فيلم وثائقي عن مئة عام على السينما اللبنانية يبلغنا ان لنا تاريخاً، وأننا حتى في فن حديث كالسينما نرجع إلى التاريخ، والحق أن الفيلم اقتفى أثر هذه السينما مرحلة بعد مرحلة وفيلماً بعد فيلم وكان علينا، لو شردنا إلى السوسيولوجيا، أن نجد بدايات كثيرة لم تُستأنف على حد قول وضاح شرارة، فيلم يحمل أسماً بيروتياً »أبو العبد« هو محاولة لسينما بيروتية لم تعقبها محاولات أخرى، استمتعنا بمشاهدة الفيلم المئوي لكن كما نتمتع بسرد ذكريات فاتتنا في حينها. استمتعنا بل بهرتنا أشياء في رأسها هذه الحرية التي ميزت السينما اللبنانية بحيث رأينا نهوداً عارية وتخطيات أخرى لتابوات راكزة في الثقافة العربية، والسينما بوجه خاص. هذه الحرية لم تكن كلية، فإذا أمكن التعامل مع الجسد بدون عائق فإن هذه الحرية لم تشمل صناعة السينما بكاملها. لم نجد في المقابل جرأة في الأغراض والطرائق والأساليب، لم نجد جرأة سينمائية بل لم نجد إلا في النادر سينما متصلة متعاقبة، فهذه الجرأة على الاحتشام الجسدي كانت في سياق تجاري غايته اجتذاب الجمهور، ذلك أن هذه الجرأة اتصلت غالباً على مستوى السينما بغثاثات وترهات من كل صوب، أي انها تتصاحب مع سينما بدائية وميلودرامات من أسفل صنف وضعف تقني وفوضى أسلوبية. لم تكن هذه الحرية قيمة ولا غرضاً ولا وجهة أو موقفاً، لقد كانت جزءاً من اكسسوار شعبوي عامي، إن من ناحية الغرض أو الموضوع أو الرسالة، ولقد دخلت هكذا في محيط فولكلوري اعتبر أوفق الطرق لاجتلاب الجمهور. لم تكن الحرية موقفاً أو غرضاً، فإلى جانبها كنا امام سينما غير قادرة على النهوض وقانعة بأكثر الطرائق تبسيطاً وبدائية. لكن ثمة أمراً آخر باعثاً على الدهشة هو أن مئة سنة على تاريخ السينما لم تصنع تاريخاً، فما رأيناه هو محاولات لا تلبث أن تنقلب على نفسها. ما رأيناه هو محاولات لا تترك عقباً أو أثراً ولا تبني على غيرها ولا تقدم رصيداً، أي رصيد، لما يتلوها. سينما هي سلسلة هائلة من بدايات غير مستأنفة أو من بدايات بعد بدايات وقبل بدايات، منفردة معزولة. أي لنقل إن القليل من الأفلام الجيدة أو لنقل هنا الأفلام الجدية بقي فرداً ومنفصلاً ولم يتصل بسواه أو يبني عليه سواه. هذا يعني بكلمة واحدة أن مئة سنة على السينما اللبنانية لم تصنع تاريخاً وأن زمن هذه السينما بقي حالات منفردة. بل يمكننا القول أو التساؤل إذا كان هناك حقاً سينما لبنانية، إذ كانت هذه السينما تستحق أن تنسب إلى تاريخ أو إلى مسار. مع ذلك كله، كان الفيلم يصر على أن يمرحل زمن السينما اللبنانية وأن يضعه تحت أبواب وعناوين. الغريب أن الفيلم كان يعتبر أن مراحل الهبوط كانت جميعها متأثرة بالسينما المصرية. أي أن هبوطها كان من تأثرها بهذه السينما، بدون الانتباه إلى أن معظم الأفلام اللبنانية المشار إليها بهذه الصفة تقف وراء الأفلام الشعبية المصرية، فالأفلام الشعبية المصرية قد استحالت نمطاً، وبات لها بناء وتقاليد فيما أن أفلاماً من هذا النوع في لبنان تقوم على غير قواعد وتتكون بلا تقاليد وبدون أي نمط. لست من المعجبين بمعظم نتاجات السينما المصرية، لكن السينما المصرية صناعة ذات مسار وذات أنماط وذات مستويات. ما يعني ان للسينما المصرية تاريخاً فعلياً وأن للسينما المصرية وجوداً كصناعة ووجوداً كثقافة. لا بد اننا قلَّما نعجب بالسينما الشعبية، سينما الكيتش المصرية، لكن هذه السينما هي مثل حكايانا الشعبية، وتنطبق عليها عناصر هذه الحكايا. إن حفلات الغناء والرقص والولائم التي عمرت بها هذه السينما هي نتاج شعبوي لم يكن وحده في الميدان، فثمة سينما نخبة غير سينما بركات وحسن الإمام. ليس من الضروري ان نذكر أسماء صلاح أبو سيف ويوسف شاهين لندلل على وجود هذه السينما، لكن هذا الجيل أعقب جيلاً آخر مهماً للغاية هو جيل علي بدرخان ومحمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد. هذا الجيل أسس بحق سينما مصرية. لقد وجدت صناعة كان لها مسار صناعة وقدمت نتاجاً شعبياً له نمطه، ونتاج نخبة له أيضاً مساره وبنيته.