معنى ما جاء في قول المتنبي: «كفى بك داء أن ترى الموت شافيا/ وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا» فيستجيب، يستعيد بعض تفاؤل، وتكرّ في يدنا من جديد سبحة الذكريات، وباهي محمد دائما إكليل هذا المجلس، ومجالس أخرى. ففريد لمن يعلم، أضحى هنا «زاوية» و»أمغار»، كذلك كنت ألقبه أحيانا، أجد عنده زوارا من أصقاع شتى من المغرب، وهو يلتقط منهم كل شاردة وواردة عن وطنه الذي أحب، وكذلك، شهادة لله،عن ملك جديد كان يذكره بكل اعتزاز ويتمنى له، مثلنا جميعا، من الأعماق كل السداد والتوفيق، فإن غبتُ عنه أياما وعدت أمطرني بشغف يسأل عن البلاد ورجالها، يحب أن يطمئن، فأطمئنه بما يريد، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وأزيد، فأبلغه سلام صديقه العزيز الأستاذ حسن أوريد، كم يحمل إليه المودة، فيستزيد، رغم أني لم أكن التقيت الرجل، وإنما لأرضيه، أشبع فضوله، عن صاحب له، في القرب، بعيد. أمس أنهيت وجبتي الرياضية في النادي، التفتت كعادتي إلى اليمين، الساعة الثامنة، وضوء النهار ما زال يغمر الباحة بارتياح، يحب فريد الجلوس هنا رفقة صحبة من أجناس، يتناسى مؤقتا مرضه ويتسلى هنيهة بحديث مختلف، وبنكات نتبادلها، أو نظرات نسرقها في غفلة مما تبقى من العمر، وبحسرات، إلى حسناوات عابرات، قبل أن تقوده آنيك فوق عربته إلى شقتهم المتواضعة في La rue du commerce، على أن نلتقي غدا وبعد غد، و.. نظرت في الباحة، إلى الطاولات، فما رأيته، ولا زوجته، سألت مالك الهاغن داس دفيد، والنادل الباكستاني خليل، فأجابا بالنفي، عرفت، هكذا، بعد لأي، أنه كان منهكا أمس، أي وقد عدت من طنجة، أحمل إليه حزمة أخبار وطرائف وغرائب عن مغرب هذه الأيام، وما رأيت وسمعت في البر والبحر من أخبار وأحوال الأنام، وكنا الثلاثاء، وصرنا الأربعاء أبحث عنه، ورأيتها علما أسود مقبلا تلوّح بنعيه، وللتو تذكرت مقطعا لأغنية من أهازيج ناس الغيوان: «خيِّي مات البارح/ واليوم جات أخباره» فسقط قلبي وغامت عيناي بدمعي، وكما قبل سنين قريبة حملنا نعش بن يحي ليعود إلى تمازيرت، ويلاقي حبيبه محمد خير الدين (L'oiseau) كذلك فريد النعيمي، من مطار أورلي ليدفن حيث أوصى، لا يبغي عن تربة بلاده بديلا، «وما تدري نفس بأي أرض تموت». ذهبت ظهيرة يومنا الجمعة في عز غشت، والشمس متبرجة كما يحبها، ويحضر لزيارتها، فلم أره. عدت أسأل دفيد، فنظر إلي بذهول يقول: أولا تعلم أنه أمس رحل؟! لأجيب للتو بنبرة استنكار: ولكنه أمس كان هنا! وفي الوقت، تهاويت في المكان أسأل نفسي من سيحمل نعشي غدا، وهل قدري أن أبقى هنا لأدبّج المراثي، وما أسعفني الحبيب أحمد المجاطي بمقطعه الشعري الفريد: «ظمئنا والردى فيك/ فأين نموت يا عمة؟!» فاعتقيني يا باريس من أسرك، لقد تمتعنا من شميم عرار نجد، وما بعد العشية من عرار، فوداعا فريد، وطني قضى، كما كان الاستقلاليون الأصلاء يعزون مناضليهم في الزمن الصّح، وثق، باريس بعد رحيلك، وقبلك باهي، وقبلكما بن بركة، في حداد، وأنا فيها شبح، فمن طرَقها ولم يبصرني، فليعلم أني انتقلت إلى جوار أحبتي روحا تحلق مع الأرواح، وما تبقى أنملٌ تكتب شاهدتي، بعد أن قضوا نحبهم، وأنا أنتظر، وما بدلنا تبديلا. باريس في 20 08 2015 أديب مغربي