موقف الحكومة من ظاهرة تهريب الأموال الذي يذهب في اتجاه التقليل من مستوى خطورتها يخلق نوعا من المخاوف لدى المراقبين وشبكات حماية المال العام، التي اعتبرت التصريحات الأخيرة للوزير المنتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية محاولة للتعتيم على الأرقام الحقيقية لتهريب الأموال من المغرب إلى الخارج، خاصة أن ملف تهريب الأموال ظل في مقدمة الجرائم الاقتصادية والاجتماعية المسكوت عنها في المغرب بسبب ما تثيره من حساسيات سياسية وبفعل تموقع بعض المتورطين فيها. في هذا الملف نستعرض أهم ما جاء على لسان المسؤولين الحكوميين حول الظاهرة، وكذا أهم التقارير الدولية التي ترصدها، بالإضافة إلى تداعياتها على الاقتصاد الوطني. خلال أكتوبر الماضي أعلنت مجموعة العمل المالي عن رفع اسم المغرب من لائحتها الرمادية للدول التي لا تطبق المعايير الدولية في مجال مكافحة غسل وتهريب الأموال. وثمنت المجموعة التقدم الذي أحرزه المغرب في هذا المجال، خصوصا على المستوى القانوني والجنائي. لم يكد يمر شهر واحد على قرار المجموعة حتى خرج ادريس الأزمي، الوزير المنتدب لدى وزير المالية المكلف بالميزانية، ليكشف عن رقم صادم حول قيمة الأموال المهربة من المغرب، فالرجل أكد أن حوالي 4 مليارات دولار تم تهريبها من المغرب إلى الخارج، موضحا أن أغلب عمليات التهريب هي ناتجة عن تقليص حقيقة الصادرات أو الزيادة في حقيقة الواردات، ولذلك، يضيف الوزير، فإن الحكومة تقوم بمراقبة الأبناك التي لها علاقة بهذه العمليات التحويلية نحو الخارج وإلى المغرب، لكي يتم التأكد من حقيقة رقم المعاملات الواردة في كشوفات الشركات التي تقوم بالاستيراد والصادرات. الأزمي وإن حاول التقليل من مستوى خطورة الظاهرة من خلال اعتماد أرقام صادرة عن البنك الدولي، إلا أنه خلق نوعا من المخاوف لدى المراقبين وشبكات حماية المال العام، التي اعتبرت تصريحاته محاولة للتعتيم على الأرقام الحقيقية لتهريب الأموال من المغرب إلى الخارج، خاصة أن ملف تهريب الأموال ظل في مقدمة الجرائم الاقتصادية والاجتماعية المسكوت عنها في المغرب بسبب ما تثيره من حساسيات سياسية وبفعل تموقع بعض المتورطين فيها. وإذا ما عدنا حوالي 5 أشهر إلى الوراء، فإن صريحات الأزمي تتناقض نوعا ما مع ما ذهب إليه وزير المالية السابق نزار بركة، الذي أقر أمام البرلمان بعجز الحكومة عن ضبط الأموال التي تهرب إلى الخارج، حيث كشف أن صعوبة رصد هذه الأموال تتعاظم بسبب ما قال إنه اختلاط تهريب المخدرات، بالامتيازات الضريبية في دول معينة، وبكثافة التعامل الإنساني ماليا في عالم يخضع للعولمة. وهو ما يجعل مخاوف المراقبين، التي تحدثنا عنها سابقا، ذات معنى، ويطرح معه أكثر من تساؤل حول المستويات الحقيقية لظاهرة تهريب الأموال، والجهات المتورطة فيها، وكذا الأساليب المتبعة فيها.
أرقام وتقارير صادمة التقارير التي تتحدث عن ظاهرة تهريب الأموال من المغرب كثيرة ومتنوعة، غير أن أهمها هو التقرير الذي أصدرته مؤسسة «بوسطن» الاستشارية الأمريكية، في يونيو 2012، والذي أكد أن أكثر من 30 في المائة من الثروات التي تمتلكها الأسر الغنية في المغرب توجد أساسا في حسابات خاصة في بنوك سويسرا وبريطانيا، وهو ما جعل المغرب يحتل الرتبة الثانية في شمال إفريقيا بعد تونس في ما يخص تهجير الثروات. وأكدت الدراسة، التي اعتمدت في نتائجها على معطيات ترتبط بصناعة إدارة الثروات العالمية والحجم الحالي للأسواق المالية وحجم الثروات والأصول الموجودة في الخارج، فضلا عن مستويات نتائج المؤسسات الرائدة، أن المغرب يتبوأ رتبة متقدمة بين الدول العربية في مجال تمركز أموال أغنيائه في البنوك الأوربية بعد الكويت والإمارات والبحرين ولبنان. لكن، من حيث الأرقام، يظل التقرير الأخير الذي أصدره مكتب «النزاهة المالية العالمية» أكثر دقة، حيث أكد أن المغرب يحتل الرتبة 45 من بين 143 دولة في ما يخص تهريب الأموال إلى الخارج، إذ تم خلال الفترة ما بين 2001 و2010 تهريب حوالي 12 مليارا و832 مليون دولار، أي أزيد من 109 مليارات درهم. ويعتبر التقرير أن المعدل السنوي لتهريب الأموال إلى الخارج انطلاقا من المغرب، بلغ حوالي مليار و283 مليون دولار، أي حوالي 10 مليارات و905 ملايين درهم، وأن حجم الأموال المهربة سنة 2010 بلغت 980 مليون دولار، مقابل حوالي 2.4 مليار دولار سنة 2009. و1.8 مليار دولار خلال 2008، وحوالي 688 مليون دولار سنة 2007، وحوالى 792 مليون دولار خلال 2006، في حين سجلت 2005 أعلى نسبة خلال العشر سنوات حيث ناهزت قيمة الأموال المهربة 3.7 مليارات دولار. عصابات ورجال أعمال وسياسيون في قفص الاتهام
تصنيف تهريب الأموال ضمن الجرائم الاقتصادية الخطيرة التي يعاقب عليها القانون لا يعني أن المتورطين فيها هم فقط من عتاة المجرمين، فقد أصبح هناك أثرياء ورجال أعمال وأرباب شركات ينخرطون، بدورهم، في عمليات تهريب يغلب عليها الكثير من الاحتيال والتعقيد، بل حتى مسؤولون سياسيون صاروا يتهمون بالتهريب وتبييض الأموال على نطاق واسع. هذا الأمر جعل تقرير«هيئة النزاهة المالية العالمية» يذهب إلى أن تهريب الأموال من المغرب أصبح يعتمد أكثر من سبيل وخدعة، فقد يتم عن طريق تهريب السلع والمخدرات والرشوة وغسيل الأموال، وهذا ما يمثل في نظر معدي التقرير ما بين 30 و35 في المائة من مجموع المبالغ المهربة، في حين تصل نسبة رؤوس الأموال المهربة بواسطة الرشوة والمسؤولين الكبار في الدولة إلى أكثرمن 3 في المائة. وتظل حصة الأسد من الأموال المهربة تتم بطريقة تبدو «عادية» وتجتاز المراقبة التي تقوم بها أجهزة الجمارك بسهولة فائقة، وذلك باعتماد تزوير التصاريح المدلى بها. وهو ما جعل واضعي التقرير يستخلصون أن ما بين 60 إلى 65 في المائة من رؤوس الأموال المهربة ناتجة عن التهرب الضريبي، إذ يكفي النفخ في قيمة الواردات والتقليل من قيمة الصادرات، حتى تصبح ملايير الدراهم خارج المغرب رغم أنف عيون المراقبة. وبالإضافة إلى هذه العمليات هناك أيضا التهريب السري لأرباح الأسهم والشركات، والتلاعب بالمساعدات الدولية، سواء في المصدر أو بعد وصولها إلى خزينة الدولة. وقد دفع تهريب الأموال عن طريق التحايل في التصريحات الضريبية والمعاملات التجارية وأرباح الشركات إلى دق ناقوس الخطر مع التنبيه إلى أن الأنظمة البنكية «تخترقها اختلالات تساعد على تسهيل تهريب الأموال، حيث تستغل بعض المؤسسات المصرفية أوضاع الأزمة المالية العالمية لعدم كشف أرقام معاملاتها الحقيقية. أزمة السيولة جزء من مشكل تهريب الأموال انعكاسات تهريب الأموال على الاقتصادات التي تعاني منه يظهر جليا فيما يحدث حاليا في المغرب، فالقطاع المالي يعاني منذ مدة من شح كبير في السيولة ناتج بالأساس عن تراجع احتياطيات العملة الصعبة، التي يتم تهريب جزء كبير منها خارج الحدود. ويجمع المراقبون على أن النظام المالي الدولي يساهم بشكل كبير في تهريب رؤوس الأموال من البلدان الفقيرة والتي في حاجة ماسة إليها من أجل انطلاق آليات تنميتها لتحسين أوضاع شعوبها. كما أن الفساد المالي والإداري يعتبران من أبرز الأسباب التي تساعد على تسهيل تهريب الأموال. وفي تفسيرهم لأسباب النزوع نحو تهريب الأموال إلى الخارج، يرى الخبراء أن السبب الأول يعود إلى أن بعض الأثرياء يقومون بفتح حسابات بنكية في البنوك الأجنبية، خصوصا الذين كانت لديهم تصورات معينة ترتبط بالتخوف من مستقبل البلاد، وذلك قبل 15 أو 20 عاما. أما السبب الثاني، الذي يمكن أن يفسر وضع عدد من المغاربة أموالهم في المصارف الأوربية، فيتجلى في أن تحويلات المغاربة إلى الخارج مُقننة وفق قوانين مكتب الصرف، الذي ينظم مثل هذه العمليات المالية في البلاد. ويوضح هؤلاء أن تقنين التحويلات المالية إلى الخارج، بخلاف دول أخرى تمتلك حرية أكبر في تحويل الأموال، دفع أعدادا من المغاربة إلى امتلاك أرصدة مالية في البنوك الأوربية، إما بطريقة مباشرة أو عن طريق التحويلات، وذلك لعدة غايات منها توفير ظروف التطبيب أو الدراسة أو للسياحة أيضا. ويلفت الخبراء إلى أن «تهريب» الثروات والأموال المغربية إلى البنوك الخارجية أدت إلى فقدان وضياع ادخار وطني يوظف في الخارج في استثمارات خارجية، الأمر الذي يضيع على البلاد إمكانية الاستفادة من ثروات وأموال مواطنيها في إقامة مشاريع استثمارية تعود بالنفع والفائدة على المجتمع. مكتب الصرف.. العين بصيرة واليد قصيرة وقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009 على مجموعة من الاختلالات في مكتب الصرف، وعلى رأسها، تحويل رؤوس الأموال للخارج بشكل مخالف للنصوص المنظمة للصرف بالمغرب، إذ سجل التقرير قصورا كبيرا على مستوى مراقبة عمليات المساعدة التقنية الأجنبية وعمليات تحويل أرباح الأسهم للخارج، والعمليات التي تقوم بها البنوك وشركات التأمين وإعادة التأمين وشركات الوساطة بالبورصة مع الخارج، وهو قصور أدى إلى قيام الفاعلين بنقل أموال للخارج بشكل مخالف للقانون. كما كشف التقرير قيام شركات التدبير المفوض خلال الفترة الممتدة بين 2004 و2009 بتحويل أرباح تقدر قيمتها بحوالي 340 مليون درهم نحو الخارج، وذلك في ظل تقاعس مكتب الصرف عن القيام بمهمته المتعلقة بمراقبة هذه العمليات. وقال التقرير إن شركتين مستفيدتين من التدبير المفوض حولتا ما يقارب 208 ملايين درهم ما بين 2004 و2006 بشكل يخالف القانون. وأكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات أن مكتب الصرف مؤسسة عمومية تفتقد إلى الحكامة، حيث لا يتوفر على مجلس إداري، كما أن لجنة التتبع والمراقبة المكلفة بالسهر على تنفيذ النصوص المنظمة للصرف لم يسبق لها أن عقدت أي اجتماعات، وبالتالي ففي غياب أجهزة الحكامة والمراقبة، عمد مدير مكتب الصرف إلى تطبيق النصوص المنظمة للصرف بدون مراقبة أو تتبع، وكذا ممارسة مهام تتجاوز مجال اختصاصاته.