قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... في دقائق، أعدت إغلاق حقائبي، وأمر الرجل احد رجاله بمرافقتي حتى باب الطائرة كنا نجري تقريبا. في آخر قاعة للاركاب فارغة، وراء بهو زجاجي عريض كانت حافلة فارغة تنتظرنا لتقلنا الى باب طائرة الخطوط الأردنية، ركبت الطائرة واستأذن الرجل. بعد عشر دقائق، لم تقلع الطائرة بعد،لاحظت عبر نافذة الطائرة ان الرجل، وكان من السهل التعرف عليه من قميصه الوردي، كان لايزال قرب الطائرة هل سيأتي ليأخذني؟ لماذا هو هنا؟ لن أْعرف الجواب أبدا. بعد لحظة، أعلن المضيف قرب اقلاع الطائرة. وعندما اغلقت الطائرة أبوابها اخيرا، طلبت من أول راكبة كان معها هاتف نقال يبدو انها تتوفر على اشتراك دولي بالنظر الى قيمة الهاتف، اقترحت عليها 100 دولار لإجراء مكالمة .السيدة التي فهمت مثل باقي الركاب بأنني كنت السبب في تأخير الرحلة، ابتسمت بتعاطف وسلمتني الهاتف قائلة: »انه بالمجان«. ركبت بعصبية رقم هاتف رفيقي الذي ابلغته بمعلومات العميل الفرنسي المتواجد بمحيط المطار. وبعد عدة محاولات أجاب وبطريقة الخبر السريع. قلت بسرعة تحت أنظار غاضبة للمضيفة الاردنية»أوقفوني في المطار ساعتين، اطلقوا سراحي للتو، لكنهم اخذوا هاتفي النقال، لم أتمكن من إخبار رجل السفارة الذي سيكون لا محالة قلقا. طمئنه بسرعة واتصل برئيسي في باريس لتحكي له كل هذ ا وتقول له بأن الصور معي في أمان، اضافة الىِ تلك التي سلمتها لأصدقائي«« وكعارف بأساليب الاستخبارات السورية اجابني قلقا» »يا إلهي، كان عليك ان تنتظري ركوب الطائرة واغلاق الابواب قبل ان تتصلي بي. انهم بالتأكيد قادرون على رصد مكالمتك»« كنت أصيح تقريبا «»انا داخل الطائرة، الابواب مغلقة، نحن نقلع للتو«« انهيت المكالمة في الوقت الذي انفصلت العجلات الخلفية للطائرة عن الأرض السورية، في تلك اللحظة انتابني إحساس غريب, اعتقدت لأول مرة منذ وصولي الى هذا البلد ان رئتي امتلئتا عن اخرهما بالاوكسجين وانه طيلة 11 يوما لم أكن أتنفس بشكل طبيعي, بل بجرعات قليلة سرية دون ان استشف كثيرا من الهواء حتى لا يسمع صوت زفيري، وأتساءل بغض النظر عن مغامرتي الصغيرة «كيف يستطيع الشعب السوري العيش منذ عشرات السنين وهو يحبس أنفاسه تحت الماء في هذا الجحيم من القمع». «إلى السلاح، أيها المواطنون» عمر يعشق قوله لجون فيترجيزالد كنيدي. وهو يخشى أن تنطبق ذات يوم على بلده» »من يجعلون الثورات السلمية مستحيلة، يجعلون الثورات العنيفة لا مفر منها«« عمر قادر على قضاء ساعات أمام شاشة الحاسوب يسبح في عالم الانترنيت، كان ينهل من فكر غاندي ومارتن لوتر كينغ وعاشق للفلسفة العربية في القرون الوسطى. عمر وبعد دراسات جامعية في المالية، بدأ مساره في مجال الابناك وهو المسار الذي اوقفه بعد اندلاع الثورة, مركزا بشكل حصري على انشطته كمنسق، يقوم بتنظيم التجمعات ويشارك في التخطيط للمظاهرات وتصويرها من أجل نشر فيديوهات على الشبكة العنكبوتية التي يغرقها بآخر الاخبار عن مدينته. فهو الذي رافقني من دمشق الى حمص، يرشدني في المدينة قبل أن يساعدني على التسلل الى حماه. لكنه ساعدني بالاخص على اكتشاف بلدته، الرستن، التي احتضنت في صيف 2011 احد الانوية الاولى للجيش السوري الحر الناشيء, أوائل المنشقين عن الجيش النظامي لبشار الاسد. وكانوا أول من ألقوا السلاح رافضين ومنددين لقرارات قياداتهم الظالمة وسيحملون هذه الاسلحة عما قريب، ضد رفاقهم القدامى في السلاح من أجل حماية المواطنين الثائرين، وأمام نظام لايستثني لا طفلا ولا مسنا, الصمت يعني بالنسبة لهم جريمة، جريمة أفظع عندما تصبح الفظاعة شيئا عاديا ومقبولا في صمت من طرف رجال يتوفرون على سلاح ومعرفة عسكرية قبل ان ينشقوا، ثم شحنهم بخطابات قومية حول واجباتهم النبيلة في خدمة الأمة وتحرير الاراضي المحتلة من طرف اسرائيل, مهمتهم كانت تقتصر فقط على قمع المدنيين السوريين المسالمين والمتعطشين للحرية. كانت عسكرة الصراع تكبر تحت رماد أوهامهم. دخلنا الي مدينة الرستن يوم 7 غشت 2011 حتى قبل الذهاب الى حمص. يوم 15 أبريل قام سكان الرستن بإسقاط تمثال لحافظ الاسد كان منصوبا عند مدخل المدينة. تعرض السكان لقمع قاس بعد هذا التحدي الاستفزازي. واصبحت الرستن مدينة محاصرة بالدبابات العسكرية مستعدة للتدخل. قبل تجاوز حاجز المدرعات التي تطوق المدينة المتمردة توقف عمر لحظة. جلست في المقعد الخلفي للسيارة بدأت اصور الدبابات عبر الزجاج الملون للسيارة دون ان يروني. دخل عمر الرستن على متن سيارته الجديدة بشكل جد عادي. فالشاب ليس مبحوثا عنه بعد، لكن في حال حدوث مراقبة قد يسبب له تواجدي بجانبه متاعب جدية. وكنا نسير بين الدبابات وجيوش حديدية من نوع t72 روسية الصنع شبيهة بعشرات ضخمة صفراء او خضراء متمركزة على بعد متر منا، ودائما في مدخل المدينة، المحاطة بالدبابات، هناك نادي رياضي ممول من طرف اليابان، اجتاحته قوات الجيش خلال الحملة العقابية التي شنتها في ماي، وتحول الى مقر عام للشبيحة ورجال الأمن. وبمجرد ما اجتزنا هذا الحزام الامني الهائل تغير الجو تماما في مركز الرستن الذي لازال يحمل اثار مرور العسكريين، يبدو أن المواطنين اكثر حرية في تنقلاتهم، وفي كل مكان كانت المدينة تحمل آثار الاحتجاج، كتابات حائطية تتهكم على النظام, رسوم كاريكاتورية للاسد مرسومة على حاويات القمامة, اعلام الثورة تغطي الجدران المحترقة والمدمرة جزئيا بنيران الدبابات او ترفرف على جنبات الساحة التي تستقبل كل ليلة مظاهرات حاشدة. لم نصل بعد الى منزل عائلة عمر, حتى تلقى مكالمة تخبره بوفاة أحد المنشقين العسكريين من الرستن، وهو ضابط انشق للتو عن الجيش من أجل الالتحاق بالمقاومة. لا! هل هو رقيب! آه انه فادي القاسم؟! المسكين قتلوه؟! كنت اعرفه، صورته بالامس وهو يعلن انشقاقه، أنا من نشرت الفيديو على الانترنيت. في بيت من الخشب ومليء بالحرارة الإنسانية كان والدا عمر في انتظارنا بقلق. - لقد قتلوا الرقيب فادي غير بعيد عن هنا ,تتحسر الأم المكتنزة التي يلقبها أهلها بالأميرة، المنطقة مليئة بالمخبرين، لقد انشق عن الجيش بالأمس فقط! كان يظن أنه في أمام بالرستن لأنها كانت مدينته. - اهدئي أميرة, أنا أعلم ,يرد عمر وهو ذاهب لجلب حاسوبه الشخصي الذي يخبئه في المطبخ مع كاميرا صغيرة تحت كيس من الأرز. الناشط الشاب هو منسق مدينة الرستن ووسائل عمله »أخطر من البارود«, يمازحه والده وهو أستاذ فيزياء, ربما ورث منه عمر الهدوء. عمر بعث ببعض الرسائل قبل أن يدعوني إلى مشاهدة آخر الفيديوهات العسكرية، مشاهد صورها في اليوم السابق بغرض بعثها لوسائل الاعلام ونشرها على اليوتوب. تسعة ضباط بلباسهم العسكري مجتمعين في غرفة جدرانها عارية، أغلبهم من الرستن، كانوا من الأوائل الذين تجرأوا على تحدي النظام من الداخل، بالتحاقهم بالثورة مباشرة بعد انشقاقهم بدل الفرار خارج البلاد مع العائلة مثلما فعل العديد من المنشقين ويؤكدون أنهم شكلوا جيشا حرا لمواجهة قمع النظام: حركة الضباط الأحرار. أمام كاميرا عمر، كشف أحد الضباط التسعة هويته وهوية أصدقائه قبل أن يقرأ بيانا صادرا عن قيادة الضباط الأحرار الداخل «»لقد نظمنا أنفسنا في وحدات مقاتلة موزعة عبر البلاد بهدف حماية المدنيين العزل، إننا نحذر الجيش وقوات الأمن من مواصلة الاعتداءات ضد مواطنينا وممتلكاتهم, وإذا استمر العنف، سنرد بقوة, ندعو المنشقين اللاجئين خارج سوريا إلى العودة إلى البلد وندعو اخواننا داخل الجيش النظامي إلى الانضمام لصفوفنا ونناشد شعبنا عدم السقوط في الانقسامات التي يغامر النظام ببثها في صفوف السوريين» من بين هؤلاء العسكريين كان الرقيب فادي الذي قتل قبل ساعات. ببضع نقرات, شغل عمر فيديو آخر يعلن فيه الضابط الشاب انشقاقه: »بسم الله الرحمن الرحيم أنا الضابط فادي القاسم من الفرقة الثالثة مصفحات, وهذه بطاقتي العسكرية« ,وجه الرجل بطاقته نحو الكاميرا وقربها كثيرا حتى يظهر اسمه ورتبته لاشك بخصوص هويته ولا بخصوص قوة وخطورة قراره المعلن.» »أعلن انشقاقي عن القوات العسكرية المسلحة السورية وانضمامي للضباط الأحرار لحماية المدنيين من المظالم التي يرتكبها النظام، كنت شاهدا على الدمار والأسى في الرستن وفي المدن الأخرى والمناطق المحاصرة, انسحب من هذا الجيش من المجرمين««. عمل بطولي بنبرة وداع, تحدي يتحمل الضابط الشاب (22 سنة) كامل تبعاته ويعرف جيدا أنه يعني فتح أبواب الجحيم بالنسبة له ولعائلته، لهجة المقتنع, نبرة من لم يعد لديهم ما يخسرونه أو ربح كل شيء, بدءا بأنفسهم.