منذ عقود مضت, ظهرت الحاجة إلى المطالبة بمشروع قانون يجرم "الإثراء غير المشروع" المعروف بمبدأ " من أين لك هذا " أو " من أين لك كل هذا " ، و كانت شخصيات كبيرة تحتل مناصب المسؤولية في الدولة تعارض هذا المشروع لكونها كانت تعلم أنها هي المقصودة و جاء اليوم المشروع الجديد المتعلق بتعديل القانون الجنائي مساندا لجهود مكافحة الفساد و الرشوة و الاختلاس و الإثراء بلا سبب و بالذات جرائم الاعتداء على المال العام الذي هو ملك لجميع المغاربة ، و يمكن تعريف الإثراء غير المشروع بأنه حصول أي شخص على كسب بلا سبب و بدون أي جهد بطرق غير مشروعة على حساب شخص آخر ، و غالبا ما تكون جريمة الإثراء غير المشروع مرتبطة باستغلال و باستثمار الوظيفة العمومية للحصول على كسب غير مشروع, خاصة لما لها من آثار سلبية خطيرة على الاقتصاد الوطني ، فهذه الجريمة هي ذات طابع خاص مختلف عن الجرائم الأخرى التقليدية, سواء من حيث الأشخاص الذين يرتكبونها أو الضرر الناجم عنها ، فمرتكبو هذه الجريمة يتمتعون بمستوى ثقافي وعلمي و خبرة في مجال عملهم تمكنهم من ارتكاب تلك الجريمة و إخفاء معالمها عن الأجهزة الرقابية ، كما أن حجم الضرر الناتج عنها يقع بصفة مباشرة على المال العام مما يؤدي إلى إضعاف كيان و مقومات الاقتصاد الوطني و بالتالي فإن المواطنين هم أول المتضررين من هذه الجريمة ، ولذلك فإن التشريع وحده لا يكفي لمكافحة هذه الجريمة بل لا بد من إيجاد آلية و إجراءات معينة تسهل عملية اكتشاف و إثبات هذه الجريمة من أجل استرداد المال العام الذي وقع نهبه و سرقته من طرف الموظفين و رؤساء الجماعات و غيرهم من المسؤولين الذين يفترض أن يقدموا إقرارا عن ذمتهم المالية و ذمة أزواجهم و أولادهم على أن تتضمن هذه الإقرارات مصدر الزيادة في الذمة المالية ، و يوم الأربعاء 8 ماي أعلن الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات أمام أعضاء مجلسي البرلمان ، ما اعتبره استهتارا مؤسساتيا ، عن إجراءات قانونية ستهم رافضي التصريح بممتلكاتهم ، و من الملاحظ أنه لا يوجد في بلادنا قانون إشهار الذمة المالية بالنسبة للموظفين العموميين كما هو معمول به في الدول الديمقراطية ، فإذا طرأت زيادة على مال المسؤولين الكبار في هذه الدول ، أو على مال أزواجهم أو أولادهم بعد توليهم الوظيفة و كانت لا تتناسب مع مواردهم و عجزوا عن إثبات مصدر تلك الزيادة تعتبر هذه الزيادة ناتجة عن استغلال الوظيفة والصفة ، و في هذه الحالة يخضعون للمحاسبة و المحاكمة ، لكن في الدول المتخلفة , فإنه يصعب مكافحة الإثراء غير المشروع و حماية المال العام من السرقة والنهب و الاختلاس ، كما يصعب كذلك تغيير القانون ، لأن عملية تغيير القانون هي صراع بين القانون الثابت و القانون المتحرك ولا يختلف الصراع من أجل تغيير القانون عن الصراع في المجالات الأخرى السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ، فإذا قلنا يجب تغيير شيء ، فهذا يعني أن هذا الشيء فاسد لا يصلح للاستعمال في زمن معين ، ويستحيل تغيير بعض فصول القانون الجنائي إلا بعد صراع مرير و شاق قد يطول لقرون عديدة نظرا لارتباطه بثوابت النظام السياسي القائم ، لأن القانون كما تقول المدرسة القانونية الشيوعية : " ما هو إلا تعبير عن إرادة السلطة الحاكمة ". إن الكون منذ نشأته يعيش حالات التغيير المتعددة و المتكررة في المادة و الطاقة ، فالمادة و الأفكار و الواقع والكون يستمد قوته و بقاءه من عناصر الحركة و التغيير و التكيف ، فالإنسان وفكره و ما يحيط به لم يكن على هذه الحالة منذ آلاف السنين و لن يكون على نفس الحالة مستقبلا ، بالتأكيد سوف يتغير بيولوجيا و لن تستطيع أي قوة من إيقاف تغييره ، إن جميع علماء الكيمياء و الفيزياء و الجيولوجيا و الفلك و الاجتماع و السياسة و التاريخ يجمعون على أن التغيير حالة إجبارية و ليس اختيارية و سوف يجرف التغيير جميع المواد الراكدة و أن الأفكار والمعتقدات و الطقوس سوف تعيش حالة من الصراع بين القانون الثابت و القانون المتحرك و في النهاية ستكون الغلبة للقانون المتحرك الذي سينتج أفكارا و معتقدات و مفاهيم جديدة تتناسب مع الحاجة والضرورة ، و في بلادنا يوجد صراع مرير بين القوى المحافظة المرعوبة و الخائفة من التغيير و بين القوى الوطنية الداعية إلى التغيير والتطور و التقدم . تنص المادة 256 -7 من مسودة تعديل القانون الجنائي على ما يلي: "يعد مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع ، و يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين و غرامة من 5000 إلى 50000 درهم كل موظف عمومي ، ثبت بعد توليه للوظيفة أن ذمته المالية عرفت زيادة ملحوظة ، و غير مبررة ، مقارنة مع دخله المشروع ، و لم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة " . و من المعروف أن الأموال المسروقة و المنهوبة التي تم الحصول عليها عن طريق الإثراء بلا سبب و التي تم تهريبها من المغرب إلى الخارج يبلغ 25 مليار دولار ، و أن وزبر الداخلية المخلوع إدريس البصري الذي كان مكلفا بتدبير البلاد و العباد على امتداد 3 عقود ، فإن ثروته المهربة المودعة بالخارج تعد بملايين الدولارات و الأورو ، ولا يخفى على أحد أن وزارة الداخلية التي ظل إدريس البصري جاثما على صدرها لمدة 30 سنة دون منازع كان يتحكم في مديرية التراب الوطني التي كانت تتوفر على صندوق أسود و ظل يتصرف في أموال وزارة الداخلية و التراب الوطني و يجمع الأموال بطرق غير مشروعة من العمالات و الأقاليم دون حسيب و لا رقيب ، هذا إضافة إلى الصندوق الخاص بملف الصحراء المسترجعة الذي كان يتصرف فيه كذلك تصرف المالك في ملكه الخاص كيفما كان يحلو له فضلا عن الصناديق الأخرى التي أفرغت و سرقت ، فأين صرفت هذه الأموال الطائلة لتلك الصناديق ؟ إنها أسئلة لا زالت تنتظر الجواب. نظريا لم يعد الإثراء غير المشروع خارج المحاسبة القانونية طبقا للمادة 256-7 من التعديل الجديد للقانون الجنائي الذي جاء مطابقا للاتفاقية العربية لمكافحة الفساد التي وقع عليها المغرب في 12 / 12 / 2010 التي جاء في ديباجتها ما يلي: " إن الدول العربية الموقعة، اقتناعا منها ، بأن الفساد ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية و الحياة السياسية و النواحي الاقتصادية و الاجتماعية ، و إذ تضع في اعتبارها أن التصدي للفساد لا يقتصر دوره على السلطات الرسمية للدولة وإنما يشمل الأفراد و مؤسسات المجتمع المدني التي ينبغي أن تؤدي دورا فعالا في هذا المجال ". و من المعروف أن الحكومة المغربية تراجعت عن فتح ملفات حسابات مهربي الأموال في سويسرا و بعض الدول الأوروبية لأنها لا تملك الضوء الأخضر للتوقيع على مثل هذه الاتفاقية خوفا من المسؤولين الكبار في الدولة و في جميع القطاعات ، لأن لائحة مهربي الأموال إلى الخارج تضم نسبة عالية من أصحاب القرار في الدولة ، و هذا يعني أن الحكومة لا تملك السلطة الفعلية والشجاعة لاتخاذ مثل هذه الإجراءات الجريئة لاسترجاع أموال الشعب المهربة إلى الخارج بطرق غير مشروعة و التي تشمل أموال اكتسبها المسؤولون الكبار عن طريق السرقة و الاختلاس و الرشوة و استغلال النفوذ ، وهكذا تطوى ملفات الفساد و نهب المال العام في المغرب والتي تقدر بملايير الدولارات ، و أن تعديل القانون الجنائي في هذه النقطة بالذات ما هو إلا محاولة للتغطية على فضائح كبار المسؤولين الذين لن تستطيع يد العدالة أن تصلهم و أصبح للمغاربة ذكريات سيئة مع الفساد المالي الذي طال أمده ابتداء من عهد أوفقير إلى وزير الداخلية المخلوع إدريس البصري والى يومنا هذا ، و كلما طفا على السطح ملف من ملفات الفساد الكبرى حتى يضع المغاربة أيديهم على رؤوسهم ، فتصيبهم الخلعة و الدهشة من هول كارثة هذه الملفات و ضخامة الأموال المسروقة التي تعد بالملايير وهم يعلمون مسبقا أن أسماء الكبار الذين سرقوا أموال الشعب لن تظهر على قائمة المتورطين الحقيقيين, بل تقدم مكانهم أكباش فداء أبرياء تجر إلى السجون ، و بدأ حرب المغرب على الفساد بسجن خادمة بيوت وهي امرأة فقيرة الحال سرقت قطعة لحم من مطبخ خادمتها الوالية بوزارة الداخلية لتسد بها رمقها فحكمت عليها محكمة القنيطرة بالحبس لمدة 6 أشهر نافذة في وقت قياسي دون تمكينها من توكيل مدافع عنها طبقا للقانون ، فهذه الحادثة المؤلمة تذكرنا ببؤساء فيكتور هيكو في روايته الشهيرة التي قرأناها و نحن صغار في الثانوي و التي حملت نفس العنوان و فيها يحكي عن قصص بؤساء فرنسا في بداية القرن الثامن عشر حيث سجن بطل الرواية " جان فال جون " لأنه سرق رغيف خبز احتاجه لكي يسد به جوع أسرته ، و هنا يظهر الفرق الشاسع بين السرقة التي يرتكبها الكبار أصحاب ملايير الدولارات والعقارات و الشقق الفاخرة في الخارج و سرقة قطعة لحم أو رغيف خبز التي يضطر إلى ارتكابها أحد الفقراء من أجل إطفاء لهيب الجوع ، و هذا يحدث في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام عن ملفات الفساد واختلاس المال العام والإثراء غير المشروع دون متابعة و لا محاكمة ، و في الوقت الذي كشفت فيه المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن الدخل الفردي للمواطن المغربي يعد من بين الأضعف عربيا ، يقابل ذلك تصاعد عملية تهريب الأموال إلى الخارج ، و في هذا الصدد ذكرت صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن ، في عددها بتاريخ 10 . 1 . 2013 أن الأموال المهربة من المغرب إلى الخارج بلغت 12 مليار دولار خلال العقد الأخير مما جعله يحتل المرتبة 45 في قائمة الدول التي تعرف تهريبا للأموال ، فقد كشف تقرير جديد أصدره " مكتب النزاهة المالية العالمية " حول تهريب الأموال إلى الخارج ، أن المغرب يحتل المرتبة 45 عالميا من بين 143 دولة فيما يخص تهريب الأموال ما بين 2001 و 2010 حوالي 12 مليار و 832 دولارا أي أكثر من 109 مليار درهم ، و أضافت الجريدة اللندنية أن تهريب الأموال بشكل سري غير مشروع نحو الخارج يؤثر سلبا على اقتصاديات الدول و أن مهربي الأموال في المغرب ما زالوا يعتمدون على العديد من الوسائل والتقنيات المعروفة لغسل الأموال و ذلك عبر اللجوء إلى الشركات الوهمية أو بيانات كاذبة في أرباح الشركات الكبرى والمتوسطة بالإضافة إلى الأرباح الناتجة عن اقتصاد الريع ، و قالت مؤسسة "بوسطن " الاستشارية الأمريكية أن أكثر من 30 في المائة من أموال الأغنياء في المغرب توجد أساسا في حسابات خاصة في بنوك سويسرية و بريطانية ، و أكدت هذه المؤسسة أن المغرب يحتل المرتبة الثانية في دول شمال إفريقيا فيما يخص الأموال المهجرة إلى الخارج فأين هو تطبيق مبدأ المواطنة ؟ ما دام كبار المسئولين و أغنياء المغرب يهربون الأموال إلى الخارج . قال رئيس الحكومة بنكيران أمام البرلمان أنه يملك وثائق تشير إلى تورط مسؤولين في تهريب الأموال من المغرب إلى الخارج ، لكن هذه التصريحات لا تعدو أن تكون مجرد استهلاك سياسي في إطار صراعه مع أحزاب أخرى معارضة لسياسة حزبه الذي كان يعد المغاربة أثناء الحملات الانتخابية بمستقبل سعيد وعيش رغيد و بالقضاء على الرشوة و الاختلاسات و الإثراء بلا سبب و محاربة جميع أشكال الفساد ، لكن نشاهد اليوم عكس ما جاء في وعوده حيث ازدادت ظاهرة الفساد و كثرت الاختلاسات دون محاسبة و لا مراقبة و لا متابعة و لا محاكمة ، و هكذا يمكن القول أن القانون وحده لا يكفي لمكافحة الجرائم الاقتصادية التي تدمر البلاد وتفقر العباد ، بل لا بد من وجود رجال أكفاء مخلصين لوطنهم يعملون على تفعيل هذه القوانين حتى لا تبقى مجرد ديكور قانوني يستخدم في المحافل الدولية لتزويق و تجميل وجه المغرب في الخارج . * المحامي بهيأة وجدة