يجمع الكثيرون أنه شبيه لمحمد باهي رحمه الله، في سيرة الحياة. لكن الإختلاف بينهما، لربما كامن في الثقافة السلوكية المؤطرة لكل واحد منهما. محمد باهي، ظل رحالة، بينما الراحل فريد النعيمي امتلك فطنة الإستقرار والتنظيم، والتراكم المادي المخصب للعلائق والأنشطة والمشاريع. ربما هو يتقاطع أيضا في سيرة حياته مع إبن سوس الآخر، مثله، محمد خير الدين، الروائي المغربي الكبير باللسان الفرنسي. لكن الفرق، أن خير الدين ظل زوبعة، بينما النعيمي قد ظل مسكونا بفضول معرفي وعلائقي بلا ضفاف، كبير. وأنه ظل رجلا منظما جدا يجمع الكثيرون أنه شبيه لمحمد باهي رحمه الله، في سيرة الحياة. لكن الإختلاف بينهما، لربما كامن في الثقافة السلوكية المؤطرة لكل واحد منهما. محمد باهي، ظل رحالة، بينما الراحل فريد النعيمي امتلك فطنة الإستقرار والتنظيم، والتراكم المادي المخصب للعلائق والأنشطة والمشاريع. ربما هو يتقاطع أيضا في سيرة حياته مع إبن سوس الآخر، مثله، محمد خير الدين، الروائي المغربي الكبير باللسان الفرنسي. لكن الفرق، أن خير الدين ظل زوبعة، بينما النعيمي قد ظل مسكونا بفضول معرفي وعلائقي بلا ضفاف، كبير. وأنه ظل رجلا منظما جدا. بالتالي، فحين سرى خبر وفاته، بعد سنتين من المعاناة مع مرض أقعده منذ 2013، بباريس، كان نسيج كامل من النخبة المغربية، في الدولة وفي المجتمع، يدرك أن المغرب فقد واحدا من أنجب أبناءه وأذكاهم، الذي لم تسرقه الهجرة أبدا من ذاته ولا تسامت حيطان الغربة بينه وبين العالم، بالمعنى الذي يفيد، تحقق خصومة ما، له، مع الحداثة ومع أسئلة زمنه المغربي والعالمي. ربما الحزن الذي استشعره الكثيرون، مغربيا، بسبب رحيله، آت من أنه ظل منارة للكثيرين (إن لم أقل للجميع) في فرنسا. فلا حل لأي مشكل علائقي، تواصلي، اجتماعي، هناك مغربيا، بدون العبور عبر قناة فريد النعيمي. هذا يعني، أنه كان مؤسسة قائمة الذات. وهو فعلا مؤسسة قائمة الذات، نجح في أن يخط له سيرة لا تشبه باقي السير المغربية في بلاد الهجرة الفرنسية، لكل جيله، منذ 1960. ربما، السر كامن، في أصوله الإجتماعية والثقافية السلوكية. هو القادم، من تقاطع جغرافي سوسي متميز، مثل ذلك التي تهبه منطقة "إيسافن" (التي تعني بالأمازيعية لتاشلحيت "الأودية" ولها أيضا معنى "السيل"). وهي منطقة تتميز، في أنها ظلت دوما، فضاء وسيطا بين شرق سوس وغربه من جهة الجنوب بالأطلس الصغير. أي أنها ظلت منطقة وسيطة بين تزنيت وطاطا، أي بين تجارة ومدارس العلم بغرب سوس، في اتجاه تافراوت وآملن باتجاه البحر، وبين تجارة ومدارس طاطا وآقا بشرق سوس، باتجاه الصحراء وتيندوف. ومن يصدر عن جغرافية مماثلة، يكون بالضرورة، ممتلكا لمكرمة التوفق في نسج العلائق بين كل أنواع البشر بيسر. يكون أهدأ، عقلانيا، براغماتيا، مقداما ومبادرا. وهذه خاصيات تجمعت كلها في فريد النعيمي. ورغم لقاءاتي القليلة معه جدا، فقد كان في لسانه وفي منطوق وروح خطابه، في تعاليقه، وفي نظرته، الكثير من فطنة حسن قراءة النفس البشرية. هل لأن "إيسافن"، التي من معانيها، تقاطع الأودية، هي رمزيا قد تحققت في شخصه، ما جعله فعلا، تقاطعا لسير متعددة، صعب أن تلتئم في غير نموذجه كإنسان. حين، كان مثلا، الدكتور فتح الله ولعلو، يلقي كلمة مؤثرة وبليغة عنه عند شاهدة قبره بعد دفنه بمقبرة الشهداء بالرباط (بعد معركة إجراءات إدارية غريبة بين باريس والرباط، كما علمت من الصديق المعطي قبال)، فقد كان يلخص في مكان ما ذاكرة جيل مغربي بكامله، من عناوينه فريد النعيمي. وكان أكيد، يستعيد، ذاكرة نضال طلابي جمعهما بباريس في بداية الستينات، وذاكرة المنافي التي ظل الرجل فيها، عنوانا إلزاميا لكل جيل السياسيين المغاربة من اليسار، وحتى للكثير من رجالات الدولة المغربية الوازنين، الأصلاء، النظيفي الذمة، الوطنيين. لأنه ربما من مكرمات الرجل، أنه كان "أخا" للجميع. وكان كل أبناء النخب المغربية، ببلاد المهجر، الذاهبين للدراسة، في مكان ما أبناءه، هو الذي حرم من أن ينجب أبناء من صلبه. وقصة حياة الرجل هي من التشابك، والغنى، ما يجعلها تستحق سيناريو فيلم سينمائي مكتمل الحبكة والإثارة والفائدة. فالرجل عنوان لعصامية نادرة في مغرب النصف الأخير من القرن 20، وهو عنوان لمعنى التحدي الذي ميز جيله، لمقاومة كل أسباب العطب في الحياة، من أجل انتزاع مكان مستحق إنسانيا، تحت الشمس. ولعل من عناوين ذلك، أنه جاء من ثقافة تقليدية، لكنه كان حداثيا بامتياز، براغماتيا إلى أبعد الحدود، لكن بدون ميكيافيلية لا تقيم للأخلاق وزنا، أو تؤمن بأن الغاية فقط تبرر الوسيلة. فالرجل، كان صاحب مبدأ، بل صاحب مبدأ أخلاقي منتصر للموقف الصارم، أن يكون مغربيا، متشبعا بأصوله، لكنه ساع إلى معانقة أسئلة العالم، بأفق وجودي منفتح وحداثي. لقد بدأت تغريبة فريد النعيمي، باكرا، مثله مثل أغلب أبناء منطقته وجيله، من خلال الهجرة صوب مراكش، ثم الدارالبيضاء. وهي الهجرة، التي جعلته، يجرب ممكنات العيش في مغرب جديد، كان يتشكل تحت سقف المواجهة مع المستعمر الفرنسي والإسباني. من هنا كان طبيعيا، أن يتحقق له، بعض من الإحتكاك الجنيني مع حركة المقاومة المغربية، في أواسط الخمسينات. لكنه احتكاك، أكدت تطورات الوقائع، أنه سيؤدي عليه ثمنا، ليس من قبل المستعمر، بل من قبل جزء من رفاق النضال الوطني، كونه سيكون واحدا من ضحايا تصفيات بداية الإستقلال، بدليل اختطافه سنة 1957، ونقله إلى معتقل "دار بريشة" بالشمال، هناك حيث تعرض لتعذيب ومحنة حقيقية، انتهت، بإطلاق سراحه بعد سنة من الإختطاف والإعتقال (كان ملفه واحدا من الملفات الحقوقية التي باشرتها هيئة الإنصاف والمصالحة وأصدرت توصية خاصة بتعويضه عن الخرق الحقوقي الذي طاله بسبب الإختطاف بدار بريشة). ليقرر بعد التحاقه بالحركة الإتحادية الوليدة في نهاية 1958 وبداية 1959، أن يهاجر إلى فرنسا سنة بعد ذلك، أي في سنة 1960، وبقي هناك حتى لقي ربه الأربعاء الماضي 19 غشت 2015. وفي رحلة غربته الباريسية، تلك، الممتدة، على أكثر من 55 سنة، سينسج واحدة من أجمل ومن أغرب سير الهجرة المغربية بأروبا. لقد تميز، فريد النعيمي، بأنه كان موسوعة معرفية جد غنية وعميقة ورصينة، وأنه ظل مرجعا للكثيرين، معرفيا وأكاديميا، في باريس. لكن، المفارقة هي أنه لم يكن يتوفر على أية شهادة جامعية. السر كامن، في أن الشاب الذي كانه، بين سنوات 1961 و 1968، قد كان يدرس في مختلف جامعات باريس دون أن يكون مسجلا في أية واحدة منها. كيف ذلك؟. كان يختار المواد التي تتوافق وقلقه المعرفي، ويحضر محاضرات أساتذتها بشكل منتظم كأي طالب مجد، دون أن يطوق نفسه بهم الإمتحان. بالتالي، فقد درس بشكل مستقل في كليات متعددة، وضمن تخصصات متعددة، انطلاقا من البرنامج الأكاديمي الذي اختاره لنفسه بشكل عصامي. كانت رؤيته تتأسس على أن المعرفة تكتسب بشكل عاشق وليس بشكل مؤسساتي جامد أكاديمي يحنط المعرفة في هذا الإتجاه أو ذاك. العلم، عنده بحر، وحقه الكامل كإنسان، هو أن يسبح حيث يريد في ذلك البحر. كانت نتيجة هذا الإختيار أن الرجل أصبح فعلا موسوعيا، يبز كبار الأكاديميين والمثقفين والأساتذة. وليس اعتباطا أنه سيربط علاقات جد قوية مع بعض من كبار مفكري فرنسا ورموزها الثقافية والمعرفية، ليس أقلهم الثنائي الشهير جون بول سارتر ورفيقته سيمون ديبوفوار. نعم، لقد كان فريد النعيمي صديقا كبيرا لهما لسنوات، ومن خلالهما ومعهما ومع الجيل الناهض للثورة الطلابية بباريس في الستينات (جيل ماي 68)، ظل فريد النعيمي في قلب النقاش السياسي والفكري الطلابي لتلك المرحلة، وكان علما مختلفا ومتميزا ضمن جيل كل الطلبة المغاربة ضمن فرع منظمتهم الطلابية الوازنة "الإتحاد الوطني لطلبة المغرب". مثلما كانت له علاقات قوية بباقي التنظيمات الطلابية المغاربية، الجزائرية والتونسية وبالعديد من شبكات الطلبة الأفارقة والعالمثالتيين. وكنت تجد الرجل في مقدمة المظاهرات، والتجمعات، يتدخل هنا وهناك، ليفحم هذا المفكر أو ذاك الزعيم الطلابي، وكان ملحا على أن يقول رأيه مهما كلفه ذلك من ثمن ومن تحديات ومشاكل. لقد كان شغوفا بالجدل السياسي. سنوات، بعد ذلك، سيتزوج من سيدة فرنسية، تنحدر من عائلة أرستقراطية غنية، مما مكنه من أن يعيش في فضاءات سكن باذخة ومحترمة، هو الذي سيدخل مع أصهاره في شراكات مالية استثمارية، بفضل ذكائه التجاري المتأصل القديم، مكنته أن يصبح واحدا من أكبر المغاربة الذي استثمر في مجالات السكن الطلابي وكذا في مجال صناعة الكتب وأيضا في مجال الأرشيف وتجارة التحف. بل إنه، مع توالي السنوات، سيصبح واحدا من أكبر ممتلكي تحف نادرة بفرنسا، وصاحب أهم المراجع والمصادر المعرفية والفنية النادرة بباريس، بالشكل الذي جعل بيته متحفا بكل معاني الكلمة. وهي الثروة المعرفية والفنية والأرشيفية القيمة، التي سيهب جزء كبيرا منها، في بداية الألفية لمؤسسة مركز طارق بن زياد، حين كان يترأسه الأستاذ حسن أوريد، الذي كان حينها الناطق الرسمي للقصر الملكي. وبقي الرجل عنوانا استثنائيا بباريس لكل النخبة المغربية، ومرجعا لا يمكن التجاوز عنه، لفهم الكثير من أسرار دواليب النخب الفرنسية. رجل جدال، ورجل معرفة، موسوعيا يشارك في كبريات المناظرات الفكرية والثقافية. وبقي أيضا وفيا لرفاقه في الحركة الإتحادية، التي ظل من أهم علاماتها في بلاد المهجر، مناضلا ضمن حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، على علاقة قوية بقادته الكبار، منذ عبد الرحيم بوعبيد، حتى عبد الرحمان اليوسفي، مرورا بالفقيه البصري ومحمد باهي وأيضا محمد بنسعيد آيت يدر ومولاي عبد السلام الجبلي وغيرهم كثير. مثلما أنه ظل على علاقة قوية بكل جيل قادة الحركة الطلابية المغربية منذ الستينات (عبد الواحد الراضي، الحبيب سيناصر، فتح الله ولعلو، محمد الحلوي، حميد برادة، حماد جواهري ... إلخ). إنه بإصرار زوجته، السيدة انيك النعيمي، أن يدفن بمقبرة الشهداء بالرباط، إنما تكون قد حققت لرفيق حياتها، أن يؤوب إلى أرضه، مثلما يعود الطائر إلى عشه، كي ينام فيه نومته الأبدية بعد طول ترحال في سماوات بعيدة. رحم الله، فريد النعيمي، الرجل الإستثناء، العصامي، المثقف الرصين، الفلتة المتميزة من "إيسافن"، الذي ظلت أياديه بيضاء على المئات من الطلبة المغاربة، وعلى صف طويل من أجيال النخب المغربية منذ أواسط الستينات حتى سنوات مرضه الأخيرة. وفي مكان ما فهو جديا، متصالح فعليا مع اسمه: "فريد". فهو فريد فعلا كتجربة حياة مغربية.