لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. الحقيقة، أنه لا يمكن تفصيل القول في المسار الذي أخذته حياة مولاي العربي الشابي الشتوكي، المهنية والسياسية والنضالية، دون الإطلالة على جوانب حاسمة مميزة لشخصيته سلوكيا. لأن تلمس عناوين تلك البنية السلوكية، هو الذي سيساعدنا أكيد في استكناه عمق شخصيته، بالشكل الذي أصبحته وبقيت أثرا في تاريخ الوطنية والمقاومة المغربية من أجل الحرية والإستقلال ومن أجل الحق والكرامة. بل، إنها، أكثر من ذلك، تترجم بعضا من العناوين حول المآل الذي ذهبت إليه تجربة جيل مغربي بكامله، أي جيله، الذي فتح عينيه على تجربة الحماية والإستعمار، واحتك بأسباب الحداثة في معناها الكوني والعالمي. لقد غيرت الهجرة من شخصية مولاي العربي، منذ غادر قريته الصغيرة في عمق سوس، مشيا على الأقدام حتى مراكش وهو في سن 16 سنة فقط. وهي الهجرة التي قادته إلى سماوات عدة بالمغرب والجزائر وفرنسا، ومكنته من الإحتكاك مع تجارب حياتية وثقافات وعقليات مختلفة ومتباينة، وتشرب معاني المدنية الحديثة. مما جعل شخصيته، تتسم، ليس بالجدية والصرامة والأناقة والإنضباط فقط، بل أيضا برؤية للعلائق والناس مختلفة عن جيل الآباء والأجداد. لهذا السبب كنت تجد في سيرته الحياتية تعايشا سلسا بين الثقافة السلوكية المعاصرة والثقافة السلوكية الأصيلة لجدره السوسي الإجتماعي المحافظ. وهذا هو الذي مكنه من أن تكون اختياراته في الحياة، اختيارات جريئة (بل مفاجئة للكثيرين أحيانا)، مثل زواجه من سيدة أجنبية عن ثقافته المغربية، ومثل شجاعته في الدخول في مغامرات تجارية برؤية عين مفتوحة، وأيضا نزوعه الدائم نحو استحقاق أسباب العيش بدون شح في المصاريف دون أن يكون ذلك عنوانا للتبدير الذي ظل يمقته هو كثيرا (مثلا، شغفه الدائم بشراء أجود أنواع السيارات منذ كان تاجرا صغيرا في فرنسا. وكذا شراؤه فيلا فخمة بشارع عبد المومن بالدارالبيضاء في بداية الستينات، بثمن اعتبره الكثيرون جنونيا منه. وكذا حرصه على أن يكون لباسه ولباس أبنائه وزوجته أنيقا ورفيعا). وعلى قدر ما كانت تتعايش فيه صرامة التقاليد، في علاقته مع أبنائه، مثلا، مع طبيعته المرحة (بل الماكرة أحيانا)، على قدر ما كان حداثيا في وعيه الإقتصادي والسياسي وفي أسلوب حياته. هنا، مهم التوقف عند بعض ملامح شخصيته تلك. مثلا، في حياته اليومية، فإن علاقته بأبنائه قد ظل يحكمها إطار تواصلي خاص، فيه صرامة سلوكية على مستوى الأكل (ممنوع عدم الجلوس بانضباط على مائدة الطعام، وموعد الأكل هو موعد الأكل)، واللباس (لم يحدث قط أن شاهده أبناؤه في لباس البحر أو أن يكون بدون لباسه التقليدي أو الأروبي في البيت)، أو التحية (نادرا ما سمح لأبنائه بتقبيله على وجنتيه، بل العادة هي تقبيل اليد)، والدراسة. مثلما فيها انفتاح على مستوى السفريات وحق التمتع بالسينما والمسرح والموسيقى وركوب الخيل (كان مولاي العربي معجبا جدا بالممثل الفرنسي فرنانديل وبأفلامه). ولعبت الزوجة دورا في تحقيق ذلك التوازن بين ثقافته التقليدية الصارمة وثقافته المدينية الحديثة المنفتحة، وكانت منتصرة له دوما، لأنه كما يجمع أبناؤهما، فلاشئ كان يعلو عندها على "مولاي العربي"، فهو كل حياتها، بمعنى التماهي المطلق بينهما، وكثيرا ما ظلوا يقولون مازحين :"الظاهر أنه قد ولدت أمنا يوم تعرفت على والدنا". بدليل أنها هي من حرصت على تعليمهم كل الأمور المتعلقة بالدين الإسلامي، وظلت صارمة في فرض الصلاة عليهم. ومن الطرائف التي ظل يحكيها لهم والدهم، ترجمانا على قوة العلاقة الحميمية السلسة بينهما، أن والدتهم حين كانت حاملا بابنتها "زينة" سنة 1942، والدنيا حرب، والألمان يحتلون سانتيتيان، قد اشتهت بقوة أكلة دجاج. والدجاج واللحم عملة نادرة بسبب الحرب العالمية الثانية، فما كان من مولاي العربي سوى أن استقل سيارته وبقي يجول في قرى "الرون آلب" لساعات، حتى عثر على دجاجة عند عائلة قروية اشتراها منها بثمن عال. وحين عاد فرحا بها إلى زوجته "جوزيفين/ عائشة"، كانت شهيتها للدجاج قد انطفأت ورفضت أكلها. هنا جلس الزوج غارقا في ضحك مع زوجته الحامل. بالتالي، فقد كانت حياتهما جد وقورة، لكن بعاطفة قوية جياشة غير معلنة. وكانت تكفي بينهما نظرة عين بدون كلام، لتمر الرسالة راسخة قوية. كان لمولاي العربي، رغم صرامته في احترام نظام حياة منضبط، جانبه المميز في السخرية، مما يترجم عدم انغلاقيته أو أن له شخصية متجهمة. مثلا، حدث مرة أن اشترى كيسا من الحلزون لبيعه في محله التجاري بسانتيتيان، ووضعه مساء في إحدى الزوايا. في الصباح الباكر حين نزل من غرفة نومه وجد الحلزونات قد غادرت الكيس وانتشرت في كامل جدران محله التجاري. فما كان منه سوى أن صعد إلى زوجته وقال لها بكل الجدية اللازمة : "إن أبناء عمومتك تحت يودون السلام عليك". نزلت "مدام مولاي" مهرولة لأنها كانت مشتاقة جدا لعائلتها، هي التي لم تلتق أيا منهم منذ الحرب الأهلية الإسبانية، وأيضا بسبب منعها من دخول إسبانيا. ففوجئت فقط بالحلزونات وهي تتعالق مع حيطان وأطراف محلهما التجاري، ومولاي العربي غارق في ضحك بلا ضفاف، قائلا لها أمام اندهاشها : "ألا يلقبونكم هنا في فرنسا أنتم المهاجرون الإسبان ب "الحلزون"؟"، فضحكت بدورها عاليا. والقصة أن المهاجرين الإسبان الفارين من الحرب الأهلية ببلادهم كانوا يأتون زرافات في صفوف طويلة محملين بما استطاعوا الهرب به من أغراضهم الخاصة، فكنت تراهم مثل الحلزونات بظهور مقوسة، فأطلق عليهم رجل الشارع الفرنسي لقب "الحلزون". مرة أخرى، دائما في زمن الإحتلال الألماني لفرنسا، كان صعبا الحصول على الجبن الفرنسي التقليدي الأصفر. هكذا فقد حملت مرة، إحدى شقيقات زوجته إليهما قطعة جبن رفيعة من نوع "الكامومبير"، وكان مقررا تقديمها مساء في العشاء للجميع. وحين عاد مولاي العربي من العمل مساء، هو الذي لا يحب ذلك النوع من الجبن الفرنسي، الذي شم رائحته في المطبخ، فما كان منه إلا أن غافل الجميع ورماه قطعا في المرحاض. وأثناء العشاء فوجئ الجميع باختفاء "الكامومبير"، فأطلق مولاي العربي ضحكة مجلجلة مصحوبة بتعليق ماكر، حيث قال لشقيقة زوجته: "إذا أردت أن تتبعي ذلك الجبن، فأمامك مسافة طويلة عليك قطعها". كما أنه قد استقبل مرة ببيته، في أواسط الستينات، ضيفا من بلدته من الجنوب السوسي، وقبل أن يجلسا إلى مائدة الطعام وضع تحت اللحاف مباشرة تحت طبق ذلك الضيف لعبة أطفال عبارة عن "نفاخ" فارغ ربطه بآلة هوائية. فما أن جلس الرجل وقدم له الطعام في الأكل، حتى ضغط مولاي العربي على آلة النفخ وشرع الطبق يتمايل، فصعق الرجل لاعتقاده أن جنيا يتلاعب بأكله، فأسقط بيده، فيما مولاي العربي يضحك ويضحك، وبصعوبة كبيرة استطاع أن يقنعه أن لا وجود لأي جني في المسألة. إن الغاية من هذه التفاصيل، وغيرها كثير مرتبطة مثلا بقصص زواج أبنائه، هو إبراز طبيعة شخصية الرجل، كما تشكلت في مغرب الأربعينات والخمسينات والستينات، اجتماعيا، سلوكيا وحياتيا. وهي ترجمان لمعنى الحياة الذي كان يتمثله ذلك الجيل الذي حقق تصالحا غير مسبوق، مغربيا، بين الأصالة والمعاصرة. أي أن تجربة الحياة تلك، قد تعايش فيها إصرار المحافظة على ملامح الخصوصية الثقافية المحلية مع يقين حق النهوض لاستحقاق الحداثة في معناها المديني الحديث. فمولاي العربي كان محافظا نعم، لكنه لم يكن أبدا متزمتا أو انغلاقيا أو أصوليا أو نكوصيا. مثلما أنه كان حداثيا، دون أن يكون مستلبا، تغريبيا، مقلدا. وهنا كان مكمن قوة ذلك الجيل المغربي الإستثنائي في ما أتصور، جيل النهوض بعد صدمة الإستعمار من أجل ربح الزمن الضائع في التخلف. ألم يولد مولاي العربي سنة 1913، سنة واحدة بعد الحماية؟