مقبرة بوعراقية لم تعد تستقبل أي تابوت منذ حوالي 50 عاما، لكن الناس يحكون عنها حكايات غريبة. وعندما كانت الجرافات تسحق رفات الأموات لكي تفتح طرقا جديدة، قال الناس إن جثثا كاملة طفت فوق السطح وكأنها دفنت بالأمس. في هذه المقبرة ألغاز أخرى. الطريق الضيقة والمهيبة، التي كانت سابقا تفصل ما بين جزئي مقبرة بوعراقية، تحولت اليوم إلى طريق فسيحة ومفتوحة، والناس يمرون منها من دون خوف كبير، والسيارات تعبر على طرفيها، وحراس السيارات يتحركون مثل قطط نشيطة. السور المحيط بالمقبرة به ممر طويل مخصص للراجلين، وقربه وضعت كراسي خشبية لجلوس الناس وما شابههم. هذه علامة حضارية جديدة في طنجة. قرب سور المقبرة متسولة تستدر عطف الناس بقليل من الكلام. ربما اختارت الجلوس هنا بجوار المقابر لتذكر الناس بأن كل شيء فان، وأن ما سيتبقى لهم هو صدقاتهم فقط. متسولة نبيهة. في الشارع يمر رجل وزوجته صحبة طفلهما. الطفل توقف قليلا وهو ينظر إلى قبر صغير يبدو أنه لطفل. تأمل الطفل القبر عن بعد ثم انصرف غير مبال. في الواقع ذلك القبر هو لطفلين معا دفنا في يوم واحد قبل 60 عاما. هذان الصبيان المدفونان في قبر مشترك هما أيضا كانا قبل عقود يلهوان في شوارع طنجة كأن الموت لن يلحقهما أبدا. ربما ماتا بسبب حادث أو جوع أو مرض، أو ربما بسبب شيء آخر، وعموما فإن الناس لا يهتمون كثيرا بآلاف الأموات الراقدين في هذه المقبرة الغريبة، والتي تبدو عادية من الخارج، وباطنها فيه الألم. مقبرة الألغاز مقبرة بوعراقية لم تعد تستقبل أي ميت منذ حوالي 50 عاما، لكن الناس يحكون عنها حكايات غريبة. وعندما كانت الجرافات تسحق رفات الأموات لكي تفتح طرقا جديدة، قال الناس إن جثثا كاملة طفت فوق سطح الأرض وكأنها دفنت بالأمس. الناس يقولون كلاما ويرددونه من دون أسانيد قوية. البعض قالوا إنها جثامين شهداء ضد الاستعمار أو أصحاب بركة لذلك لم تتعفن، وآخرون قالوا إنها دفنت سرا تحت جنح الليل قبل وقت قصير، وأن الذين دفنوا أمواتهم هناك سرا فعلوا ذلك لأنه من الصعب الحصول على قبر في طنجة. الحصول على قبر الموت يشبه الحصول على قبر الحياة. وربما ستظهر قريبا مجموعات عقارية عملاقة متخصصة في بيع قبور للموتى مادام أنه لا فرق بين المساكن التي تبيعها للأحياء وبين القبور التي يدفن فيها الأموات. في كل الأحوال، فإن أموات هذه المقبرة خليط غريب من البشر والأسماء. على مقربة من الطريق مقابر بلا أسماء ولا لوحات. وحده قبر أمينة بن مرزوق لا يزال يحتفظ بلوحته. هذه المرأة دفنت هنا في يونيو 1950، ومن حسن حظها أن الطراكس لم يجرف عظامها مثلما حدث لمئات القبور الأخرى التي كانت تضم جثامين شهداء وعلماء. التوغل داخل المقبرة يعزلك تماما عن العالم الخارجي. صمتها مهيب وتبدو كقطعة من الأمازون في قلب المدينة. الأعشاب فيها خضراء يانعة والماء يمر زلالا بين القبور. كثير من القبور اختفت تحت الأعشاب الخضراء التي يبدو أن أشياء تتحرك تحتها باستمرار. هي ليست أجساد الموتى على أية حال. يمكن أن تكون جرذانا أو قططا أو حتى أفاع وضفادع في سباتها الشتوي الطويل. الأشجار باسقة في هذه المقبرة وتحيطها بكثير من الظلال التي تشبه الظلام. مئات الطيور السوداء تطير من شجرة إلى أخرى، وأحيانا تنزل نحو العشب الكثيف فوق المقابر وتختفي. لماذا تترك هذه الطيور السوداء أعشاشها فوق الأشجار وتختفي بين القبور؟ سكان هذه المقبرة ليسوا من الأموات فقط، هناك أحياء يبحثون عن عزلة خاصة بين مقابرها التي تشبه الأطلال. وسط الأحراش رجل وحيد يمسك في يده سبسي ويدخن الكيف ويرشف من كأس شاي أخضر. قربه كلب منكمش على نفسه مثل أفعى، وحوله أغنام سمينة ترعى من الأعشاب الوافرة على سطح القبور. لا الراعي يتحرك ولا الكلب يستفيق من نومته، أما الأغنام فإنها تنتبه أكثر لزوار المقبرة من الغرباء. الربيع أتى مبكرا إلى مقبرة بوعراقية، وهناك زهور صفراء وزرقاء تنبت بسرعة فوق القبور، ربما لأن عظام الموتى أكثر خصوبة من الأسمدة الاصطناعية التي تباع في الأسواق الممتازة. في المقبرة قبور جماعية كثيرة، وهناك قبور تضم أسرا بكاملها مثل قبر أسرة الفاسي التي تضم الأخوين محمد وإدريس، وأيضا أمهما السيدة فاطمة. كلهم توفوا سنة 1939 لسبب ما. هذه المقبرة تضم الكثير من الألغاز. أكواخ وسلسيون ونبيذ هناك قبور جماعية تحولت إلى أكواخ أو مطابخ في العراء. هناك قبر كبير يشبه كوخا من بلاستيك يبدو أن أحدا يختفي داخله. قربه ثلاثة أطفال ينظرون بتوجس وهم يشمون شيئا ما في أيديهم. شم السلسيون بين المقابر يبدو أكثر فاعلية، إما أنه يقربهم كثيرا من الموت، أو أنه يبعدهم عنه أكثر، وعمومنا فإن الذي يقضي ليله ونهاره وسط هذه المقابر الغريبة لن يخاف الموت أبدا. الأطفال لا يريدون الاقتراب ويهرولون مبتعدين. لا يريدون أحدا ليسألهم. إنهم يعرفون بحكم التجربة أن من يدخل هنا إما أنه أحد الصعاليك جاء للشرب أو التبول، أو مجنون تائه بلا هدف، أو فيلسوف معتوه يبحث عن راحته الوجودية بين عظام الموتى. قرب الأطفال تجلس امرأة مع بضعة رجال وهي تمسك في يدها شيئا يشبه قنينة جعة. المرأة تصرخ وتسب من حولها. هم لا يردون عليها لسبب ما، وفي كل الأحوال فإن هذه المقبرة، بالإضافة إلى كل مساوئها الأخرى، هي ماخور للمتشردين، ومزبلة للمقيمين، ومرحاض عمومي للعابرين، ومتنزه طبيعي لمن يكتفي بالنظر إليها عن بعد. على مرتفع في المقبرة يوجد قبر رجل اسمه بنعلي توفي سنة 1956، من حسن حظه طبعا، لأنه منذ تلك الفترة لن تعود مدينته كما كانت. خلف القبر تبدو عمارات تنبت وتطل بعنقها في السماء. الذين يبنون العمارات الشاهقة ويتطاولون في البنيان سينتهون لا محالة في مكان مثل قبر بنعلي؟ لا أحد سيفلت. بين القبور تظهر بين الفينة والأخرى بحيرات صغيرة بماء زلال، وفي عمقها أزبال من كل الأشكال، علب بلاستيكية، بقايا قنينات جعة، قنينة خمر أبيض، أحذية متهالكة، علب حليب.. وهناك رجل يتبول مباشرة فوق قبر على حافة شجرة. مسؤولو طنجة يعرفون جيدا لماذا يرفضون إقامة مراحيض عمومية في المدينة. هذه المقبرة تفي بالغرض. بين القبور روائح رطوبة عطنة وبقايا مواقد نار. هنا يطبخ المتشردون طعامهم من حطب الأشجار. لكن هناك تجارة قائمة داخل المقبرة حيث يأتي لصوص الحطب ويقطعون الأشجار ويبيعون حطبها. الكثير من الأشجار النادرة في هذه المقبرة قطعت وتحولت إلى حطب ممتاز في الأفران أو وسط مدافئ أغنياء المدينة. الدفء يأتي أيضا من أكثر الأماكن برودة.. برودة الموت. هناك قبور دكت تماما مع الأرض، وهناك قبور لا تزال تحمل أسماء أصحابها. هناك أيضا قبور مثقوبة لسبب ما. أحد القبور يشبه صندوقا من زليج وبه ثقب كبير. سرقة الجثث ليست مستبعدة في هذا المكان المهجور. طراكسات الحرية والاستقلال على مقربة من السور الخلفي لضريح بوعراقية في الجهة العلوية من المقبرة، توجد قبور لا تزال تحتفظ بأسمائها كاملة أو جزئيا. هناك قبر لرجل باسمه ولقبه الكامل: محمد أبو عنان أقريش. قربه قبر طفل اسمه المطالسي. هذا الولد قتل عندما كان في يومه الثالث كما هو مبيّن على لوحة قبره. من قتله؟ من يجرؤ على قتل طفل عمره ثلاثة أيام؟ اللوحة لا تجيب عن ذلك. في هذه المقبرة أيضا شهداء بالعشرات قضوا خلال انتفاضة 30 مارس 1952، أي أولئك الذين كانوا يطالبون بالاستقلال وماتوا برصاص الشرطة الدولية. اليوم، وبعدما جاء الاستقلال جرفت طراكسات الحرية والاستقلال عظامهم ورمتها في المزابل. لو عادوا أحياء هل كانوا سينتفضون للمطالبة بالاستقلال؟ من حسن حظ الذين دفنوا هناك قبل عشرات السنين أنهم حصلوا على قبرهم بالمجان، لأن في هذا الضريح المجاور للمقبرة، ضريح الوليّ بوعراقية، حصل رجل على قبر مقابل 5 ملايين سنتيم بعد تدخلات ووساطات كثيرة من عائلته. طنجة صارت مرعبة في الحصول على قبر الحياة وقبر الممات معا. حول مقبرة بوعراقية نشأ الكثير من العمارات، إحداها كانت سببا في مقتل الكثير من الأشخاص الذين قضوا بعد أن سقطت فوقهم أحجار وأخشاب ثقيلة، هكذا تساهم العمارات الجديدة في رفع نسبة الأموات في المدينة بينما تقل المقابر ويرتفع ثمنها، والناس يقولون إن شياطين العقار في طنجة، المعروفين أيضا باسم المنعشين العقاريين، ينتظرون الفرصة لكي ينقضوا على مقبرة بوعراقية ويطردوا أمواتها من أجل إقامة قبور للأحياء. أكيد سيحدث ذلك يوما لأن طنجة مدينة سائبة يمكن أن يحدث فيها أي شيء. وسط المقبرة طريق ضيقة بين الأحراش تربط بين أسفل وأعلى المقبرة. لا أحد يمر منها لأنها مهيبة وخطيرة. الناس يتوقعون في أي وقت أن يخرج لهم من تحت الأحراش قاطع طريق ويدفنهم في قبر فارغ. الأحياء يخافون الأحياء مثلهم وليس الأموات. آلاف أموات طنجة كانوا يرقدون في سلام بهذه المقبرة، واليوم تطاردهم الجرافات والنزوات المريضة لأباطرة العقار. إن بقوا في مكانهم لعشرين سنة مقبلة، فلله الحمد والشكر من قبل ومن بعد، وإن طردوا من قبورهم ومدينتهم، فما عند الله خير وأبقى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. القبور التي تحولت إلى مقاعد عمومية.. الجهة المقابلة لمقبرة بوعراقية قرب حي خوصافات، كانت بدورها مقبرة، لكن مقابرها تم محوها بالكامل وتحولت إلى حديقة بها عشب يبهج الناظرين، وبضعة قبور، هي خمسة قبور تم تركها هناك من أجل الزينة، وبذلك أصبحت طنجة أول مدينة في المغرب، أو في العالم عموما، تجعل من قبور عادية لأموات عاديين وسيلة لتزيين المدينة. هذه الحديقة كانت في السابق الجزء الخلفي لحديقة المندوبية الدولية، وكانت مقابر المسلمين تتجاور مع مقابر الرعايا الألمان الذين كانوا يشكلون جزءا قويا من نسيج سكان المدينة، وتلك حكاية أخرى. المقبرة الألمانية القريبة مسحت بدورها وبقيت فيها بضعة قبور أو بضعة شواهد قبور فقط. لقد حملوا بقايا عظام موتاهم ودفنوها في ألمانيا بكل الاحترام اللازم. هل من الضروري أن يتعلم المسلمون احترام موتاهم مثل النصارى؟ المثال الآخر لاحترام الموتى يوجد على الجانب الآخر من مقبرة بوعراقية حيث المقبرة البريطانية، حيث دفن هناك بريطانيون واسكتلنديون وغيرهم من الأجناس، وقبورهم تبدو كأنها أقيمت قبل أسبوع فقط. في تلك المقبرة حارس وكنيسة ومقاعد نظيفة وقطط سمينة تشرب الحليب ومحاطة بسور. إنها تحفة تاريخية حقيقية. لكن في هذه المقبرة الإسلامية الممسوحة أربعة قبور متجاورة لا تحمل لوحات، وذلك لحسن حظ الراقدين فيها. هي قبور متهالكة وبلا أي تميز تفردها عن باقي القبور التي تم محوها، لكنها بقيت هنا لأسباب مجهولة. على بعد حوالي 50 مترا من القبور الأربعة، يوجد قبر وحيد يشبه مقعدا إسمنتيا من العصر الحجري. هناك احتمال كبير لوجود هذا القبر الغريب في هذا المكان، وهو أن الميزانية نفدت من أجل بناء كراس إضافية، فتم الإبقاء على هذا القبر من أجل أن يستريح فوقه العابرون. آه على هذا المسكين صاحب القبر الذي تحول إلى مقعد عمومي، لو كان يدري لما مات.. وبما أن أمر الموت والحياة ليس بيده، فإنه لو علم بمصيره لرمى نفسه في البحر كما يفعل اليوم آلاف المغاربة الحاركين إلى إسبانيا. البحر أفضل مقبرة لأن لا أحد يجلس على ناصية قبرك يشرب النبيذ الرخيص أو يدخن الماريوانا أو يسترق القبلات مع داعرة متشردة. اللهم اجعل قبورنا في الممات أحسن من قبورنا في الحياة، ولا تسلط علينا الحمقى والمشردين وشمامي السلسيون يجلسون على ناصية مراقدنا، واهد اللهم مسؤولي هذه المدينة الشاردة التي اسمها طنجة لكي يبنوا للأمة مراحيض عمومية حتى يتخلص الأموات من استقبال فضلات الأحياء. وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، وشتت شمل الأحياء الذين أذلوا الأموات، لك الأمر من قبل ومن بعد.