قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... صوت المؤذن كان يدعو الناس بصوت مسموع في كل المحيط، يدعو السكان إلى المجيء لإلقاء نظرة وداع أخيرة على الضابط"الرقيب فادي القسام مات شهيدا، سيتم دفن جثمانه في الثانية بعد الظهر، أدعو له، ليرحمكم لله«". عمر لا يستطيع مرافقتي, الرستن لازالت تعج بالمخبرين وجنائز المعارضين للنظام تخضع لمراقبة خاصة , ووجود منسق وصحفية في مقبرة للمسلمين لايسمح للنساء بدخولها إلا بعد الدفن، أمر يثير الشك. عم عمر، عروة الذي التحق بنا عند والدي عمر منذ وصولنا، اقترح أن يصاحبني إلى المقبرة، الرجل الخمسيني الذي يناضل سريا ضد النظام يعرف الجميع في الرستن. وجوده بجانبي قد لا يدفع عائلة الشهيد لمنعي من التصوير، وسيعرف جيدا رصد أي تواجد محتمل للمخبرين حول المقبرة. كانت الكاميرا مخبأة في الكم الأيمن لعباية فضفاضة أخذتها للمناسبة من الأميرة (والدة عمر)، وصلت إلى المكان في الوقت المناسب ورغم المخاطر كانت الحشود غفيرة حضرت لتكريم جثمان فادي في سماء زرقاء ستتحول قريبا إلى لون الأرض، ارتفعت الأناشيد تمجد البطل الذي مات من أجل أن يعيش الآخرون، مات شهيدا مقاوما للظلم والقمع ,تم إنزال جثمانه إلى القبر دون كفن (الشهداء يدفنون بملابسهم كما ماتوا) في القبر الذي كنا نقف على حافته وقبل أن يتمكن عقلي من التحكم في يدي، كانت الكاميرا التي أحملها ترافقه حتى ظلمة قبره، حيث كان يبدو نائما .صور مؤلمة غير مفيدة لن استعملها بطبيعة الحال، لكنني أحسست بحاجة شخصية لتخليد تلك اللحظة الحزينة، كما لو أن ذلك قد يعيد الشاب إلى الحياة,حاجة لمرافقته حتى النهاية, رغم أنه كان محظوظا في موته، كان هناك رجال يبكونه ليعدوه بأنه سيعانق الحرية في الجنة وقبره كان جديرا بكائن بشري. اختفت الشمس وراء المنازل في الرستن .بعد الافطار كان السكان يستعدون للالتحاق بمظاهرة المساء رفقة العائلات، حفل ملون له نفحات احتفال مرح، احتفال بالحرية، شيء لا ينسى، الرجال يرقصون في دوائر، النساء يصفقن والأطفال يقفزون على وثيرة الشعارات والأغاني الثورية التي يرددها متزعمو المظاهرة المتمركزون في شرفة عمارة تطل على الساحة التي يتجمع فيها المتظاهرون بالآف على ايقاعات النادي، كان زعماء المظاهرة يحيون من مكان تواجدهم بالشرفة، النقيب فادي القاسم الذي كانت مجموعة من الشباب تحمل صوره ويرقصون وسط الجموع، كانوا يحيون كذلك الضباط الأحرار الآخرين بالرستن يذكرون أسماءهم واحدا بعد الآخر، مثل أبطال تحولوا إلى ايقونات ,لكون ظاهرة تمرد الجنود غير مسبوقة, ولكون الخطر الذي يجبرهم على الاختباء يثير الاعجاب والدهشة لدى ساكنة نادرا ما كانت الفرصة تسمح لهم باكتشافهم عن قرب. أحد قياديي المظاهرة ربما أخبر بوجود صحفية فرنسية، أخذ مكبر الصوت وغنى بقوة في اتجاه الحشود: »حيوا فرنسا!« ترد عليه الحشود »نحييها« ويتكرر الأمر على نغمات الموسيقى. حيوا فرنسا! نحييها! حيوا القناة الفرنسية! نحييها! حيوا الضمائر الحرة! نحييها! حيوا الثوار! نحييهم! انتهى التجمع بترديد الشعارات اللازمة, »"الشعب يريد إسقاط النظام"« يرفعه المتظاهرون مرتين وهم يجسلون جميعا القرفصاء تعبيرا عن الخضوع الطويل الذي عاشه السوريون, ثم مرة ثالثة وهم يقفون فجأة مثل رجل واحد للتعبير بأنهم لن يعيشوا بعد اليوم إلا واقفين، آلاف الأيادي الممدودة نحو السماء تصفق آلة تصويري لم تعد ترى سوى تلك الأيادي المرفوعة فوق رؤوس جماهير تتمايل مثل حقل سنابل يداعبها الريح، تهتز موحدة بحماس يبدو وأنه يلخص رغبة شعب بأكمله على الطرف الآخر من المدينة ,بعيدا عن هذه النشوة التي وفرتها هذه الحرية المؤقتة .كانت سيدة تبكي ابنها في الغرفة المركزية لبيت متواضع محاطة بزوجها وأخواتها, تبدو أم فادي غائبة ,كانت جالسة على سرير, التفتت ببطء نحو الكاميرا مثل آلة" »لقد فر من الجيش, لقد فر حتى لا يطلق النار على المدنيين وهاهو الذي يموت، لقد مات ولكنه على الأقل لم يقتل"« عقب رخصة لمدة خمسة أيام باح الضابط الشاب لوالدته: »أمي، لا أريد أن التحق بفرقتي, سيرسلونا إلى دير الزور لقمع السكان هناك, أريد أن أهرب, أتركيني أذهب مع المنشقين ولو كنت سأموت, النهاية كشهيد أفضل من اتباع الجيش, يطلبوا مني اطلاق النار على الناس«". الأم المسنة أيدت فادي في اختياره, تمنت حظا سعيدا لابنها الذي يودعها في نفس الليلة وذهب للالتحاق بالضباط الأحرار, بعد ساعات علمت أنه قتل, »هناك الكثير من المخبرين, هنا تشرح بغضب "كانوا يراقبون تحركاته وأفعاله ,و منذ أن غادر في مساء أمس للالتحاق بالمتمردين رفقة عسكريين آخرين أخبر عنهم أحد المخبرين السلطات التي لاحقتهم واطلقوا عليهم النار, إبني كان أول من سقط«". فادي لم يكن أحد تلاميذ مدرسة" كانفاس" الصربية ولا أحد تلاميذ جودت السعيد الشيخ داعية اللاعنف, الذي ألهم المناضلين السلميين في داريا، ولكنه سوري آخر, عسكري هذه المرة, يرفض عنفا يتهم النظام معارضيه باستعماله. الوقت لم يكن ملائما للقاء الضباط الأحرار الذين أحزنهم مقتل فادي، كانوا يستعدون للرحيل بعدما عرف الجيش, بعد ملاحقة فادي, أين يختبأون, وربما كان يعد لطردهم, كانوا يشكون في الجميع, لم يسبق لأي صحافة أن استجوبتهم ولا يعتقدون بوجود مراسل صحفي أجنبي بالرستن، لكن عمر الذي صور بياناتهم وعمه عروة، اللذان يحظيان بكل ثقتهم تمكنا من تنظيم لقاء. وللعثور على رفاق سلاح فادي, كان علينا الخروج من الرستن, وبالتالي تخطى الطوق الأمني الذي يضربه الجيش حول المدينة, الضباط الأحرار يختبئون في قطاع »ضيعات الرستن« وهي عبارة عن مجموعة من القرى. توجه المصفحات التي تحاصر المدينة جزءا من فوهاتها. ومع سقوط ظلام الليل، تسللنا في طريق حتى وصلنا إليهم . الساعة العاشرة ليلا ركن أحد الناشطين الشباب دراجته النارية أمام منزل عمر, على الفور تبعه راكب دراجة ثانية، أحد مناضلي الرستن, حان وقت الذهاب