في مبادرة خلاقة يقدم لنا الناقد محمد ممدوح قراءته لتجربة السينما المستقلة في مصر، وبالرغم من أن صعوبات عديدة تعترض المتصدى لهذا الموضوع الشائك، بل المولود في ثنايا الشوك.. إلا أن المؤلف وعبر كتابه "ديمقراطية الوسيط" يسبق دائماً قارئه بخطوة–خطوة لا مزيد- في تلمس الطريق للتعرف على معالم تلك التجربة، ليشرك بذلك متلقيه برفق، في التعريف بالتجربة دون أن يكون للمؤلف الصوت النهائي الحاسم الحصين، ليتماسا بذلك –نعني القارئ والمؤلف- مع مزاج تجربة الفن المستقل عموماًَ من أكثر من موضع .. فالتماس هنا لا يحضر فقط على مستوى طرح الذات عبر العمل الفني فحسب، بل أيضاً عبر الفعل النقدي المتابع لهذا العمل وبنفس الدرجة.. يدور الكتاب بالأساس حول "صعود السينما المستقلة في مصر" لكن ذلك ليس سوى العنوان الثاني للكتاب، ففي تصويبة تعرف مرماها، يظهر العنوان الأكبر للكتاب والذى هو "ديمقراطية الوسيط" لافتاً النظر إلي كون المشروع بالأساس تولد في اهاب شرط تكنولوجي معاصر، هذا الشرط هو ظهور الكاميرا الرقمية واعتمادها كأداة صنع الفيلم الرئيسية، مع خصوصية تلك الأداة وما تمنحه من تيسيرات على مستوايات عديدة تبسط من عملية صناعة الفيلم، وتمنح إمكانية آرحب للتجربة لأي راغب.. وأتساع إمكانية التجربة لأعداد أكبر، وبشروط أيسر، هو مطلب واحتياج فني يساوق الديمقراطية كمطلب سياسي .. وكان بانتظار ظهور الوسيط الذي ظهر كالعادة في الوقت الملائم ليؤكد أن الحاجة أم الأختراع، وأما الضرورة فهي أم البدع.. هذا المعنى نتلمسه في مقدمة الكتاب حين يشير الناقد عصام زكريا إلى سياق كامل من المستحدثات واكبت ظهور تعبير "السينما المستقلة" منها المول التجاري والهواتف المحمولة والانترنيت وكاميرات الفيديو الرقمية الصغيرة، لتكون حسب تعبيره "بمثابة ثورة هائلة تعصف بكل أساليب حياتنا القديمة".. وهو يشير إلى أن استخدام تعبير السينما المستقلة في مصر- جاء ليوصف شيء مختلف ، عما هو مستخدم له في الغرب، و قد مر هذا الأستخدام بمراحل جعلته في وقت تعبير منكر على مستخدميه في توصيف الظاهرة السينمائية الجنينية، ثم استحال إلى تعبير ينأى عن أن يوصف به بعض صناعها في مرحلة تالية.. فتحولت العبارة من (ليس لدينا هنا ما يعرف بالسينما المستقلة أساساً)، إلي(لأ ..العيال دول لا هم مستقلين ولا حاجة)، وهذ ا التطور في حد ذاته يعني شيئاً ما، يبسطه الكاتب صراحة حين يقول"كنت-ولازلت- أعتقد بأن أي مصطلح لا دلاله له في ذاته، وأن ما يهم هو وضوح المعنى الذي يتولد في ذهن الناس عند قوله أو سماعه" وهو الأمر الذي يعزو للمتلقى أو للمستهلك نفسه مسئولية إنتاج المعنى، يتم ذلك بداهة عبر إعادة التفسير التي يمر بها أي مصطلح على يد الجماعة التي تقرر استخدامه في زمان ومكان محدد.. وعلى مهل يتهادى بنا المؤلف في تمهيد أكاديمي، يبسط فيه مشكلة الدراسة التي ألف كتابة بغرض طرحها، ويوضح أهمية الدراسة وأهدافها والدراسات السابقة عليها والصعوبات التي تواجه الباحث في الوصول إلي المراد منها، يخلص القارئ منه إلي أن الدراسة تطرح نفسها كرد فعل نقدي وبحثي يواجه التهميش النقدي لظاهرة السينما المستقلة في مصر، ويرجي من وراءه إلي إلقاء الضوء على هذه الظاهرة ولفت النظر لما تستحقه من دراسات أخرى، ثم ينطلق بنا المؤلف عبر فصول الكتاب الأربعة إلي معاينة الظاهرة من جوانب مختلفة و ذلك ضمن سياقات مختلفة.. ففي فصله الأول على وجه التحديد يتناول إشكالية مصطلح "السينما المستقلة"، فيعترف بالصعوبة المبدئية التي تعترى من يحاول تحديد المفهوم و منها موقف صناع تلك السينما غير المعنيين -من الأساس-بالوقوف على وضع حدود وأطر للمفهوم، ويثبت هو ضرورة ذلك إجرائياً على المسار النقدي والبحثي حيث أن المصطلح يختلف بدرجة كبيرة عما يستخدم له في الغرب عموماً بما ينتجه ذلك من لبس، وعليه يثبت هو تلك الضرورة هنا عبر استعراض مواقف نقدية من الظاهرة، من تلك المواقف مواقف تستنكر وجودها مرة على أساس عدم أنتمائها لحدود المصطلح كما هو معروف في الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال، و اخرى تهاجم صناع تلك السينما بناء على تصورات مسبقة حاسمة وغير معنية بالدراسة الفعلية للظاهرة ومعرفة حدودها.. في مواجهة هذا التهريج النقدي يقدم مؤلف الكتاب سياقاً من أشكال سينمائية غربية يجمعها كونها تتقاطع مع ما يسمى لدينا بالسينما المستقلة هي؛ السينما البديلة، السينما التجريبية، سينما الفنون الجميلة، السينما الشخصية، السينما الطليعية، السينما المستقلة، السينما السرية أو سينما تحت الأرض.. ليتحرك من مناطق التماس التي تجمع تلك التيارات بما يعرف لدينا بالسينما المستقلة .. ثم يثب ليناقش جدوى طرح مفهوم الاستقلال عن نظامنا السينمائي الذي هو ذاته قائم على الاستقلال..ليعيد قراءة إجابات صناع تلك السينما من كون مفهوم الاستقلال لديهم لا يقف عند حدود المعادلة الإنتاجية فحسب، بل هو مفهوم يعكس خيارات جمالية وتقنية ومشاريع فنية مغايرة ومغامرة.. يفر المؤلف من مناقشة علاقة هذا بذاك في غنى عن سؤال من أسلئة البيضة والفرخة، فهل الشرط الإنتاجي هو ركيزة الخيار الجمالي كما كان سييذهب الرعيل القديم من النقاد الماركسيين على سبيل المثال!؟، إم على العكس المقولة الجمالية والثقافية المقترحة أو المنتخبة من قبله تستولد هي شرطها الانتاجي مثلما سيميل حتماً فيلق شكلاني أو بنيوي؟! يكفي هو نفسه مؤنه تساؤل من هذا القبيل راصداً ردود صناع هذه السينما بكونهم يميلون جمالياً لقاموس قوامه الهامشي/المختلف/المسكوت عنه/ الفردي/التحرري/كاسر التابو/ رفاض الفجاجة، والاستسهال، والاستخفاف، والتهافت، التي يعزونها إلى منتجات مؤسسة صناعة الفيلم بشكلها القائم بزعم معرفة ما يريده الجمهور.. وفي تخابث نقدي يقوم المؤلف بتأكيد صعوبة الوصول إلي تعريف جامع مانع للمصطلح مادامت الظاهرة قيد التشكل، ويبدأ في الكشف عن أوجه القصور في التعريفات الواردة في الأدبيات التي تناولت الظاهرة حتى الآن، تتجلي جوانب القصور دائماً في التركيز على جانب واحد من جوانب الظاهرة، أو نمط واحد من أنماط صناعة الفيلم فيها، ويتفادى هو السقوط فيما ينتقد به الأخرين حين يحدد السمات التي تجمع تلك الأفلام ليثبت تعريفه على أساسها وهي ما يمكن تكثيفه في التالي: "سينما ينتجها أفراد على حسابهم الخاص أو بدعم مؤسسات معنية تصور بالكاميرا الرقمية، ولا تهدف للربح، تعبر عن رؤية شخصية إبداعية لا ينال من حريتها عامل من خارج التجربة الإبداعية ذاتها، حيث المخرج مسيطر تقريباً على كافة عناصر عمله الفني، وهي سينما تؤكد على ديمقراطية الوسيط والحق الأساسي في التعبير عن الذات دون قيود، وهي سينما غالباً ما تخلخل القيود السينمائية السائدة سواء عبر التقنيات أو الموضوعات التي تتناولها" وعلى أساس هذا المفهوم يبسط هو السمات التقنية والفكرية لتلك السينما، مخرجاً من دائرة المصطلح، أفلام مشاريع التخرج من معهد السينما وبعض المؤسسات التعليمة الآخرى، وكذا الأفلام التي تنتج لحساب الجمعيات الأهلية للتعبير لأسباب دعائية أو للتعبير عن قضية معينة، وكذا أعمال الفيديو أرت.. وهذا الحسم في إخراج هذه الأعمال أعتقد أنها تحتاج لبعض المراجعة من قبل المؤلف، فهو مثلاً يورد أفلام صنعت على سبيل مشاريع تخرج من مؤسسات غير حكومية مثل ورش المراكز الثقافية الأجنبية، معتبراً أن تخرج أفلام معهد السينما يقيد من حريتها أنها تحول أن تنحاز لخيارات أستاذ المادة المشرف أو لجنة التقييم، و الأمر مردود عليه بكون كثيراً ما شاهدنا وشاهد المؤلف أفلام نجحت في التحايل على هذا الأمر، ثم إن مثل ذلك يقال على نتاجات بعض ورش المراكز الثقافية حين يتم بعضها في صيغ تسابق تجعل المبدع يضع تصوراً للمتلقى المفترض وخياراته وانحيازاته الفكرية على أقل تقدير ويحاول هو كسب رضاه لا شعورياً وما مفهوم الرقيب الذاتي من ذلك ببعيد.. يخصص الفصل الثاني بعنوان "ملاحظات حول السياق والتاريخ" في هذا الفصل يعرض المؤلف لبدايات هذا التيار بعد أن يريح بال من سيحاجي بكون السينما المصرية ولدت مستقلة فلا ينسى الإشارة لأسماء محمد بيومي وعزيزة أمير ورمسيس نجيب و أنور وجدي ويوسف شاهين ليريح باله ثم ليلج لموضوعه الحقيقي ، فيعرض رأي الشاعر الصحفي محمد خير والباحثة والمترجمة رانا حايك الذي يذهبان إلي ان البداية الحقيقة للسينما المستقلة في مصر كانت عام 1989هو فيلم (حبة سكر) لحاتم فريد الذي صنع فيلمه وعرضه في قاعة على بعض الأصدقاء والمهتمين، غير أن المؤلف يختلف مع وجه النظر تلك بسبب حدوث فترة التوقف الطويلة التي أعقبت هذاالعرض، وتجمع العوامل المهيئة التي أظهرت التيار من بعد بالشكل الذي يعرف به اليوم، و لا يعتبر (حبة سكر) سوى ارهاصة مبكرة، و من ثم يستعرض هو المؤسسات التي كان لفاعليات وورش أقامتها الفضل في ظهور هذه الموجة من بعد ويستعرض جهود كلاً منها...في هذا المقام نجد حضور لكلاً من؛ قصر السينما، سينمائيون مستقلون للانتاج والتوزيع (سمات)، (لقاء الصورة) المركز الثقافي الفرنسي، المهرجان القومي العاشر للسينما المصرية، وغياب لكلا من معهد جوته (ألماني) ومؤسسة بروهلفسيا(سويسري) وكانا يستحقا ألقاء ضوء مماثل على أثرهما في هذا السبيل في تقديرنا.. في الفصل الثالث تتجلي مقدرة الباحث ودأبه حين يعرض للكاميرا الرقمية، والتي هي قوام التجربة على المستوى التقني، فالفصل يكشف عن تتبعه المعلومة لحد قد يضجر نقاد كثيرين فيشرح هو معنى الرقمية و القيمة المضافة عبرها في عمليات صناعة الفيلم المختلفة بداية من التصوير إلي المونتاج إلي الخدع ثم الفكر في مرحلة ما بعد التصنيع والتعرف، أي التفكير الرقمي من بعد.. وهو يشير إلي تأثير التصوير الرقمي عالمياً في الخروج من أثر أحتكار المؤسسات العملاقة لصناعة الفيلم، عبر التكلفة البسيطة التي توفرها الكاميرا الرقمية، وكذا طول مدة التصوير التي تتيحها، مقارنة بخام الفيلم العادي الذي يدوم لما يقرب من ثلاث دقائق تصوير فحسب، فإذا ما أضفنا لذلك التجارب غير المكلفة تقريباً التي يستطيع المخرج الرقمي تكرارها كما يطيب له لكان ذلك بيان صناعة سينما مختلفة تماماً، لكان لدينا ثورة إعادت تشكيل تكلفة صناعة الفيلم، وغيرت طول فترات التصوير بل وزمن صناعة الفيلم، ثم يسر وبساطة ألة التصوير في الحمل والتنقل وحرية الحركة، ومن ثم ما تتيحة من حرية على مستوى العلاقة مع المكان بما فيه من بشر والتصاريح الأمنية وقدرة تلك الكاميرا على التخفي، قل مثل ذلك في العلاقة مع الممثل ذاته الذي اعتاد اساليب معينة في مواجهة كائن حديدي ضخم يترقبه.. أي أن تلك الثورة لا تقف عند حد علاقة المبدع بذاته وصلاحيته وطاقته المادية بل تتجاوز ذلك لعلاقة الطرف الآخر بالعملية الإبداعية حين يكون الممثل قادر على التواصل مع الفعل المتولد لديه دون أن يحسب أن عليه أن يقف كل ثلاثة دقائق لتغيير شريط.. يشير المؤلف من بعد إلي آفاق التجريب التي تفتحها الرقمية، وهو يتتبع تلك الامكانات التي تتيحها على المستوى الافتراضي.. في الفصل الرابع يمر المؤلف في معرض الكاميرا الرقمية فيستعرض لنا من هنا وهناك (واجهات التجربة) لصناع تلك السينما، ليكون كرنفالاً تتلاحق فيه الانفاس بين متابعة تجارب واعدة ومتفاوتة للمخرجين المنتمين لهذا التيار، ليبقى منها في الوعي، إننا في مقابل ثورة تستدعي ثورة إختراع حروف الطباعة التي مكنت كلاً منا أن يجد كتاب في بيته، بعد أن كان مقصوراً على عليه القوم، لقد اعتبر المؤرخ أن عماد ثورة عصر النهضة ثلاثة مخترعات البارود والبوصلة وماكينة الطباعة، واعتبر العصر الحديث هو نتاج تلك المخترعات، لذا فلا يعد من قبيل المبالغة اعتبار أن امتلاك الفرد العادي فرصة صناعة الفيلم ثورة، طبعاً لا يعني هذا أن كل حامل كاميرا رقمية هو مخرج بالمثل فليس حامل كل كتاب مؤلف، لكنه زحزحة لمركز صناعة الفيلم بيد صانعة الحقيقي، وتقريب الفجوة بين هذا الصانع ومن يصنعه له، ليكون مجافأة لمعنى المبدع/المفارق/النخبوي/العبقري، وتحقيقاً لأن صاحب الرسالة مرسل دائماً بلا مراء ولكن بلسان قومه.. ياسر علام كاتب وناقد مسرحي