المقدمة هذا المقال هو الفصل الأول من البحث الأكاديمي الذي تقدمت به السنة الماضية لنيل شهادة الماجستر في اللغة العربية والترجمة من المعهد العالي للمترجمين و المترجمين الفوريين ببروكسل شعبة اللغة العربية. وكانت لجنة المناقشة تتكون من السادة الأساتذة : الأستاذ محسن حنتوت مشرفا والأستاذ زكرياء قاسم وعلي قارئا داخليا والأستاذ مهدي مسلم قارئا خارجيا. وبعد المناقشة أجمعت اللجنة على منحي شهادة الماجستر بتقدير حسن جدا مع توصية بالنشر. ويتناول هذا البحث السينما المصرية عبر تاريخها في علاقتها المعقدة بالرقابة. ويكشف الخلفيات التي تحرك السلطة من أجل لجم حرية التعبير في هذا الفن الذي يجد سهولة أكبر في الوصول إلى أغلبية الناس. وقد قسمت هذا الموضوع إلى عدة محاور تاريخية كاشفة في كل مرحلة عن الدوافع التي بررت بها السلطة الرقابة. فعبر كل المراحل ورغم اختلاف التبريرات كان لجم حرية التعبير والحفاظ على مصالح وايديولوجية النظام الحاكم هو المبرر والهدف الأول والأخير الذي تحكم في عملية الرقابة. ولقد عانيت كثيرا من غياب المراجع والكتب العربية عن موضوع الرقابة على السينما المصرية. ورغم الزيارة التي قمت بها إلى مصر فإني تفاجأت كثيرا لغياب كتابات أكاديمية عربية عن هذا الموضوع في المكتبات العربية. ولكني وجدت مقالات كثيرة بالفرنسية والإنجليزية كتبها أكاديميون عرب واجانب ساعدتني كثيرا في إنجاز هذا العمل وتقديمه في صورة أكاديمية استحسنتها لجنة المناقشة. وإذا كنت أتمنى شيئا من وراء نشره فهو فتح نقاش علمي جاد من أجل توسيع هامش حرية التعبير ليس فقط في ميدان السينما فقط بل في كل الميادين. أولا : السينما المصرية قبل ثورة 1952 أ= بداية السينما لا شك في أن مصر تستحق تلقيبها "هوليود العالم العربي" حيث إنها أول بلد عربي احتضن هذا الفن الجديد في 1896 أي بعد سنة واحدة فقط على عرض أول فيلم الإخوة " لوميير" اللذين ابتكرا جهاز "السينماتوغراف". وكانت العروض السينمائية الأولى في الغرف الخلفية المتاخمة لمقاهي القاهرة والاسكندرية . إذ أنشئت دار السينما الأولى في 1906 وبعد مرور خمس سنوات على ذلك، كان هناك ما لا يقل عن ست دورسينمائية تعرض أفلاماً على الشاشة الكبيرة في القاهرة . ويذكر أن الإمبراطورية البريطانية كانت تسيطر آنذاك على مصر وبلدان عربية أخرى في منطقة الشرق الأوسط والخليج. ولذلك من غير الغريب أن معظم دور العرض كان الأجانب ينفردون بامتلاكها مما يعني أن لا أحد كان يستفيد من النجاح الاقتصادي لبداية الفن السابع المصري ما عدا المستعمرين وأقاربهم . وبناء على ذلك فمن الجلي أن الأفلام المعروضة كانت أفلاماً أجنبية، معظمها بالفرنسية أو الإيطالية، حيث إن العرب لم يشقوا بعد لأنفسهم طريقاً إلى هذه الصناعة. وتجدر الإشارة إلى أن الفن السابع لم يكن إلا وسيلة اقتصادية دون أي قيمة فنية. فالإيطاليون كانوا على وجه الخصوص من بين الذين فرضوا اتجاهاً تجارياً على السينما المصرية، لتتفانى في إنتاج أفلام تقترن بتراكم أقصى الإيرادات وتتفرغ للترفيه، على غرار المنهج الذي تميزت به صناعة هوليود. وغني عن القول إن صناعة الأفلام المصرية لم تكن إلا إحدى الصناعات والقطاعات العديدة التي كان الأجانب يديرونها. فرغم أن مصر استقلت عن الاستعمار البريطاني بشكل رسمي في 1922 ، فإن بريطانيا ظلت تتحكم في الاقتصاد والسياسة حتى أوائل الخمسينيات. فقد أعلن الدستور الذي وُضع في 19 نيسان/أبريل 1923 أن مصر دولة سيادية وحرة ومستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية. ومع أن هذا الدستور ضمن الحرية الشخصية، إلاّ أنه قيّد حرية الصحافة (بما في ذلك حرية السينما) من أجل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي . بل ويذكر أن الحكومة الملكية ادّعت قيامها بتخفيف أهمية التدخل البريطاني في الشؤون الداخلية بمنعها اشتغال الأجانب غير المصريين في مجاليْ الدولة أو الجيش إلاّ إذا تواجدت أحكام تنص على عكس ذلك في القانون. وقد هدف هذا البند الأخير إلى السماح للمسؤولين البريطانيين بالاحتفاظ بمناصبهم . ويدل هذا بجلاء على أن الدولة المصرية لم تستقلّ عن نفوذ الاحتلال إلا مظهرياً. في هذه الأوضاع، ليس من الغريب أن تكون السينما المصرية محرومة من هويتها العربية، اذ كان على المصريين أن ينتظروا بضع سنوات إضافية قبل أن يشاهدوا الأفلام المصرية الأولى. وأول هذه الأفلام كان فيلماً قصيراً اُنتج بتعاون بين ايطاليا ومصر ومدة عرضه لا تتجاوز 35 دقيقة تقريباً. غير أن هذه التجربة الأولى التي حض عليها بعض المنتجين الأجانب من أجل تحفيز اهتمام الشعب بهذا الفن الحديث لم تنجح نجاحاً يذكر، بدون شك لأن الفيلم لم تكن له أي خلفية شيقة لكونه يعرض مشاهد من الحياة اليومية المحلية عكست فهماً سطحياً وضعيفا وخاطئاً للتقاليد المصرية، ولم يكن مبنياً على هيكلة سردية حقيقية. كما أن كل الممثلين الذين تم اختيارهم كانوا من الأجانب . ويسجل أن هذه السينما الخاضعة للاحتلال البريطاني أهملت تناول أي قضية متعلقة بالاستعمار، بل بالعكس، إذ اتسمت باتجاهها المناصر للاحتلال، مما يفسر فشلها الذريع، حيث إنها لم تكن متجهة إلى الجمهور المصري على الإطلاق . لقد بدأ تاريخ السينما المصرية فعلاً في 1917 عندما صوّر المصري محمد بيومي فيلمه القصير الأول "الباشكاتب" وهذا فيلم كوميدي ساخر استقبله المصريون بترحاب . أما الفيلم الطويل الصامت الأول "ليلى" ، فقدّمته المخرجة المصرية عزيزة أمير في 1928. ويمكن القول في هذا الصدد إن عزيزة أمير كانت الأولى من بين مجموعة قليلة من الممثلات المنتجات اللواتي اسهمن في تطوير السينما المصرية الصامتة حتى بداية السينما الناطقة في الثلاثينات . ورغم كل الجهود التي بذلتها هؤلاء المنتجات، فلم تشهد السينما المصرية طفرتها البارزة إلاّ بعد وصول السينما الناطقة إلى مصر، حين صوّر يوسف وهبي فيلمه "أولاد الذوات" في 1932. وعلاوة على ذلك، في 1935 أنشئ استوديو مصر على يد طلعت حرب ، رجل الأعمال هذا الذي اهتم بتحفيز الاقتصاد المصري. وقد دُشّن هذا الاستوديو- الذي يُعتبر حجر الزاوية لصناعة الأفلام الوطنية - في 1936 كامتداد "لشركة مصر للسينما والتمثيل" التي أنشئت في 1925. وهكذا صارت مصر مجهزة باستوديوهات شبيهة باستوديوهات هوليود الأمريكية، مكّنت مجال السينما من التحول إلى القطاع الأكثر ربحية بعد قطاع النسيج . لقد نال استوديو مصر نوعاً من الاحتكار في مجال الإنتاج السينمائي خلال السنوات الثلاثين التي تلت. ويقال إن طلعت حرب كان ينوي تمصير صناعة الأفلام، فقرّر من أجل ذلك إرسال بعثة من المصريين إلى الخارج ليدرسوا على أيدي أفضل الفنانين، كما استدعى عدداً كبيراً من الفنيين الأوروبيين إلى مصر ليعملوا كمستشارين و خبراء في الاستوديو . لقد ساهم استوديو مصر بشكل غير مسبوق في تطوير ونجاح السينما المصرية في الداخل وفي الخارج حيث إنه أنتج ما لا يقل عن ثلاثة آلاف فيلم حتى الآن، مما مكّن مصر من احتلال المرتبة الثالثة في تصنيف البلدان الأكثر إنتاجية في مجال السينما خلف الولاياتالمتحدة والهند حتى مطلع السبعينيات . وبالرغم من ذلك، وكما يقول المثل، فالكمية ليست هي الجودة، إذ لم تقدم السينما المصرية خلال هذه الفترة أفلاماً متميزة على الصعيد الفني، حيث إن معظمها كانت تنتمي إلى الصنف الهزلي أو إلى الموسيقي أو إلى الميلودرامي، أي إلى هذه الأنواع السينمائية التي ضيقت الفضاء الفني ومنعت القصص الواقعية من الدخول إليه . والسبب الذي يكمن خلف ذلك هو أنه كان من المستحيل أن تعالج الأفلام أي قضية سياسية أو اجتماعية إذا كانت طواقم الأفلام ترغب في الحصول على تخويل عرضها في الخارج . ولذلك يمكننا الاستنتاج بأن السينما المصرية في بداية تاريخها لم تقدم إلا أفلاما محرومة من الجودة الفنية الحقيقية. ب= أهمية السينما المصرية في العالم العربي إحدى المواصفات التي تتميز بها السينما المصرية والتي لا شك في أنها تمثل إحدى أوراقها الرابحة أن صناعة الأفلام هذه تمكنت، مع مرور الزمان وبفضل إنتاجيتها الغزيرة، من نشر نفوذها في العالم العربي لتصبح المرجعية الفنية في مجال السينما العربية. وهكذا تمكنت مصر، إلى حد ما، من توحيد كل العرب بفرض لهجتها عليهم، أي تلك اللهجة التي تُعتبر حتى الآن العامّية الأكثر فهماً بين كل العرب . بل ويقال أيضاً إن العامية المصرية أسهمت في تعريف الهوية العربية المعاصرة بالدور الذي لعبته من خلال هذه الأفلام . وفي هذا الصدد، يقول يوسف شاهين إن "السينما المصرية، مهما كانت، تمثّل عاملاً غير مسبوق للوحدة الثقافية" . وعليه فإنه كان من الجلي أن السينما المصرية، كعامل لوحدة العرب، تعتبر خطراً محتملاً في عين المستعمرين الآخرين بمجرد استقلال صناعة الأفلام المصرية عن السيطرة البريطانية. وخير مثال على ذلك أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية في منطقة المغرب العربي أسّست مصلحة خاصة بالإشكاليات الأفريقية كانت مكلفة بإنشاء مركز إنتاج في المغرب، من أجل مواجهة تأثير السينما المصرية على المنطقة . وهنا يمكننا أن نتساءل كيف تمكنت مصر من احتلال المرتبة الأولى في مجال السينما في العالم العربي. يفيد البعض أن تطور السينما المصرية كان أكثر سرعة مما كان عليه تطور صناعات الأفلام العربية الأخرى لاسيما وأن الحياة الفنية في مصر على ما يبدو كانت تتمتع بهيجان خاص، مستفيدة من تواجد الثقافات المختلفة ومن عدم تأثير الاستعمار القوي، خلافاً لصناعات سينمائية عربية أخرى مثل الصناعتيْن المغربية أو التونسية، واللتين تأثرتا كثيراً بسمات وأذواق السينما الأوروبية، إضافة إلى أن الحكومة المصرية بدأت تهتم بالحفاظ على اللغة العربية منذ 1942 ففرضت اللغة العربية كلغة رسمية، الشيء الذي كان شبه مستحيل في مناطق أخرى خاضعة للحماية الفرنسية . وهناك من ينتقد هذا الموقف ويرى أن السينما المصرية تطورت بسرعة أكثر بفضل الاستثمارات الأجنبية وتواجد استوديوهات جديدة وبفضل إنتاجيتها الغزيرة. لكن السينما المصرية ظلت خاضعة للسيطرة الفنية الأجنبية في الفترة ما بين 1923 و1952: فرغم كون بعض المصريين نجحوا في الحصول على مناصب في صناعة الأفلام كمستثمرين أو فنيين إلى جانب الأجانب، فإنهم فشلوا في فرض معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة بمصر أو بالعالم العربي في عهد الاستعمار. وفي هذا السياق، يشير البعض إلى أن المصريين انشؤوا شركات إنتاج واستوديوهات، إلاّ أن تلك الشركات ظلت خاضعة للاتجاه السابق المناصر للاستعمار ممهداً الطريق إلى بروز سينما استعمارية جديدة توازي الاتجاه السياسي . وقد أنتجت هذه السينما الكثير من الأفلام الشعبية التي تسير في الاتجاه التجاري والتي تستوفي معايير الإبداع التي فرضتها الدولة. وهكذا احتلت المجال السينمائي أفلامٌ شعبية يستحيل أن تثير جدلاً عميقاً. ولذلك، يتعذر القول إن السينما المصرية كانت عربية بمعنى الكلمة. ولكن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء احتلال مصر للمرتبة الأولى في تصنيف البلدان العربية الأكثر تطوراً في مجال السينما حسب المؤرخين هو أن مصر- البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم العربي حتى في ذلك الحين - كانت البلد العربي الوحيد الذي كان قادراً على الترحيب بالفن السابع أولاً بفضل سياسة محمد علي التي مهّدت الطريق إلى "الحداثة" في أواخر القرن التاسع عشر وثانياً تحت ضغط بداية الاحتلال البريطاني في 1882 الذي أدى إلى إتمام دخول مصر إلى العالم التجاري والديبلوماسي والثقافي المعاصر . ت= السينما الشعبية : الموسيقيات والميلودراما مع بداية السينما الناطقة في 1932 والنجاح العظيم للمغني المصري محمد عبد الوهاب، ظهر نوع فني جديد سمح للسينما المصرية بالسيطرة فنياً على كل أنحاء العالم العربي وهو الأفلام الموسيقية ، أي ذلك الصنف الفني الذي كان يشهد آنذاك استقبالاً شعبياً مدوياً في الولاياتالمتحدة. فقد أسهمت "الموسيقيات" في انتشار نجاح السينما المصرية إلى البلدان العربية الشقيقة إلى حد كبير بما أن مصر كانت تحتل المرتبة الأولى في تصنيف البلدان الأكثر إنتاجية في مجال الموسيقى من خلال نجومها الشهيرين مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. والشريط السينمائي الموسيقي الأول الذي شهد نجاحاً مدوياً في العالم العربي هو "الوردة البيضاء" من إخراج محمد عبد الكريم. ويقال إن سبب نجاح الفيلم هو تعديل أغاني محمد عبد الوهاب (الذي يمثّل في الفيلم) إلى أغنيات تستند صيغتها إلى صيغة الأغاني الغربية بمدتها القصيرة . لكن مصر لم تكتف باقتباس صنف فني أجنبي أشاعته هوليود بل حسنته وطورته ليصبح جزء لا يتجزأ من مجال السينما المصرية. وفي الأربعينيات، مهّدت نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية قيود الصادرات الطريق للمزج بين أنواع فنية مختلفة على الشاشة الكبيرة. وهكذا بدأ الجمهور العربي يشاهد أفلاماً مصرية تختلط فيها عناصر الموسيقيات الأمريكية (ميوزيك هول) بأنواع فنية خاصة بالثقافة العربية مثل الرقص الشرقي بل وفي معظم الأفلام التي تنتمي إلى الميلودراما أو إلى الفكاهة، توجد مشاهد مفعمة بالأغنيات من أجل تخفيف التوتر وتشويق الحبكة . ورغم أنه يستحيل تجاهل الرواج غير المسبوق الذي شهدته الموسيقيات في مصر وغيرها من البلدان العربية والدور الذي لعبته في انتشار سمعة السينما المصرية في العالم العربي وغيره من مناطق العالم، فلا بد أن نذكر أن هذه السينما ما لبثت أن سقطت في أيدي رجال الأعمال الذين كانوا يبحثون عن الإيرادات الضخمة الفورية والذين منعوا بروز الفنانين الحقيقيين والسعي الإبداعي لدى المخرجين المصريين في هذا النوع السينمائي، مما دفع البعض إلى التصريح بأن هذه الأفلام ليست أعمالاًسينمائية بمعنى الكلمة. وتمثّل تلك الرداءة السبب الذي يكمن وراء انتقادات النقّاد، ورفض النخبة لمشاهدة هذه الأفلام السيئة التي عانت من الاتجاه السطحي، حيث إنها لم تقدم إلا الشخصيات النمطية ولحظات التشويق الشديد التي لم تكن إلاّ ذريعة لتوافد الشخوص إلى الملاهي من أجل إدخال رقصات وأغنيات في الفيلم دون معنى عميق أو موضوع مثير للجدل. ج= بداية الواقعية: من 1939 إلى 1952 لقد اقترن اندلاع الحرب العالمية الثانية بفرض القيود الكثيرة على مصر مما صعب عليها استيراد الأفلام الأجنبية. ولذلك، لم يكن على صناعة الأفلام الوطنية إلاّ زيادة إنتاج الأفلام المصرية. وهكذا شهدت مصر طفرة كبيرة في عدد الأفلام المصوّرة، إذ ارتفعت نسبة الإنتاج ب 300 بالمئة في الفترة ما بين 1939 و1952. ودفع نجاح السينما المصرية الكثير من النجوم المصريين (ومن بينهم أمينة رزق وفريد الأطرش) إلى إنشاء شركاتهم للإنتاج. فتضاعف عدد الشركات بعد الحرب. وبينما كانت مصر أثناء الحرب محرومة من صادراتها إلى المملكة المتحدة ومن الواردات منها، شهد البلد تقدماً اقتصادياً غير مسبوق قاد إلى ظهور بورجوازية ثرية في المدن جراء ازدهار عدة قطاعات من بينها قطاع الغزل والنسيج، في حين ظل الفلاحون والعمّال في القرى والريف على فقرهم الذي صار يزداد يوماً بعد يوم. ومع ذلك، أدت هذه الطفرة الاقتصادية إلى تطوير المدن (لاسيما القاهرة والاسكندرية اللتان تضاعف عدد سكانهما في ظرف عشر سنوات فقط) وارتفاع عدد العمّال في المعامل إضافة إلى ارتفاع عدد الموظفين . وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن هؤلاء الناس المقيمين في المدن هم الذين ساهموا في تطوير وازدهار صناعة الأفلام في تلك الأثناء، بكونهم أغلبية المشاهدين الذين كانوا يتوافدون إلى دور العرض السينمائية. ولقد كان الشباب والطلاّب على وجه الخصوص، يستخدمون السينما كوسيلتهم الأساسية للتسلية والترفيه من أجل نسيان خيبة أملهم. وفي تلك الظروف الصعبة من تاريخ مصر، ظهرت الفضاءات الكثيرة التي رحبت بالطلاّب والمثقفين الذين كانوا، خلافاً للأجيال السابقة، يسعون إلى تبادل الأفكار وإلى النقاش حول المشاكل التي كان البلد يعاني منها وحول الأفكار القومية التي كانت محظورة وممنوعة . بموازاة هذا، بدأ مخرجون جريؤون يتخلون عن التوجيه الترفيهي البحت، ليلتفتوا إلى شوارع القاهرة. وهكذا أنتج استوديو مصر فيلم "لاشين" في 1938 من إخراج الفني الألماني "فريتز كرامب". وهذا الفيلم، الذي أشاد به النقّاد لجودته الفنية، يدور موضوعه حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في عهد الملك فاروق استناداً إلى قصة تدور أحداثها في القرن الثاني عشر. وحيث إنه يعالج - ولو بشكل غير مباشر- العلاقة ببن السلطة والشعب مُنع منعاً باتاً. وفي السنة التي تلت، صوّر كمال سليم "العزيمة" في 1939، الذي يُعد أول فيلم واقعي. وبه يصبح كمال سليم أول مخرج مصري يشارك شواغله السياسية ويستشرف القضايا التي يعاني منها المجتمع المصري دون إدخال أي رقص أو أغنية. لقد استقبل الجمهور هذا الفيلم استقبالاً احتفالياً فور ظهوره، لأنه يستمد قصته من الحياة اليومية للبورجوازية الصغيرة والمتوسطة، أي الجمهور الرئيسي للأفلام المصرية (خلافاً للنخبة التي تفضل مشاهدة الأفلام الأجنبية) . ومن الجدير بالذكر أن هذا الفيلم شجع المخرجين المصريين على الابتعاد عن الموسيقيات التي كانت تُعد قبل ذلك النوع الوحيد القابل للنجاح . ومع ذلك، فإن فيلم "السوق السوداء" الذي صُوّر في 1945 وأنتجه استوديو مصر هو الذي يعتبر الفيلم الأكثر جدلاً في تلك الاثناء، حيث إنه يعالج قضية انتهازيي الحرب الذين بنوا ثراءهم على الإتجار غير الشرعي. ولكنه فشل فشلاً مدوياً بعد أن مُنع من العرض. وفي 1947 شدّدت السلطات اختصاصات وصلاحيات الرقابة ومنعت كل الأفلام التي تدور حول الفقر والدعوات إلى الثورة أو الشغب والتشكيك في التقاليد الأبوية . ويذكر أن جهاز الرقابة أنشأه القصر الملكي والسفارة البريطانية في 1914 واسندا إدارته إلى وزارة الداخلية بعدها حيث إن الرقابة لم تستهدف حماية القيم والأخلاق فقط بل اعتبرتها الدولة ضرورة وحاجة ماسة لكل ما يتعلق بحماية الوطن والشؤون الداخلية . واسهمت الرقابة (إلى جوار المستثمرين الأجانب) في إنتاج أفلام مبتذلة، حائلة دون إنتاج الأفلام المعادية للاستعمار والأجانب والدولة والمؤسسات الدينية، بل ومنعت منعاً مطلقاً تمثيل وتصوير وقائع النزاع والمواجهة ما بين الفلاحين والإقطاعيين الذين ساندتهم الدولة، إضافة إلى حظرها تناول السياسة الوطنية أو تقديم صورة مؤيدة للأفكار القومية أو الاشتراكية سواءً تعلق الأمر بالماضي أو الحاضر. ولهذا كان من الجلي أن عرض "لاشين" كان معرّضاً للمنع من طرف الوزارة، حتى ولو كانت أحداثه تجري في القرن الثاني عشر، حيث إنه ينتقد النظام الملكي السابق، إذ يتبين أن هناك تشابهاً واضحاً بين كلا النظامين. وهكذا عرقل رقباء الحكومة، طواعية وبناء على إدراكهم للخطر الذي تمثله القضايا السياسية، تطوير سينما مصرية مستقلة . وعليه فإنه ليس من الغريب أن المستثمرين والمنتجين دعموا اتجاه الأفلام الشعبية التي تتمحور قصصها حول الحياة اليومية حيث إن هذه الأفلام لم تتعرض لمجازفة المصادرة، أي خطر احتمال خسائر مادية طائلة. ح= التغريب والبورجوازية والسينما مثلما حدث في كل البلدان التي خضعت للاستعمار، تأثرت مصر وتقاليدها بشكل غير مسبوق بالاحتكاك مع ثقافة المستعمرين. فخلال السنوات التي سبقت الاستقلال، يبدو أن نقاشاً ساخناً جرى حول الثقافة والأخلاق التي كان يتعين عليها أن تسود في المجتمع المصري. فبينما كان مثقفو جامعة الأزهر يعترضون بشدة على تغلّب العادات الأجنبية وأفكار التغريب، كان المصري الافندي في المدن ينبهر بملابس وتقاليد الأوروبيين . فبعد استقلال مصر عن الاحتلال البريطاني في 1922، بدأ العرب يدخلون شيئا فشيئا إلى صناعة الأفلام. ولكنه يجدر القول إن السينما تم تقديمها في بداية صناعة الأفلام إلى الطبقة الراقية في المجتمع. وهكذا أصبحت آلة بورجوازية شرعت في الصعود في مدن البلد. وقد برز ذلك التوجّه في العقدين الأوليْن من القرن العشرين واستمر حتى ثورة 1952 وعهد جمال عبد الناصر . لقد لعبت السينما ومن خلالها البورجوازية دوراً ملموساً في هذا الصدد حيث إنها أسهمت في انتشار أفكار تغريب التقاليد والملابس في مصر. إذ بدأت بورجوازية القاهرة تتبنى بعض التقاليد والعادات التي قد عرضتها الأفلام في دور السينما المصرية مما يدفع البعض إلى القول إن السينما شكلت إلى حد ما بعض المواصفات التي تطبع بورجوازية المدن المصرية. ويفيد أن أعضاء هذه البورجوازية ساهموا في تشديد الاتجاه التجاري الذي اتسمت به السينما المصرية فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، وذلك بكونهم مستثمرين جدد اكتسبوا قوة اقتصادية هامة نتيجة الخدمات التي قدموها إلى الحلفاء. ومن جهة أخرى، هناك مفارقة في تصرف وسلوك البورجوازية. فرغم أنها كانت ساخطة على السيطرة البريطانية وتبعية الشعب المصري، إلا أنها كانت تحسد نمط حياة المجتمع الغربي وتقدمه التقني وقوته، مما يشرح تغلّب الاتجاه الذي كانت تسير فيه قبل وصول الضبّاط الأحرار إلى الحكم. فقد كانت أمام البورجوازية إمكانيتان: إما الاستيعاب الثقافي وإما الثورة. وقد اختارت بورجوازية المدن أن تستوعب ثقافياً بتبني تقاليد وعادات الأوروبيين، قبل أن تلتفت إلى الثورة، مؤملة في أن يساعدها ذلك الاتجاه على التغلب على الاستعمار ومركب النقص لديها . ويبدو أن هذه الرغبة في الاستيعاب انعكست بشكل واضح في الأفلام، حيث إن صناعة السينما تقدمت إلى الجمهور بقصص شخصياتها من البورجوازية الراقية، وكانت تضع الأوروبيين ونمط حياتهم نموذجا ومحل إعجاب، عبر الموسيقى والملابس على سبيل المثال، رغم أنها حاولت قدر الإمكان احترام الدين الإسلامي. لكن هذه السينما المفعمة بالألوان الغربية كانت تزدري وتحتقر ثقافة العرب بالتأكيد، ولو بشكل غير مباشر. لقد بلغ تيار التغريب كل الأنواع الفنية، من السينما إلى الرقص. وفي السينما، انعكس التغريب خصوصاً في اختيار المنتجين لكتّاب السيناريوهات. إذ بدلاً من دعوة الكتّاب المصريين لكتابة القصص أو نقل الأدب العربي إلى الشاشة، قرّر المنتجون الاكتفاء بالاقتباس، أي تلك الطريقة التي توازي سرقة أدبية أو فكرية في بعض الأحيان مما دفع البعض إلى الاستنتاج بأن المستثمرين الذين ساروا في الاتجاه التجاري لعبوا ورقة المضمون بالتقدم بقصص شهدت نجاحاً احتفالياً في الخارج. غير أنهم عرقلوا انتشار المصادر الفنية المحلية واستقلال السينما المصرية عن النفوذ الغربي. ومن إحدى الاستثناءات القليلة تصوير محمد كريم لقصة "زينب" للكاتب المصري محمد حسين هيكل. والواقع أن المنتجين المصريين بدأوا يلتفتون إلى الأدب العربي أو إلى كتّاب السيناريو العرب المشهورين فقط بعد اندلاع ثورة 1952 وتولي الضبّاط الأحرار للحكم. ثانيا : ثورة 1952 و إسقاط النظام الملكي أ= حكم الضبّاط الأحرار وتغيرات السينما لقد لعبت ثورة 1952 وحركة الضبّاط الأحرار دوراً ملموساً في استقلال السينما المصرية عن الاتجاه الذي كان سائداً في العقود المنصرمة بدعمها إيجاد وتمثيل الهوية الحقيقية للسينما المصرية. وعلى غرار الحركات القومية التي انبثقت في دول أخرى من العالم الثالث، تبلورت ايديولوجيات ثورة 1952 في معاداة الاستعمار. وهذه الحركة التي قادها بعض القوميين المتحدرين من البورجوازية كانت عازمة على الحصول على استقلال مصرالفعلي في كل مجال وعلى التحديث السريع للاقتصاد والتوزيع المنصف للثروة. فعندما تولى جمال عبد الناصر الحكم في 1956، اتضحت رغبته في الابتعاد عما فرضه الاستعمار والتغريب علاوة على رغبته في توطيد وترسيخ الثقافة العربية والقومية في كل مجال الحياة . ويشير المحللون إلى أن معاداة الاستعمار والتغريب والإلحاد هي الطابع الذي تميز به نظام جمال عبد الناصر من حيث اعتقاده أن الاتجاه الصحيح الذي يسمح لمصر بإعادة اكتشاف تراثها وهويتها هو تمجيد الدين الإسلامي والقومية والتقاليد العربية. وبخصوص الحياة الفنية المصرية، فالرئيس الجديد لم يغيرها جذرياً ولكنه مهّد الطريق إلى اتجاه حديث في السينما المصرية، أي ذلك الاتجاه الذي تمكنت به مصر من الابتعاد قليلاً عن الأفلام التجارية البحتة، ومن التقدم إلى الجمهور بقصص بارعة انصبت على القضايا الاجتماعية التي يعاني منها الشعب. وهذه الأفلام التي ساندت ايديولوجيات معادية للاستعمار قدّمت قصصاً مفعمة بالانتقادات الموجهة ضد المستعمرين، وهكذا لعبت دوراً كبيراً كعامل مؤيّد للوحدة العربية وللقومية . ولقد استعانت حركة الضبّاط بالسينما بطريقة أو بأخرى لنشر أفكار القومية حيث إنها ادعت أن السينما قد "حوّلت المصريين إلى مواطنين حقيقيين بكونها تقدّمت بتأويل خاص للواقع". وفي هذا السياق المتصل بالسينما، يذكر أن العملية الأهم التي قام بها النظام القومي هي، بدون شك، تأميم صناعة الأفلام في 1960 إضافة إلى سيطرته المطلقة على كافة فروع هذه الصناعة التي كانت خاضعة للأجانب سابقاً. ومع ذلك، تأميم صناعة الأفلام قد سمحت للعديد من منتجي ومخرجي الأفلام بتحرير أنفسهم من نفوذ التيّار التجاري ومن رؤوس أموال المقاولين. وتجدر الإشارة، من جهة أخرى، إلى أن نظام عبد الناصر اتسم بتناقض جوهري: إذ رغم دعمه تصوير الأفلام التاريخية والسياسية، فإنه باشر ضغطاً على المخرجين من أجل تجنب إنتاج أفلام تنتقد النظام الذي جاء بعد الملكية. وهكذا كانت كل الانتقادات السياسية أو التاريخية مقبولة، ما عدا الانتقادات الموجّهة ضد نظام الرئيس جمال عبد الناصر. وبينما اعتقد الفنانون أن رياح الحرية كانت تهبّ على مصر، تبين أن حركة الضبّاط اكتفت بحلول محل الاستعمار والملكية . ويمكن القول إن طبيعة الرقابة تغيرت تماماً ما بين عهد الملك فاروق ونظام الضبّاط: إذ كان من شأن جهاز الرقابة، الذي سانده البريطانيون والملك، الاعتراض على كل الأفلام المثيرة للجدل، ومنع انتقاد الاحتلال والدولة، بينما لم يستهدف نظام جمال عبد الناصر فرض الحظر على أي فيلم ما عدا تلك الأفلام التي مثلت خطراً وتهديداً لاستقرار حكم الضباط . وبهذا تمكنت الدولة من توصيل أفكارها وتقوية حكمها الاشتراكي بعد أن حوّلت الرقابة من جهاز خاضع للاحتلال والتغريب إلى جهاز محافظ خاضع للاشتراكية والقومية. وبالتالي فليس من الغريب أن تكون طبيعة ممارسة الرقابة على السينما قد تغيّرت تبعاً لتوجهها، باعتبار أن الرقباء (الجدد) طاردوا الأفلام الأجنبية وعلى وجه الخصوص تلك التي تعالج قضايا سياسية معيّنة، في حين كانت السلطات السابقة تدعم وتشجع عرض الأفلام الأجنبية على الجمهور المصري. وهذا يدلّ على رغبة جمال عبد الناصر في تقليل تأثير الغرب على الأمم العربية، وفي فرض سيطرته على صناعة الأفلام. لقد اسهمت الحركة القومية المصرية بإصلاحاتها الكثيرة في توهج السينما المصرية وتقوية هويتها العربية حيث تأسس خلال عهد جمال عبد الناصر مجلس أعلى لحماية الفنون والآداب. وفي 1957 أنشأت وزارة الإرشاد الوطني والثقافي منظمة لدعم صناعة السينما من أجل تحسين الجودة الفنية والتقنية للسينما وتصدير الأفلام المصرية إلى الخارج بصرف النظر عن العالم العربي. ورغبة في تقوية السينما على الصعيد الدولي، ساند جمال عبد الناصر تنظيم مهرجانات سنوية لمكافأة المخرجين والمنتجين وغيرهم من الفنانين الأكثر موهبة. إلى جانب هذا، فرضت السلطة ضرائب على الأفلام الأجنبية من أجل جمع أموال كافية للسماح بتصوير الأفلام الوطنية وبتشديد شبكة التوزيع وبالتزويد بالتقنيات الأكثر حداثة. وهكذا تكوّنت في مصر نزعة حماية المنتوج المحلي، مما نتج عنه ارتفاع نسبة إنتاج الأفلام المصرية وانخفاض عدد الأفلام الأجنبية المستوردة . وفي نفس السياق، لعبت حكومة عبد الناصر دوراً رئيسياً في التربية السينمائية أيضاً حيث إنها أسّست في 1959 المجلس الأعلى للسينما الذي كان من شأنه أن يشجّع على خلق جيل جديد من صناّع الأفلام والفنيين. كما أن القطاع العام للسينما والذي كان يسيطر عليه الحكم منذ تأميم صناعة الأفلام أخذ من جانبه ينظّم أوراش عمل لتدريب الكتّاب المصريين، ويمنح الممثلين والمخرجين فرصة لدراسة السينما في الخارج . ولا شك في أن ثورة 1952 أسهمت في تغيير الأوضاع في مصر بعد قرون من الاستعمار العثماني والبريطاني. ولكن البعض يؤكد على أنها تحمل في طياتها خللاً كبيراً وهو أن هذه الثورة لم يقدها الشعب بل نخبة كانت تعمل لفائدة الشعب. ورغم أن هناك من بين أهداف الثورة، كما أسلفنا القول، رغبة الضبّاط الأحرار في التوزيع العادل للثروة، ونقل الحكم من الطبقة الأعلى إلى الطبقة الوسطى، غير أنه لم يسفر عن الثورة أي تغيير جذري في هيكلة المجتمع أو السياسة. وهذا ما دفع الناقد السينمائي المصري " قصي سمك" إلى القول إن "القطاع العام للسينما لم يُنشأ استجابة إلى رغبة الشعب المشتركة في تغيير الثقافة الشائعة وتغيير حالة الفن والصناعة على الإطلاق" بل بالعكس، لم يمثّل القطاع العام إلا استمرار عملية الدولة لإعادة تشكيل القطاعات الوطنية لتستوفي معايير "القومية العربية". والواقع أن القطاع الخاص ظل يتحكم في القطاع العام في مجال السينما. وفي حين كان الكثير من المنتجين والمخرجين يشقون لأنفسهم طريقاً إلى النجاح في السينما بفضل علاقاتهم، كان المصريون الحريصون على إنشاء سينما مختلفة وواقعية يكافحون لتصوير وإنتاج أفلامهم . ورغم كل ذلك، لعبت الثورة والحركة القومية والقطاع العام دوراً كبيراً في بروز سينما جديدة في مصر. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن القطاع العام قدم مساندة كبيرة لجيل جديد من صنّاع الأفلام أي أولئك الذين لم يحصلوا من قبل على فرص إثبات مهاراتهم ومواهبهم خلال عهد الاحتلال البريطاني والاتجاه التجاري. وقد تم تدريب صنّاع الأفلام هؤلاء في القطاع العام، حيث عبّروا عن أفكارهم، لاسيما في المؤسسة العامة للسينما التي نتجت عن تكامل منظمة السينما ومنظمتي الإذاعة والتلفزة المصريتيْن، والتي كان عليها أن تتكلف بإنتاج وتوزيع الأفلام المصرية وتحسين المستوى الفني والتقني للاستوديوهات العامة، إضافة إلى شرائها الاستوديوهات الخاصة . وقد نتج عن ذلك تصوير أفضل الأفلام في الخمسينيات والستينيات، أي سنوات "العصر الذهبي للسينما المصرية". كما يجدر القول ثانياً إن السينما ومواضيع قصص الأفلام تأثرت بالثورة وأيديولوجياتها. ويكفي بهذا الصدد أن نتأمل أفلام أحمد بدر الخان أي هذه شخصية التي أرادت بطريقة أو بأخرى تمهيد الطريق إلى سينما تنتقد وتندّد بانحرافات المجتمع والسياسة. وهكذا حاول الجيل الجديد من صنّاع الأفلام عبر أفلامهم التنبيه إلى واقع القضية الفلسطينية واستنكار ظلم النظام السابق وصولاً إلى العدوان الثلاثي، وتداعيات كل هذه القضايا الساخنة على العالم العربي بشكل عام وعلى المجتمع المصري بشكل خاص. إلى جانب الأفلام التي انتقدت الظروف السياسية والاجتماعية، هناك الأفلام التي أشادت بالثورة وضبّاطها. وخير مثال على ذلك فيلم "ألله معنا" الذي أخرجه أحمد بدر خان في 1954. كما تم في تلك المرحلة إخراج أفلام كثيرة ذات توجه قومي واضح استهدفت انتقاد الاحتلال . لقد تميّزت هذه الأفلام برسالتها الخاصة التي أصرت على أنه من الضروري أن يقرّر الشعب المصري مصيره بنفسه، إضافة إلى أن حكومة الثورة ساندت تصوير الأفلام التاريخية والدينية من أجل ترسيخ أهمية الهوية العربية والإسلامية للسينما المصرية. كما هدفت هذه الأفلام أيضاً إلى الإشارة إلى مجد العرب وجيوشهم من خلال معاركهم وانتصاراتهم على الأوروبيين خلال الحروب الصليبية، وإلى تحطيم خرافة تفوق الغرب. ب= الضباط الأحرار و الواقعية في السينما في نفس الوقت، شجعت الثورة صنّاع الأفلام على تجاوز أساليب السينما التقليدية. وبذلك مهّدت الثورة الطريق إلى ازدهار الواقعية التي اتسمت بها أفلام رائدها الفنان كمال سليم. لقد أججت الأحداث الساخنة التي مرت بها البلاد (ومن بينها فساد الاحتلال وتواطؤ النظام والثورة) بروز هذا التيار الذي تميز به العصر الذهبي للسينما المصرية من الأربعينات إلى الستينات. وفي الخمسينات ثم الستينات خصوصاً، بدأ النقّاد يشيدون إشادة كبيرة بالأفلام الواقعية، مما ساهم في أهمية هذا التيّار الجديد وفي نجاحه. ولقد قدم المخرج الشهير يوسف شاهين الكثير من الأفلام المستوحاة من تاريخ مصر وثورة 1952. ولا أدلّ على ذلك من إخراج فيلم "صلاح الدين" في 1963 والذي يُعد نوعاً من حكاية رمزية تكرّم الرئيس جمال عبد الناصر حيث إن يوسف شاهين يقدّم صلاح الدين وهو قائد رحيم ومتسامح . لقد عكس هذا النهج الجديد رغبة الفنانين في معالجة الصعوبات التي كان الشعب المصري يعاني منها. وانبثقت الواقعية في المقام الأول في الأدب حيث إن بعض الكتّاب، ومن بينهم توفيق الحكيم وطه حسين، قدمّوا في الثلاثينيات حكايات تتمحور حول معاناة المجتمع المصري. كما ساهم نجيب محفوظ في هذا النهج الجديد بعد مرور عهد على ذلك، أي ابتداء من الأربعينيات، وذلك برواياته التي تعبر عن مشاكل المصريين اليومية. وقد مرت السينما بمرحلة شبيهة بعد 1952. وعلى حد قول الخبراء المختصين في السينما، فإن السينما المصرية التي أعقبت الثورة تأثرت، مثل معظم الأفلام التي صُورت في العالم الثالث، باتجاه الواقعية الجديدة للسينما الإيطالية، وهو اتجاه مال إلى إنتاج أفلام أكثر صراحة مقارنة بالأفلام الأخرى التي صُورت في استوديوهات، وذلك بتصوير المشاهد في أماكن حقيقية. ومع أن هذه السينما الواقعية لم تحل محل السينما الشعبية كلياً، فإنها قلصت مكانة الرقصات والأغنيات في الموسيقيات والميلودراما. أما بعد الثورة، فقد عمل الكثير من الكتّاب المصريين على كتابة السيناريوهات، كما تم اقتباس روايات مصرية كثيرة لتقديمها إلى الجمهور على الشاشة. وسبب هذه الظاهرة هو أن ندرة مؤلفي السناريوهات المتدربين جعلت السينما المصرية تلتفت مبكّراً إلى الأدباء لتصوير رواياتهم، مما أدى إلى ظهور "الروايات المصّورة" أي إلى نوع من تيارسينمائي منع صنّاع الأفلام من البحث عن لغة سينمائية خاصة ومعينة .فما بين 1930 و1993، كانت معظم الأفلام التي اُنتجت، عبارة عن تعديلات لروايات الأدب المصري . ومع ذلك، فهذا النهج يدلّ على رغبة مصر في فتح الباب على سينما تفضل استغلال موهبة المصريين على مهارات الأجانب، من أجل ترسيخ الهوية العربية للسينما المصرية. وكخلاصة، يمكننا أن نؤكد أن ثورة 1952 وحكم جمال عبد الناصر اسهما في إنشاء صناعة أفلام وطنية مبنية على الهوية الخاصة بمصر. فالأفلام التي اُنتجت بعد الثورة، أظهرت رغبة مصر وساستها في التشديد على أهمية البلد والعالم العربي والثقافة العربية مشيرة إلى أن الوطن هو جوهر التجديد . ففي عهد الضبّاط الأحرار، فرضت الايديولوجيات القومية والمعادية للاحتلال تسلطها على صناعة الأفلام، كما شجع عبد الناصر تطوير سينما عربية تقاوم التغريب والتبعية. وكما اسلفنا القول، لم تثر الثورة تغييراً جذرياً في مجال السينما، لكنها جعلت الحياة الثقافية أكثر أهمية، فأصبحت السينما الوسيلة الأساسية لرعاية وترويج الأفكار القومية الجديدة. ولهذا أصبحت صناعة الأفلام جزء هاماً من المراحل الأولى لبناء الوطن. وفي عهد عبد الناصر، وخلافاً للوضع السابق، وجدت السينما طريقها إلى كل الطبقات الممثلة في المجتمع . وهكذا مهّدت الثورة الطريق إلى السينما المصرية الجديدة بعد سنوات من الرقابة الملكية والاستعمارية. وقد سعت هذه السينما التي استوحى المخرجون قصصها من الأدب الوطني، إلى اكتشاف جوهر الهوية المصرية، ولم تتردد في معالجة القضايا الشائكة ومن بينها المواضيع السياسية والاجتماعية. ت= السبعينات وإصلاحات أنور السادات بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 1970، تولى الرئيس أنور السادات الحكم وإجراءاته - التي اُطلق عليها اسم "سياسة الانفتاح" - فوضعت حداً للقطاع العام ورغبته في تعزيز جودة السينما المصرية. لقد قرّر السادات، فور وصوله إلى رئاسة الجمهورية المصرية، تصفية المؤسسة العامة للسينما وخصخصة القطاع العام في 1970 وألغى بذلك كل الخطوات المتقدمة التي أدت إليها سياسات جمال عبد الناصر . ومن الجلي أن هذا التغيير أثّر سلباً على الفنانين الذين كانوا قد تمكنوا من تقديم أعمال بالغة الجودة في عهد لم يكونوا فيه مرهونين بمتطلبات أصحاب رؤوس الأموال، من الأجانب أو من المصريين أنفسهم. وهكذا اتجهت السينما، التي شهدت عصرها الذهبي في عهد الرئيس السابق، ونفوذ القطاع العام نحو الأفول . فقد اتسم عهد السادات بصعود طبقة النخبة التي يشكّلها المقاولون المصريون الذين يفتقرون إلى الحاسة الفنية والثقافية، مساهمين في انحطاط السينما المصرية وتدهور جودتها، رغم كل الجهود التي بذلها بعض المخرجين الحريصين على حماية خصائص ثقافة مصر السينمائية، كما أسهموا إسهاماً لم يسبق له مثيل في ازدهار الاتجاه التجاري الجديد. فقد استثمر العديد من رجال الأعمال الأجانب والمصريين هؤلاء في صناعة الأفلام خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وساهمت هذه الاستثمارات في بناء مجمعات دور العرض، دون أن تساعد صنّاع الأفلام على إنتاج أفلامهم، حيث إن هذه المجمعات السينمائية تفضل عرض أفلام أجنبية بشكل عام وأمريكية بشكل خاص، وأحياناً الأفلام المصرية الخاضعة للاتجاه التجاري . غير أن هذا الاتجاه التجاري قد سمح لصناعة الأفلام المصرية بزيادة عدد الأفلام المنتجة في الوقت الذي كانت فيه مبيعات التذاكر وإنتاج الأفلام آخذاً في الانخفاض بشكل ملموس. غير أن معظم المخرجين المصريين الذين ابتعدوا عن الاتجاه التجاري والذين فضلوا إنتاج أفلام تعالج انحرافات المجتمع المصري لم يستطيعوا إنتاج أفلامهم برؤوس أموال مصرية فقط بل التفتوا إلى المستثمرين الأجانب مثل القناة الفرنسية الألمانية arte . ج= السينما والرقابة في أوائل عهد مبارك: الثمانينات بعد اغتيال أنور السادات في 1981، تولى الحكم الرئيس محمد حسني مبارك الذي لم يتميز عهده بمواصفات سينمائية، بل بالتغيرات الاجتماعية الكبرى التي شهدها. إذ لم يعد التطرف الديني يشكل ظاهرة منفصلة بل بدأ ينشر نفوذه بوضوح في المجتمع. كما أن الأفراد من جانبهم، بدأوا يلعبون دوراً غير مسبوق في مجال السينما، باعتبار أن مبارك نجح في تحويل الرقابة على الأعمال السينمائية إلى ما يشبه لعبة وطنية، حيث ساهم المجتمع والمؤسسات الدينية والمعارضة الإسلامية، إلى جانب الرقباء، في البت في ما إذا كان عرض فيلم ما ملائماً أم لا. وفي هذا الإطار، من الواضح أن هناك تناقضاً حقيقياً في سياسة حكومة مبارك، حيث إن نظامه كان يعتبر المعارضة الإسلامية المتطرفة عدوه اللدود ! إلا أنه حاول قدر الإمكان تبرير قرار منع فيلم ما بذريعة الحفاظ على أخلاق الشعب وقيم الدين. وقد استعان بالأخلاق والدين ليجعل منع نشر وتوزيع الكتب والأفلام التي لم تكن خاضعة لمعايير السلطة أمراً شرعياً، كما لم تتردد الحكومة أحياناً في تنظيم اضطهاد الفنانين . هذه الذريعة الدينية أو الأخلاقية سمحت للحكم فعلاً بالانتصار على الأفلام أو الكتب التي كانت تعتزم تشويه سمعته على الصعيد الدولي. وهذا هو السبب الذي يقف خلف رغبة السلطة في اعطاء الأهمية لتوصيات "مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر"، هذه المؤسسة الخاضعة للحكم والتي أسهمت في منع الكثير من الكتب والأفلام التي كانت تعالج قضايا شائكة. وفي هذا الصدد، من الجدير بالإشارة إلى أن السلطات المصرية شجعت على عودة حق "الحسبة" في بلد ما زال مصدر تشريعه الشريعة الإسلامية. والحسبة وسيلة اُستعملت في العصور الوسطى وتسمح لأي شخص يعتبر أن فيلماً أو كتاباً ما جرح إيمانه، برفع دعوى قضائية ضد الكاتب أو المخرج ! ورغم أن القانون عُدّل في التسعينات، غير أن عدداً كبيراً من المتطرفين تمكنوا بالحسبة من منع عدد لا يستهان به من الكتب والأفلام. وهكذا ظهر جهاز الرقابة الجديد المشكّل من السلطة والمؤسسات الدينية والشعب ليفرض نفسه على كل عمل فني يتمحور حول السياسة أو الدين أو الجنس، مما صار عبئاً أثقل على كاهل الفنانين، ومما لا يزال يعرقل الحياة الثقافية المصرية حتى الآن. وقد أدت الاستعانة بالحساسية الدينية لتبرير القمع السياسي في بعض الأحيان إلى وقوع جرائم دموية. وخير مثال على ذلك، محاولة اغتيال نجيب محفوظ بالسلاح الأبيض والتي قام بها المتطرفون بعدما أصدر روايته "أولاد حارتنا" التي منعتها الرقابة المصرية . غير أن محاولة الاغتيال التي نجا منها الرئيس مبارك في 1995 في أثيوبيا، شكّلت منعطفاً هاماً في مواقفه، حيث جعلته يتبنى سياسة أكثر قسوة تجاه الجماعات المتطرفة وانعكس هذا الميل الجديد على قواعد الرقابة أيضاً، إذ حاول نظام مبارك تبني سياسات مبنية على التسامح لمواجهة تعسف الجماعات الإسلامية التي كانت أفكارها تنتشر في المجتمع، وذلك بتمكين المخرجين من حرية أكثر في أعمالهم، مع أن الرقابة ظلت ترصد أعمالهم بتمحيص. ح= الجنس والدين والسياسة: الثالوث الجديد لا شك في أن الجنس والدين والسياسة تمثّل القضايا الأكثر سخونة في المجتمعات المحافظة وحتى المخرجون المصريون الأكثر جرأة والذين حاولوا معالجتها، تسلحوا بالحذر الضروري في تناولها. ومع أن الرئيس مبارك حاول في التسعينات تخفيف قيود الرقابة من أجل تسهيل إخراج الأفلام التي كانت تحارب أفكار التطرف لتعزيز انتشار الأفكار المتفتحة، إلاّ أن الفنانين، لم يستطيعوا الإفلات من رقابة الناس، زيادة على الرقابة الرسمية الرئيسية. ورغم أن الحكومة دعمت إنتاج عدة أفلام تعارض القيم التي يدافع عنها المتطرفون، والتي يعتبر البعض أنها منغلقة، فإن الفنانين ظلوا خاضعين للضغوط التي يمارسها الشعب. فالجنس والدين والسياسة تُعد من أكبر المحرّمات في المجتمعات العربية، لا سيما منذ نهاية حرب الخليج حيث إن الأفلام الأجنبية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص بدأت تغزو العالم العربي. وتكمن المشكلة في كون هذه الأفلام توصّل رسالات وقيم لا تتناسب بشكل كامل مع الثقافة والأخلاق العربية، مما قد يؤدي إلى أزمات الهوية. ولكن غزو هذه القيم لا يعني أنها غيّرت جوهر المجتمعات العربية: ففي حين اعتقد البعض أنه يجب عليهم أن يتخلّوا عن تقاليد يقال إنها متخلفة وأن يلتفتوا إلى الرموز الخارجية مثل الملابس أو تسريحة الشعر ليبرهنوا على تحررهم، فالمواطنون المتدينون أصبحوا، من جانبهم، حريصين على مكافحة التغريب وعلى إظهار حفاظهم على الهوية العربية الإسلامية. وهكذا انتشر التطرف الديني حسب عاطف حتاتة حيث إنه من لم يجد جواباً في الرموز الخارجية ما كان عليه إلا أن يهتم باسترجاع ثقافته ودينه . من جهة أخرى، هناك بعض الأفلام التي عالجت قضية الدين والإرهاب مثل فيلم "الإرهاب والكباب" الذي استقبله الجمهور استقبالاً احتفالياً. غير أن هذه الأفلام تندرج في النوع الشعبي ولا تعالج جوهر قضية الإرهاب وتداعياته على المجتمع المصري، كما لا تتناول القضايا الساخنة مثل ختان الإناث أو زنا المحارم أو المثلية الجنسية، لأن الجمهور العربي الذي يمثّله الرجال بقدر 70 بالمئة ليس جاهزاً بدون شك لمشاهدة أفلام تنصب على قضايا مثل هذه الاشكاليات الشائكة . وفي ظل صعود الاتجاه المتطرف في المجتمعات العربية، يمكننا أن نتساءل ما اذا كان الجمهور العربي سيكون في يوم من الأيام جاهزاً لمشاهدة أفلام كهذه. وكما سنكتشف بتفصيل أكثر فيما يلي، يبدو أن المجتمعات العربية، خلافاً للمجتمعات الأخرى في الغرب أو الشرق، تتجه مع مرور الزمان نحو اتجاه أكثر انغلاقاً في مجالات عديدة، من التقاليد إلى الأخلاق وصولا إلى العادات. وقد انعكس هذا الاتجاه في الأفلام. فعلى سبيل المثال، يذكر أن السينما السورية هي السينما الأولى في العالم العربي التي صوّرت وعرضت مشهداً فيه مرأة عارية تماماً. إذ أنتج المخرج السوري نبيل الملاح في 1972 فيلم "الفهد" الذي اقتبس قصته من إحدى روايات "حيدر حيدر" حيث يعرض في أحد مشاهدها امرأة تخلع ثيابها. ولسوء الحظ، ما لبث صعود الإرشاد المتطرف بعد بضع سنوات على عرض الفيلم أن أدى إلى المطالبة بحذف هذا المشهد . وهكذا قرّرت أجهزة الرقابة لبلدان عربية أخرى أيضاً إزالة بعض المشاهد الشائكة والساخنة أو مصادرة الأفلام التي يوجد فيها هذا النوع من المشاهد، رغم حصولها على الترخيص بعرضها قبل ذلك بمدة طويلة ! ولقد أصبحت النقاشات حول قضية التعري ساخنة بعد إطلاق فيلم "بالألوان الطبيعية" في 2009 للمخرجيْن أسامة وهاني فوزي. وتدور أحداث هذا الفيلم حول حياة يوسف، طالب في أكاديمية الفنون شغوف بالرسم لكنه يرفض حضور دروس الرسم العاري، بسبب معتقداته الدينية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه القصة لا تتناسب مع واقع أوائل القرن الواحد والعشرين حيث إن دروس الرسم العاري قد مُنعت خلال عهد أنور السادات، هذا الرئيس من الصالحين، والذي اعتبر أن درساً مثل هذا ليس ملائماً في المجتمع المصري. ورغم ذلك، فقد تجرأ المخرجان على تقديم صورة نقدية لاذعة للمؤسسات الدولية والمجتمع، ولما أفسده الفساد والتواطؤ والنفاق الديني سواء كان مسيحياً أو إسلامياً، مما لم يلبث أن أثار غضب الأوساط الفنية الرسمية. ويذكر أن مصر ليست البلد الوحيد الذي منع دروس الرسم العاري، فسوريا منعتها أيضاً، مما جعل أسعد عرابي، وهو فنان تشكيلي وباحث في علم جمالية الفن العربي الإسلامي القديم والمعاصر ، يقول: لقد "أصبح رسم العاري بسبب من التردي الثقافي التشكيلي، نوعا من المغامرة، حتى لا أقول الخطيئة والمخاطرة بالسمعة الفنية، في أوساط ذوقية تعصبية ومتزمتة " . ولا شك أنه بإمكاننا أن نقول نفس شيء فيما يخص معالجة كل القضايا الشائكة والساخنة بشكل واقعي، في بعض الأوساط السينمائية المعاصرة. خ= سينما الثمانينيات والرقابة لقد عانت سينما الستينيات والسبعينيات من المصادرات التعسفية رغم أنها قد أظهرت حذراً واضحاً من أجل ترضية السلطة. وقد استهدفت قرارات الرقابة في تلك الفترة على وجه الخصوص، الأفلام التي اقتبست قصصها من روايات كانت تنتقد السلطات الوطنية بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد لجأ المخرجون أحياناً إلى تدخل رئيس الجمهورية نفسه من أجل الحصول على الترخيص بعرض الفيلم أو جعل الرقابة تتراجع عن قرارها بمصادرة فيلم أو منعه، حيث إن الرئيس كان الهيأة الوحيدة التي يحق لها البت في ما إذا كانت هذه الأفلام تمثّل خطراً على استقرار المجتمع. وفي هذا الصدد، يذكر أبو شادي أن الرئيس جمال عبد الناصر تعين عليه أن يلعب دور الرقيب في 1969 بمشاهدة الأفلام التي مُنعت بعد تأكيد الرقباء أنها تشوّه سمعته أو سمعة الثورة، وكذلك الأفلام التي صودرت لكونها أفلاماً تؤيد اتجاه المعارضة. وبهذا أثبت الرئيس أنه أكثر انفتاحاً من الكثير من شركائه ! وفي الثمانينيات، يبدو أن الوضع تغير قليلاً. وعلى غرار الأفلام التي سبقتها في العقد السابق، كانت الأفلام التي صُوّرت في ذلك الحين حريصة على تحاشي النقد المباشر. غير أنها تسببت أحياناً في اندلاع نوع من العراك بين الرقباء أنفسهم، كما أثارت في بعض الأحيان جدلاً في صفوف الرأي العام، مما أدى إلى مثول عدة مخرجين وفنانين أمام القضاء أو إلى اعتقالهم أو دفعهم غرامة مالية أو إلى المنع القاطع لعملهم . ومن الجدير بالتأكيد أن نفوذ المجتمع كله أصبح واضحاً بشكل ملموس، حيث إن مظاهرات الناس في الشوارع أو الدعاوى القضائية التي كان البعض يرفعها كانت كافية للتأثير على رأي الرقباء ! فقد أصبح بإمكان أي شخص أن يتسبب في منع فيلم ما استناداً إلى كونه يشوّه صورة مهنة أو مكانة أو سمعة الشخص. ونذكر على سبيل المثال أن بعض المحامين المصريين قرروا في 1984 رفع دعوى قضائية ضد فيلم "المحامي" بذريعة أنه أضرّ بسمعة مهنتهم، مطالبين بمنعه على الإطلاق. وقد انتهى الأمر بتقدم المنتج والمخرج والممثلين بالاعتذار، بعد أن كادوا يقضون عقوبة بالسجن لمدة عام كامل . وحتى لو لم تُمنع الأفلام التي أثارت جدلاً من هذا القبيل، فقد أدت كل دعوى إضافية إلى زيادة ضغط الرقابة والناس على كاهل الفنانين، وإلى تعزيز معايير الرقابة فيما يخص الأفلام التي اُعتبرت مناسبة. ولكن هذه الأمثلة لا تعتبر إلاّ بداية تسلط صعود التطرف الديني على صناعة الأفلام في مصر، حيث إن السينما المصرية تابعت تطور المجتمع وعكست كل المراحل التي مر بها والنزعات التي طبعته عبر قصص الأفلام أو المواضيع التي تناولتها أو عبر قرارات المنع التي عانت منها. ولقد ازدادت الظروف تعقيداً في التسعينات حيث إن المصريين ظلوا يرفعون دعاوى قضائية ولكن ذريعة هذه الدعاوى لم تعد مرتبطة بالإضرار بسمعة مهنة شخص ما، بل أصبحت تتعلق بمصالح القيم والدين. وهكذا تضاعفت الدعاوى بالحسبة. والطريف أن هذه الدعاوى رُفعت ضد أفلام جديدة وأخرى قديمة، بعضها تم تقديمها في دور العرض المصرية قبل عشرات السنين ! وعلى حد قول مصطفى سويف، فهذه الدعاوى القضائية باسم الحسبة تمثل نوعاً من "الرفض المطلق للإبداع" . د= أزمة سينما التسعينات لقد شهدت السينما منعطفاً هاماً في التسعينات حين تعرضت لأزمة اقتصادية قاسية. آنذاك أدرك المنتجون في صناعة الأفلام المصرية أنه لن يكون عليهم إلا النجاح في تحويلها إلى سينما تعجب الناس. وأصبح نجاح فيلم "اسماعيلية رايح جاي" (1997) غير المتوقع لفيلم ذي ميزانية منخفضة أصبح منطلق اتجاه جديد في صناعة الأفلام المصرية حيث إنها قرّرت من هنا الاستثمار في سينما سطحية تعالج القضايا الاجتماعية والوقائع الثقافية بشكل غير مباشر، اعتماداً على الكوميديا للتهكم على تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية المصرية. وهكذا انطلقت السينما المصرية نحو الإنتاج الضخم لأفلام تجارية ربحية ما لبثت أن فقدت سريعاً كل علاقة بالسياق الاجتماعي . وهناك بعض الأفلام التي صُوّرت في التسعينيات والتي أصبحت ظاهرة حقيقية، وتنتمي هذه الأفلام إلى نوع سينمائي سُمي "السينما الشعبية" . ولا شك في أن الرقابة اندهشت من النجاح الذي شهدته هذه السينما. بل واندهش المنتجون بدورهم أمام استقبال الجمهور الاحتفالي لأفلامهم حيث إن نجاحها تجاوز كل ما توقعوه، ومن ثم بدأوا ينتجون سلسلة أفلام تستند إلى أساس وحيد يتكرّر من فيلم إلى آخر. ولكن بعض المتتبعين، من النقّاد أو من أحبّاء السينما، عبروا عن تساؤلاتهم عن العامل الذي يقف خلف التجانس الظاهر بين ذوق الجمهور والسينما الشعبية بل وأيضاً عن النزاع بين السينما الإبداعية ذات جودة فنية وفكرية واضحة من جهة وثقافة الجمهور الفنية من جهة أخرى. فلماذا استقبل الجمهور استقبالاً مدوياً تياراً سينمائياً سطحياً مثل هذا؟ هل يشرح صعود نفوذ التيار المتطرف الديني أهمية هذه الأفلام التي لا تعالج أي قضية شائكة ؟ ويفاد أن سينما التسعينيات تفرعت إلى اتجاهين. فمعظم الأفلام التي اُنتجت خلال النصف الأول من التسعينات تنتمي إلى نوع "الكوميديا"، إلا أن بعضها تناول قضايا سياسية أو اجتماعية . وقد اتسمت هذه الأفلام الأخيرة بأنها تعالج القضايا بطريقة ترضي السلطة. وعلى سبيل مثال، في ذلك الوقت، صُوّرت الكثير من الأفلام التي تتناول قضيتيْ الفساد والإرهاب، وخاصة العمليات التي قامت بها السلطة في إطار سياسة الدولة لمكافحة أنشطة الجماعات الإرهابية. وهكذا تناولت هذه الأفلام قضايا بالغة الأهمية في المجتمع المصري دون اتخاذ موقف معادٍ للدولة، بينما يعود نشوء هذه الجماعات إلى فشل النظام في تلبية رغبات الشعب. وخلافاً للأعمال السينمائية التي سبقتها، لم تعالج هذه الأفلام القضايا الساخنة متسترة بنقاب المجاز أو الرموز بل قرّرت التعبير عن انتقاداتها بشكل مباشر. وقد اتسم هذا التوجه باختلاط الهزل بالانتقاد مما كان يؤدي أحياناً إلى التهريج. وهناك أسباب مختلفة وراء نجاح هذا الاتجاه في الانتاج السينمائي. أولاً لأنه قام به مخرجون ذوو كفاءات تقنية رائعة وساعدهم مؤلفون ذوو تجربة هامة في الكتابة، كما أن المنتجين اختاروا بعض النجوم المصريين للقيام بالأدوار الرئيسية حيث إنهم يتمتعون بشعبية كبيرة عند الجمهور. ويعتمد هذا الاتجاه على قصص أبطالها مخلصون وشعبيون يمثّلون وعي المجتمع ويحملون أحلامه وواقعه، مما يخلق تعاطف الجمهور معهم. ويكمن سبب نجاح هذا الاتجاه ثانياً، في رأي البعض، في أن هذه الأفلام تتناول المحرمات الثلاث، أي الجنس والدين والسياسة، بشكل هزلي وغير جدّي. ورغم أن معالجتها لهذه المواضيع ليست إلاّ معالجة سطحية، فإنها بذلك تتناول مواضيع خاصة بحياة المصريين، دون تجاوز حواجز الأخلاق. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأفلام تقتصر على تعبير نمطي وكاريكاتوري عن هذه المحرمات، وتتسم بنهايتها السعيدة التي تمثّل مصدراً للآمل. أما الاتجاه الثاني الذي طبع نهاية التسعينات، فتميز بإنتاج أفلام خاضعة لسيطرة الدولة ولقيم وأخلاق الناس، حريصة على عدم خدش شعور العائلات، وعلى إهمال القضايا السياسية. وهكذا انخفض نجاح الأفلام السابقة التي انصبت على الفساد والإرهاب وحلت أفلام نهاية التسعينات محلها في دور العرض. وقد اتسمت هذه الأفلام المتجهة إلى العائلات بمغامرات شخصياتها وبقصصها التي تقترب من الملهاة الهزلية . ويذهب بعض النقاد إلى أن نجاح هذه الأفلام لدى الجمهور لا علاقة له بمجال الفن على الإطلاق. وتقول بعض المصادر إن هذه السينما الرخيصة لعبت دور المسرح لدى المصريين الأكثر فقراً والذين لا يستطيعون دفع تذكرة المسرح التجاري السياحي الذي يستهدف جمهوراً من غير المصريين. وقد استوحت أفلام أواخر التسعينات قصصها من السياق الاجتماعي، ومع أنها تتناول قضايا يتعذر أن تعالجها المسرحيات، إلاّ أن معالجتها تظل سطحية للغاية، مما يتضح به أن هذه الأفلام لا هدف لها إلاّ الترفيه عن الجمهور. ولسوء حظ الجودة الفنية للسينما المصرية، يتجاوز عدد المشاهدين بشكل عريض عدد النقاّد الذين يعترضون على تلك الأفلام ويرون أنها تهدّد روح السينما المصرية التي شهدت عصرها الذهبي مع يوسف شاهين وصلاح أبو سيف. ومن جهة أخرى، أسهمت جماهير الشباب في نجاح هذه الأفلام التي اُنتجت لصالحهم حيث إنها تستعمل لهجتهم العامّية الخاصة وأغنياتهم وأفكارهم، وتعكس حياتهم وأحلامهم ويأسهم واستسلامهم، وذلك بروح الدعابة. وعلى حد قول بعض النقّاد، فإن جماهير الشباب تريد أن تتمتع باللحظة، ولذلك تقيّم جودة الفيلم لا بإجادة الممثلين لدورهم ولا بعُمق السيناريو ولا بموهبة المخرج، بل بالمتعة التي زوّدها الفيلم بها. ويدل ذلك على أن الشباب يريد الابتعاد عن النقاشات المتعبة والعقيمة وعن شواغله. وكما قال بعض منتجيها، فأفلام التسعينات اتجهت إلى العائلات، وسمحت لأعضائها بإعادة التجمع أمام الشاشة ليتمتعوا بفيلم ترفيهي، مما كان شبه مستحيل خلال السنوات السابقة بسبب فحش انتاجات كثيرة وُصفت بأنها بذيئة. وقد اتسمت هذه الأفلام السطحية الهزلية بأنها استبقت أذواق مشاهدين جدد تمكنوا من الولوج إلى السوق الاستهلاكية لأول مرة. وباختصار، يمكن القول إن "تلك الأفلام باعت الكثير من الأحلام والأوهام لنسيان الواقع الخام" . و= السينما المصرية وعودة الواقعية لم يعد لدى السينما المصرية البريق الذي كانت تتمتع به في الماضي. وفضلاً عن انخفاض عدد الأفلام المصوّرة كل عام، لم يعد في مصر أي استوديو يتعاقد مع مخرج ما لتصوير أكثر من فيلم كما كان الحال في الماضي. فقبل بداية تصوير فيلمه، يتعين على المخرج أن يمر بمراحل مختلفة ومتعبة. وأحياناً يحتاج إلى بضع سنوات لجمع أموال كافية لإنتاج مشروعه. وحتى بعد الانتهاء من تصوير فيلمه والنجاح في تجاوز أغلبية العوائق، فهو لا يكون متأكداً من الحصول على الترخيص بعرض الفيلم . في هذه الظروف الصعبة، لم يستطع صنّاع الأفلام أن يتجمعوا لإطلاق موجة أو حركة جديدة في السينما المصرية كما تجمع صنّاع الأفلام الفرنسيون في تمهيد الطريق إلى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية مثلاً. بل أصبحت السينما المصرية في مطلع القرن الواحد والعشرين تتوجه نحو اتجاهات متعددة ومختلفة تماماً حسب المنتجين والمخرجين ويبدو أن الاتجاهين الأساسين يتمثلان في اتجاه الأفلام ذات جودة فنية حقيقية والأفلام الشعبية. ففي 2006، اُنتج فيلم "عمارة يعقوبيان" وهو تشخيص لرواية علاء الأسواني التي ذاع صيتها في كل أنحاء العالم. فهذا الفيلم قد نجح في ادماج هاذين الميلين وفتح الباب لعودة الواقعية إلى الطليعة. ومع أنه لا يتسع المكان هنا للحديث عن هذا الفيلم بتفصيل، فيجدر القول إن فيلم "عمارة يعقوبيان" يمثّل إعادة رغبة المخرجين في الانتقاد الاجتماعي المباشر إضافة إلى تجاوزه المحرّمات .لكن البعض انتقد مع ذلك معالجته الغربية لقضايا المجتمع المصري، حيث إنه يتناول تفاقم مستوى معيشة الفقراء باستعمال ما يسمى "التقنيات الفنية الغربية" في تمثيله للإطار الوطني. فيما يبدو هذا الإنتاج وكأنه يحنّ إلى الماضي وعلى وجه الخصوص إلى وقت الاستعمار في التأكيد على أناقة الأسلوب الأوروبي في الملبس والهندسة المعمارية، وعلى تفوّق القيم الأوروبية وتصرفات الغرب التي تبناها المصريون لا سيما لدى البورجوازية في ذلك العهد، كما انتقد الكثيرون تواجد الأغاني الفرنسية على حساب الموسيقى العربية. وبالرغم من هذه الانتقادات، فقد سمح الفيلم بعودة الواقعية. والعديد من الأفلام الواقعية اُنتجت بعدها وهذه الأفلام تقدمت بتمثيل خام للفقر والفساد والتحرش الجنسي والحياة في المناطق العشوائية في القاهرة . ثالثا: الرقابة المصرية والسينما يقال إن دور الرقابة ضروري في المجتمعات الأكثر محافظة حيث تلعب الجماعة دوراً ملموساً، خلافاً للفردانية التي تتسم بها معظم المجتمعات الغربية التي تسمح للجميع بحرية التفكير والحرية الجنسية والحرية الدينية. وفي مصر على وجه الخصوص، يتعذر الاستغناء عن جهاز الرقابة حيث إن المجتمع يعاني من نوع من الفصام لكونه يرفض تسليط الضوء على ما يحدث سرياً خلف جدران البيت . هذا الجزء الثالث من الدراسة لا يهدف إلى تحليل تاريخ الرقابة على السينما المصرية بل إلى الإشارة إلى أهمية دورها وكيف تغيرت لتواكب تغير المجتمع. منذ إنشائه في مطلع القرن العشرين، استعمل جهاز الرقابة على الأعمال السينمائية رغبة الحكم في الحفاظ على استقرار الدولة وأخلاق الشعب كذريعة لتبرير وجوده. وهكذا بدأ العمل الإبداعي والسلطات الوطنية، بعد بضع سنوات فقط على اختراع السينماتوغراف، يتنازعان ويتضاربان. وعلى عكس ما حدث في عدة بلدان أخرى، لم يعرقل تواجد الرقابة تطوير صناعة السينما بل اكتفت الرقابة بفرض الاتجاه الذي كان على صناعة الأفلام أن تسير فيه. وهكذا تعين على الفنانين الالتفاف حول القانون وشروط الدولة، لإنتاج أفلامهم. ورغم أن بعض المخرجين الجريئين قد فشلوا في تحقيق مشاريعهم أمام قوة دولة تسعى إلى التحكم في الحركة الإبداعية لتشكيل وتحديد آراء الناس، إلاّ أننا نجد طوال تاريخ السينما المصرية بعض الأفلام المفيدة التي تنتمي الآن إلى تراث سينما البلد . ويذكر أن الرقابة المفروضة على الفنون والمطبوعات، في بداية عهدها في مصر، أي في عهد محمد علي في القرن التاسع عشر، استهدفت وضع تشريع يتحكم في العلاقة بين الفنانين والجمهور. وبعد وصول جهاز السينما إلى مصر في القرن العشرين، أصدر القصر الملكي بمشاركة الاستعمار البريطاني قانوناً خاصاً بالأفلام، من أجل حماية الاستقرار ومصالح الدولة العليا والأمن الوطني، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914. وفي تلك الأثناء، كان جهاز الرقابة تابعاً لوزارة الداخلية وخاضعاً للأجانب الذين كانوا يسهرون على مصالح حلفاء البريطانيين. وفي 1938 أحال النظام إدارة الجهاز إلى وزارة الشؤون الاجتماعية قبل انتقاله إلى وزارة الإرشاد القومي في 1955 ومن ثم انتقلت الرقابة إلى وزارة الثقافة وأخيراً إلى المجلس الأعلى للثقافة عام 1980 . ورغم الاستمرار الظاهر لقانون الرقابة مع مرور الزمن، فإنه يتبين أن التفسيرات التي استعملها الرقباء لتبرير منع أو مصادرة فيلم ما، قد تغيرت من أجل مسايرة المجتمع وتطوره. وكمثال على ذلك نذكر أن الرقباء في الستينيات كانوا يتكلمون عن الرقابة ودورها في المجتمع الاشتراكي مشدّدين على ضرورتها من أجل حماية المجتمع من الانحرافات الرأسمالية وعلى منع الأفلام التي لا تؤيد التوجه الاشتراكي، بينما يتحدث رقباء القرن الواحد والعشرين أكثر فأكثر عن تغيّر دور الرقابة في ظل عهد التكنولوجيات الجديدة . ومن جهة أخرى، يقال إن نوعية الرقابة ترتبط بالمرتبة التي يحتلها الرقيب في المجتمع، إضافة إلى طبقته الاجتماعية. وعليه فإن الشخصيات التي عملت لفائدة الرقابة تغيّرت كثيراً منذ أن أصبحت تابعة للمجلس الأعلى للثقافة حيث إن معظم الرقباء ينتمون إلى أوساط الأدب أو النقد الفني أو السينما أو الجامعة. وبالنسبة إلى هؤلاء الرقباء (مثل مصطفى درويش أو علي أبو شادي )، فلا شك في أن هذا المنصب لم يمثّل إلا منصباً انتقالياً سمح لهم بتحليل دور الرقابة من الداخل. والطريف أن معظم الرقباء الذين عملوا في جهاز الرقابة في تلك الفترة أصدروا قبل الدخول إلى الجهاز أو بعده كتباً ينتقدون فيها عمليات الرقابة ووسائلها من وجهة نظر الكاتب أو الناقد أو المثقف لا من جهة نظر الرقيب. فتكلم بعضهم عن الفقر الفكري الذي تتسم الرقابة به وخاصة عن مبالغة القانون فيما يخص ممارسة الرقابة. وقد أكد مسؤول الرقابة مصطفى درويش أن المشكلة التي تعاني منها الرقابة لا تكمن في الطابع التعسفي للقانون الذي لا يسمح للفنانين بالتعبير عن أفكارهم كما يحلو لهم أو في تفسير هذا القانون فحسب، بل وأيضاً في الضغوط الممارسة على الرقباء. وقد استهجن أبو شادي، من جانبه، وجود مفهوم الرقابة الذي يعرقل تصوير أفلام تحارب تسلط السينما الشعبية التجارية التي ينتجها أحياناً بعض المخرجين المبدعين بمصداقية، والتي تظل مع ذلك سينما الاستهلاك الخاضعة للسلطة ، لأنها لا تتجرأ على تجاوز الحواجز التي فرضتها الدولة . لقد لعبت السلطة دوراً ملموساً في تشديد قوة الرقابة. وهي لم تتردد في تهديد الرقباء لتجعلهم يستخدمون حقهم لمنع أو مصادرة الأفلام التي قد تثير جدلاً في المجتمع، وأحياناً بتعسف. ولا أدل على ذلك مما حدث بعد سماح الرقابة بعرض فيلم "المذنبون" الذي يستمد قصته من إحدى روايات نجيب محفوظ. ففي 1976 تعرضت إدارة الرقابة لعقوبة الدولة بعد أن رخّصت بعرض الفيلم. والطريف أن "المذنبون" الذي يعالج قضية اجتماعية وسياسية في نفس الوقت، اُختيِر لتمثيل مصر في مهرجان الفيلم الدولي بالقاهرة، وكان الفيلم يحمل في ثناياه، حسب المؤسسات الدولية وحيثيّات التحقيق، انتهاكات للأخلاق وتشويهاً لسمعة القطاع العام والقيم الدينية للمجتمع، ويشجع في الوقت نفسه على الحرام كما أنه يشكل دعوة إلى الانحرافات. ورغم أن القضية لم يسفر عنها شيء ما عدا دفع الغرامات وخفض أجور الرقباء، فإن أغلبية الرقباء اعتبروا أن هذا التحقيق يشكّل تهديداً واضحاً لحقهم في منع ومصادرة الأفلام. وهكذا مارست الدولة رقابة على الرقابة ! يضاف إلى هذا أن هذه القضية وجهت رسالة واضحة إلى المخرجين: إذ كان النظام يقول لهم بوضوح إن عملهم قد لا يعُرض على الإطلاق وإنه سيُمنع منعاً باتاً إذا تجرؤوا على تجاوز الخط الأحمر. ولنضرب مثالاً آخر على المبالغة التي طبعت جهاز الرقابة، برئاسة نعيمة حمدي إلى الرقابة نفسها. ففي الفترة التي كانت فيه مديرة عامة للرقابة، خضع الرقباء لضغوط خارجية كثيرة جعلتهم يبالغون في ممارسة مهمتهم لمنع الأفلام. وهذا ما جعل علي أبو شادي يقول إن نعيمة حمدي ساندت تبلور أفكار الجماعات المتطرفة قبل أن تبدأ الدولة في معارضتها وتشجيع المخرجين على انتقادها. ولا شك في أن نعيمة حمدي بالغت في دورها حيث إنها قالت إن ارتكاب انتهاكات للأخلاق في الفن يساوي ارتكاب انتهاكات لها في الحياة. وقد أطلق على نعيمة حمدي بعد هذا اسم "السيدة الحديدية" للرقابة. والواقع أنها لم تكن واعية بكونها ساهمت في صعود ودعم التوجيه المتطرف وأهميته، حيث إنها كانت على حد قول أبو شادي "تقليدية للغاية " وكانت "مختصة في قضايا الأخلاق". وفضلاً عن ذلك، فقد اختفت في ذلك العهد عبارة "للكبار فقط" من الملصقات، حيث إن نعيمة حمدي كانت تريد أن تكون كل الأفلام مناسبة لكل الفئات الاجتماعية . ففي الوقت الحالي، تنقسم الأفلام إلى مجموعتين: "الأفلام للجميع" و"الأفلام للكبار فقط ". ونذكر هنا أن دراسات أجريت في الثمانينات أشارت إلى أن تتدخل الرقابة في السيناريوهات وفي القصص قد أدى إلى تطوير نوع من الرقابة الذاتية لدى الفنانين . وقد حاول رقباء كثيرون تبرير تواجد الرقابة بقولهم إن لا أحد من بين المخرجيين الموهوبين الحقيقيين يشكو من قرارات الرقابة، لأن باستطاعتهم دائما إيجاد طرق أخرى تحترم المعايير التي فرضتها الدولة، للتعبير عن أفكارهم. ومن الطريف أن بعض الرقباء تجرأوا على المقارنة بين الظروف التي تعيشها كل من إيران ومصر، معتقدين أن السبب الذي يقف خلف نجاح صناعة الأفلام الإيرانية هو جهاز الرقابة الإيراني الذي يشبه هيئة الرقابة التي أنشأتها السلطة المصرية. ودون الحديث عن عدم نجاح الأفلام المصرية على الصعيد الدولي مقارنة بالأفلام الإيرانية، يشيرون إلى أن صناعة الأفلام الإيرانية قد استفادت من المنع المفروض على تمثيل مشاهد متعلقة بالجنس والعنف والسياسة، لتحقق تطوير حاسة فنية رائعة. وبهذا نجح المخرجون الإيرانيون في إتقان فن المجاز والالتفاف حول المحرّمات من أجل تجنب مصادرة الرقابة. عدا هذا، هناك عدة أسباب تكمن خلف الفقر الفني للسينما المصرية. فإضافة إلى هجرة الفنانين المؤهلين الذين يهربون من الأجور الرخيصة والأماكن غير الصالحة للعمل، هناك افتقار الرقباء إلى ثقافة فنية حقيقية، حيث إن أغلبيتهم ليسوا إلا موظفين لا يفقهون في الفنون ، كما أن صعود التطرف في المجتمع المصري لعب دوراً ملموساً في انخفاض جودة صناعة الأفلام المصرية. وقد أسلفنا الإشارة إلى خطر الرقابة الذاتية التي يفرضها الفنانون على أنفسهم. فهذه الرقابة الذاتية أفرزت تداعيات أسوأ بكثير مما كان الجميع يتوقعه، حيث إن العديد من الفنانين الذين هجروا عالم السينما بدأوا يشككون في شرعية تواجد السينما بناء على قواعد الدين، وأصبحوا ينبذونها استناداً إلى منطلقات عقائدية. فبعض الفنانين، ومن بينهم ممثلات كثيرات ، قرّروا التخلي عن السينما بل وشنوّا حملاتهم المضادة عليها من أجل إقناع زملائهم السابقين في صناعة السينما بأن الفن السابع حرام. وغني عن القول إن هذا السلوك قد أضرّ بالتراث السينمائي المصري. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن الشيخ محمد عبده كان قد أصدر فتوى عن السينما في جريدة "الوقائع" في 1891 يقول فيها إن السينما ليست حرامة، بل ويجب على المصريين أن يحرصوا عليها من أجل أن يواكبوا الحس الجمالي الأوروبي. كما أن محمد رشيد رضا كتب من جانبه في جريدة "المنار" سنة 1928 أن الإسلام لا يمنع التمثيل بل إن التمثيل يمكّن من التعبير عن جمال البشر وهو يتحرك . وليس أدلّ من هاذين المثالين على أن المجتمع المصري أصبح أكثر محافظة مع مرور الزمن. أ= الرقابة والسينما والثقافة: علاقة معقدة حان وقت التركيز على تطور الرقابة في المجتمع المصري وخاصة على العلاقة التي تربط السينما بالثقافة. ففي هذا الجزء، وقبل التوجه نحو الخلاصة، سنحلل دور الرقابة كهيئة تتحكم في تمثيل الواقع الاجتماعي والثقافي، وكيف اُستعملت لتحديد المعايير والقواعد الدينية والثقافية. ولا شك في أن الجميع يعترف بأهمية تحليل هذه الإشكالية في ظل صعود الدين الإسلامي الواضح كأداة سياسية، بعد اندلاع الاضطرابات التي سُميت "الربيع العربي". ولا شك في أن صناعة الأفلام تمثّل جزء لا يتجزأ من ثقافة أي بلد كان. غير أن البعض تساءل في بداية تاريخ السينما عن مطابقتها مع قيم وأخلاق المجتمع خاصة في البلدان الأكثر محافظة، وهل كان من الممكن أن تؤدي الأفلام إلى دفع الناس إلى الانحرافات ؟ ورغم أن صناعة الأفلام بدأت في مصر في مطلع القرن الماضي، فما زالت تمثّل قطاعاً يثير جدلاً ساخناً سواء تعلق الأمر بالدين أو بالأخلاق أو بقيم المجتمع، أو تعلق بالنزعات التي تحتل المركز الأساسي فيه كلما أعلن عن تقديم فيلم جريء. وقد أزداد الأمر تعقيداً في عصر العولمة، حيث أصبح من الصعب أن تمنع الحكومة غزو الأفلام الأجنبية التي تُحمَّل بشكل غير قانوني على الانترنت، والتي تؤدي حتما إلى إيصال قيم وتصرفات لا تتناسب مع تلك التي غرسها الآباء في أبنائهم. وكما أسلفنا القول، فهذا التناقض الذي يؤثر خاصة على الشباب، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة الهوية وتنامي ردود فعل متطرفة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرقابة اُستعملت استعمالاً ظاهراً لتخفيف تأثير الأفلام الأجنبية على المجتمع، إضافة إلى دعمها لإنتاج الأفلام التي تقدم وصفاً مضللاً للمجتمع من أجل تجنب دفع الشعب إلى الثورة، أو لنشر صورة المجتمع المصري عن صورة غالباً ما تكون أكثر إيجابية مما هو عليه في الواقع. ولهذا يقال إن الرقابة ومن خلالها الحكومة، تلعب دور حارس الثقافة والأخلاق ضد الفن، لاسيما في المجتمعات المحافظة والأبوية . وبينما حاول الرئيس عبد الناصر دعم إنتاج أفلام قومية تؤيّد الاشتراكية وتعارض الفوضى الاجتماعية، تميز عهد الرئيس السادات بإنتاج أفلام تدّعي حماية الأخلاق الدينية، فمالت رقابته إلى فرض محرّمات على المجتمع المصري، بمنعها أفلاماً كانت تعالج المشاكل والقضايا الحقيقية والشائكة التي أفسدت المجتمع. إذ ما كان على مجتمع يعطي رأي الآخر والمظهر الخادع أهمية جلية إلا أن يتابع أراء الناس ذوي حق التفكير الذين عملوا لفائدة الرقابة؟ خاصة وأن الأمية في عهد السادات بلغت نسبة تتراوح بين 40 و 60 بالمئة من كل السكان وأن الناس أصبحوا يستخدمون التلفزة وأجهزة الإعلام المراقبة كوسيلة تعليمية. ومن البديهي أن الناس يتأثرون بالأفكار التي يوصلها الإعلام، وأن عقليتهم تصبح أكثر انغلاقاً باعتبار أنهم ظلوا يشاهدون برامج محافظة أكثر فأكثر، أنجزت أحياناً لمواجهة تأثير الأفكار الغربية في مصر، إضافة إلى تشجيعها لتبني تصرفات وأفكار أكثر محافظة، وعرقلتها حرية الفنانين الإبداعية في كل المجالات، مما أدى إلى جعل عمليات الرقابة تلغي من الوعي الجماعي مختلف القضايا التي كان يعاني منها المجتمع، في تأييد الناس لعدم الاعتراف بتواجدها. الشيء الذي يمكن القول معه إن هذه المقاربة هي السبب الذي يقف إلى حد ما خلف غزو الأفلام التجارية لدور العرض، أي هذه الأفلام السطحية التي بدأ إنتاجها على نطاق واسع في التسعينات . إن العلاقة بين السينما والثقافة ليست سهلة في المجتمعات التقليدية وعلى وجه الخصوص في البلدان العربية، حيث إنها تستهدف حماية الثقافة والقيم من غزو الثقافات الأخرى التي تمثّل تناقضاً صارخاً مع الأخلاق المحلية. ولهذا دعمت الرقابة السياسات الفنية التي منعت عرض الأفلام المصرية أو الأجنبية المعادية للمعايير التي فرضتها الدولة. وخلافاً للغرب حيث ظلت السينما تتطور مع تطور المجتمع وتعكس واقعه، فقد صعب على العالم العربي استخدام الفن السابع لوصف هويته، بسبب القيود التي فرضها الاستعمار أولاً والرقابة المرهونة بالدولة ثانياً. وكما أسلفنا الإشارة إلى ذاك، فإن السينما الاستعمارية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص، استعانت بالأفلام لتوصيل الأفكار المغلوطة عن العرب استناداً في بعض الأحيان إلى ما يمكننا أن نسميه "الغرائبية". وهذا الاتجاه السطحي الذي أيّده منتجو الأفلام الأجانب، هو السبب الذي أدى بالكثير من المثقفين العرب إلى نبذ الثقافة العربية. فقد اقتنع هؤلاء بأن الطريقة الوحيدة للتغلب على التخلف والأفول، تتمثل في تقليد معايير الغرب والاحتذاء بتصرفاته وقيمه. وهكذا دعمت البورجوازية ازدهار أفلام تكتفي بالاحتذاء بقصص وأساليب السينما الغربية . غير أن الاستعمار ساعد على وصول ابتكار الإخوة لوميير إلى البلدان المحتلة ولاسيما في مصر التي كانت بفضل موقعها بين الشرق والغرب نوعاً من مفترق طرق الحضارات مما جعلها قابلة لاستيعاب الابتكارات الأحدث التي تقدمت بها أوروبا . إلاّ أنه ورغم كل ثغرات وعيوب السينما المصرية عبر تاريخها الطويل، يجدر التأكيد على أنها الأولى التي تجرأت على تمثيل ثقافتها الذاتية، إضافة إلى كونها السينما الأكثر جودة والأكثر نفوذاً طوال سنوات كثيرة في العالم العربي. وبالطبع فإن تقديم الثقافة المصرية على الشاشة الكبيرة لم يُحقّق بين عشية وضحاها، إذ احتاجت مصر إلى أكثر من ثلاثين سنة للسماح لشعبها بمشاهدة أفلام قصصها تأخذ جذورها في الثقافة العربية. ب= الرقابة، حارس الأخلاق والفن اقتصر هدف صناعات الأفلام العربية غالباً على رغبتها في التحكم في الصور من أجل تحديد الهوية العربية. وتستمد هذه الهوية جذورها من الاختلاط بين كل ثقافات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما يجعل تحديدها أمراً صعباً، خاصة وأن العالم العربي يبدو أنه ما زال يترجح بين الحنين إلى الماضي والرغبة في إيجاد الطريق الخاص به في العالم المعاصر . وهذا ما يجعل العلاقة بين الفن السينمائي والهوية العربية أصعب، باعتبار أن العرب ما زالوا يبحثون عن هويتهم. ومن الواضح أن الرقابة لم تسهل المأمورية حيث إنها بالغت في منع تمثيل أوضاع العالم العربي بمصداقية. فكيف يمكن للعرب تحديد هويتهم الفنية عندما يدركون أن الفن لا يعكس واقع حياتهم؟ ولقد لعبت الرقابة دور حارس المجتمع وأخلاقه بما أنها كانت تشكل الهيئة الوطنية الوحيدة التي يمكنها تحديد ما يمكن أن يعتبر فناً، وتحديد ما هو بذيء وغير لائق، استناداً إلى السياسات التي كانت الدولة تفرضها . والغريب في هذا السياق أن هذا الجهاز لم يبرّر قراراته على ضوء العقل بل فرض قراراته غير الموضوعية دون السماح للمعارضين بتقديم تفسير آخر لمحتوى الفيلم. وبعبارة أخرى، اكتفت الرقابة بفرض قراراتها بشكل شمولي دون أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يصفه الفيلم. وذلك يدل على أن الرقباء أنفسهم قد خافوا من عقوبات الحكم. وحيث إن سلطة وسياسة الدولة تختلف كلياً من بلد إلى آخر، فإن أجهزة الرقابة العربية لم تسر في نفس الاتجاه. ففي مصر، على سبيل المثال، اعترضت الرقابة، لاسيما في ظل صعود التطرف الواضح في الثمانينات، على كل الأفلام التي أخذت تنتقد الدولة وتعكس القضايا الاجتماعية بشكل واقعي. وكما أسلفنا القول، عادت بعض الأفلام إلى التيار الواقعي الذي تميز به العصر الذهبي. وهكذا لم تتردد أفلام مطلع القرن الواحد والعشرين في تناول حياة الفقراء والحياة في المناطق العشوائية، وخرق حقوق المرأة، والتطرف الديني، والعلاقات بين الأقباط والمسلمين، إضافة إلى المثلية الجنسية. وقد منعت معظم هذه الأفلام أو خضعت لحذف بعض المشاهد. إلاّ أن هناك دائما استثناء .ويشكل فيلم "عمارة يعقوبيان" الاستثناء حيث إنه لم يمنع بل تمّ عرضه كاملاً داخل مصر كما في خارجها رغم شكايات المتطرفين الذين ألحّوا على أن الفيلم يشوه سمعة وأخلاق مصر ويحتوي على الأفكار البذيئة والصور الإباحية. ويمكننا أن نتساءل عن السبب الذي يقف وراء قرار الرقابة الترخيص بعرض الفيلم دون فرض أي تعديل فيه . وربما اعتقدت الرقابة أن منع أو تعديل رواية اُستقبلت دولياً باستقبال احتفالي، قد يشوّه صورة الدولة في العالم العربي وفي الخارج، ولقد استعانت الرقابة بنجاح الكتاب لتبرهن أن مصر، كبلد ديموقراطي، تقبل الانتقاد. وانتقد البعض عرض الفيلم ونجاحه الدولي كما حصل للرواية، لأن الفيلم، خلافاً للصورة الظاهرة، لا ينتقد الدولة بل يدعم سياستها ، لكونه يقدم صورة أكثر انفتاحاً للبلد حسب المرجعيات الغربية التي أشرنا إليها سابقاً. وبالعكس، فإن فيلم "الخروج من القاهرة" يقدم صورة قاسية جداً للوضع في مصر، ولهذا تمّ منعه منعاً مطلقاً ! وينصب الفيلم على قضية العلاقات بين الأديان وممارسة الجنس قبل الزواج، فضلاً عن وصفه الواقعي لعيش الفقراء في بؤس الأحياء العشوائية. وهكذا تجرأ الفيلم على الإشارة إلى وقائع لا يتطرق إليها ولا يعترف بها أحد في العلن. وعُرضت قصة الحب هذه بين فتاة قبطية وشاب مسلم لأول مرة في مدينة نيو يورك، أي خارج مصر حيث منعته الرقابة المصرية بذريعة أنه يقدّم صورة غير ملائمة عن مصر. حيث إنه يمثّل القيم الغربية المعاصرة كما لو أنها جزء لا يتجزأ من الأخلاق المصرية. ومع أن العلاقة بين الأديان تندرج في إطار واقع المجتمع المصري اليومي، إلاّ أن معالجة هذه القضية ما زالت تمثّل إشكالية شائكة تشجع الرقابة على منع كل الأفلام التي تدور أحداثها حولها. ويبدو في الواقع أن التناول البسيط للدين، مهما كان، يمثّل مشكلة. وخير مثال على ذلك فيلم "بحب السينما" الذي تعرض في 2004 لرد فعل عنيف غير مبرر وغير معقول من قبل كل من الأقباط والمسلمين الذين أطلقوا حملة للمطالبة بمنعه . ومع أنّ هذا الفيلم يقتصر على تقديم حياة عائلة عادية قبطية تعيش في مصر في الستينات، إلاّ أنه أثار جدلاً واسعاً، لأن المسيحين اعتبروا أنه يسب الدين المسيحي والمتدينين، وحملوا مسؤولية عرضه لوزارة الثقافة أولاً ولوزارة الداخلية ثانياً، مما يفيد بأن هذه القضية تدل على أن تناوُل الدين لا يعتبر ممنوعاً بالنسبة للرقابة فقط بل بالنسبة للشعب أيضاً . واُضيف إلى هذا أن الرقابة لم تسهل قط إنتاج الأفلام على الفنانين، بما أنها استمرت في جعل مراحل الحصول على أي ترخيص صعبة أكثر فأكثر. فعلى المخرجين أولاً أن يتقدموا بالسيناريو إلى الرقابة من أجل أن تسمح ببثه إذا اعتبرته مناسباً أو بذئاً، ثم يتوجّب عليهم ثانياً أن يحصلوا على الترخيص بالشروع في التصوير، كما يتعين عليهم ثالثاً أن يعرضوا الفيلم على الرقباء من أجل الحصول على الترخيص بعرضه على الجمهور. غير أن الفساد جعل الأوضاع أسوأ في بعض الأحيان، فقد ألزمت الرقابة بعض المخرجين بدفع مبالغ مالية ليتمكنوا من عرض أفلامهم. ويشار هنا إلى أن الرقابة غالباً ما كانت تستخدم عدم خضوع المخرجين لكل هذه المراحل كذريعة لمنع عرض الأفلام التي كانت تتناول قضايا شائكة. ومن بين هذه الأفلام هناك فيلم "دنيا" للمخرجة اللبنانية "جوسلين صعب" والذي يعالج قضية ختان الإناث في مصر وتداعياته على حياة الضحية التي تحمل اسم "دنيا ". فقد صرحت الرقابة رسمياً أن الفيلم قد مُنع لأن المخرجة لم تدفع الرسوم المالية التي كان عليها أن تدفعها إلى ثلاث نقابات مصرية. ومع ذلك، يجدر القول إن مبلغ هذه الرسوم المالية يعتمد على الحال والرقابة هي التي تتولى تحديد المبلغ. بينما صرحت المخرجة اللبنانية أنها لم تدفع المبلغ المطلوب بالفعل، مؤكدة بعد الإعلان عن عرض الفيلم في سبعة عشر دورسينمائية أنها لم تكن على علم ودراية بوجوب دفع هذه الرسوم المالية. وقد دفع هذا بعض المتتبعين إلى القول إن الرقابة فرضت دفع هذه الرسوم عمداً بهدف منع عرض الفيلم في اللحظة الأخيرة . وتدل هذه الأمثلة على أن الرقابة سوف تظل تعرقل ازدهار الإبداع الفني وتمثيل الواقع الاجتماعي ما دام القانون فضفاضاً ويمكّن الرقابة من تفسيره كما يحلو لها.. ت= السينما... الآن كما أسلفنا القول، أخذت السينما العربية بشكل عام والسينما المصرية بشكل خاص تتبع اتجاهاً تجارياً منذ التسعينيات على غرار الاتجاه الذي تميّزت به صناعة الأفلام في بداياتها. ورغم كل الانتقادات التي يعبّر عنها الفنانون أو النقاّد فيما يتعلق بانحطاط الجودة الفنية للسينما المصرية التي تكتفي أحياناً بتقديم أفلام تتمحور حول قصص حب نمطية، إلاّ أن الجمهور أعجب كثيراً بهذه الأفلام الهزلية السطحية التي تسمح له بنسيان شواغله اليومية وكآبته العادية لمدة ساعة أو ساعتين. وبالنسبة إلى المشاهدين، فهذه السينما الجديدة تمثّل نوعاً من الإغاثة والارتياح ينوّر الظلام الحالك الذي قد يؤدي ببعضهم إلى اليأس والاستسلام. وهكذا يبرهنون على أنهم لا يحتاجون إلى سينما تعكس الواقع بما في ذلك قضايا مصر الاجتماعية أو السياسية التي تشوّه لا محالة صورة وسمعة البلد. بل يؤكدون على أنهم يريدون أفلاماً تمنحهم الأمل، أي أفلاماً تساعدهم على تحمل صعوبات الحياة. وإضافة إلى التعبير عن رغبتهم في مشاهدة أفلام قصصها بسيطة وهزلية، فالمصريون لم يترددوا في تنظيم مظاهرات أو شن حملات وحتى رفع دعاوى قضائية من أجل المطالبة بمنع عرض فيلم ما يتناول قضية شائكة. وقد شهدت مصر ارتفاعاً ضخماً لهذه الأحداث خلال السنوات الماضية . غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك إذا تأملنا الوضع بتمحيص. إذ ندرك أن المصريين، على وجه الخصوص منذ صعود تيار الإسلام السياسي، يعوّلون على الرقابة بل ويدعمونها من أجل أن تمنع الأفلام التي تهدّد الأخلاق ويريدونها أن تلعب دور الحارس الذي يحافظ على قيم ومعايير المجتمع الذكوري. وبدلاً من المطالبة بحرية الإبداع الفني، يبدو أن الجمهور يحمل المسؤولية للدولة كلما رخصت بعرض فيلم يهدّد أخلاق الشباب أو فيلم يدعو إلى العنف في المجتمع أو فيلم يشوّه الدين و صورة مصر . ومن خلال الأمثلة التي أوردناها يمكننا أن ندرك أن الرقابة ما زالت تعرقل التمثيل الحقيقي والصريح والمعقول للهوية الثقافية العربية والمصرية بفرضها صورة مشوهة ومحرّفة للثقافة والمجتمع . كما أن صعود التيار الإسلامي المتطرف ساعد على تدخل الأموال السعودية في صناعة الأفلام المصرية لإنتاج أفلام سطحية تتناسب مع المعايير الدينية التي فرضها منتجو منطقة الخليج العربي . ويمكن القول باختصار إن الرقابة يراقبها مجتمع يصير أكثر محافظة يوماً بعد يوم. فرقابة الناس تجاوزت رقابة الدولة على حد قول علي أبو شادي الذي يضيف أن " اليوم أصبح الجيش والشرطة والجمهور من يراقب صناعة الأفلام " وليس الرقابة فحسب بل ويبدو أن دورها في هذا المجال انخفض بشكل ملموس في ظل احتلال الأفكار المحافظة جداً والوافدة من بلدان الخليج، لا سيما من المملكة السعودية التي تميزت بتبنّيها للمذهب الوهابي. وليست هذه السينما "سينما" بمعنى الكلمة مما جعل الكاتب داود الفرحان يكتب أن " السينما المصرية التي كانت تسحر ملايين العرب في كل الأرض العربية، برواياتها ونجومها وأغانيها، ما عادت تسحر حتى المصريين أنفسهم" وهذا ما دفع جريدة الوطن إلى تلخيص الأوضاع بجملة وحيدة وهي "فوضى .. وانهيار .. وبحث عن طوق نجاة" . هل ماتت السينما في مصر ؟ لم يتردد المنتجون في إعلان موت الفن السابع المصري إذ أخذوا يستثمرون في الدراما التليفزيونية أو المسلسلات الإذاعية، فهل هناك في هذه الظروف من يتأهب ليضحي بنفسه لإنقاذ السينما المصرية؟ يبدو أن الأحداث التي تمر بها البلدان العربية تشير إلى العكس. الخلاصة إلى أين تسير السينما المصرية؟ هل تنازل الفنانون عن حقهم في حرية التعبير إلى الأبد؟ هل تستحيل عودة الواقعية وعصرها الذهبي بعد موت المخرجين الذين كانوا أكثر جرأة على غرار يوسف شاهين؟ يقال إن مصر ما زالت تضم الفنانين القادرين على متابعة عمل صلاح أبو سيف أو يوسف شاهين مثل يسري نصرالله الذي برهن عبر أفلامه التي تعالج قضايا شائكة وتقنيته السينمائية الرائعة أنه قادر على تقديم أفلام ذات جودة فنية واضحة. ومع ذلك يمكننا أن نتساءل هل سيتمكن هؤلاء السينمائيون من عرض أفلامهم في مجتمع تعوّد مع مرور الزمان على رفض تمثيل الواقع الاجتماعي سواء في الكتب أو على الشاشة البيضاء والسوداء. لقد أصبح جهاز الرقابة عبر تاريخه أقوى بكثير مما كان عليه من قبل. ورغم أن طبيعة دور الرقابة لم تتغير عبر الزمان، غير أن سياستها ما زالت تتكيف مع التيار الأكثر أهمية في الدولة أو في المجتمع. وهكذا تكلفت الرقابة بحماية المصالح البريطانية والاستعمارية الأمنية في مطلع القرن العشرين. إذ اقترنت عمليات الرقابة الخاضعة للاحتلال بدعم دخول الأفلام الأجنبية، مما يتناسب مع سياسة حكم كان يتوق إلى تبني أخلاق الغرب وقيمه للوصول في نهاية المطاف إلى وهم نجاح ثورة صناعية مصرية متطابقة مع الثورة التي شهدتها أوروبا. وهكذا منع جهاز الرقابة هذا إنتاج أو عرض الأفلام التي كانت تنتقد مباشرة الاستعمار أو الملكية. وبعدها دعمت الرقابة الخاضعة لحكم الضبّاط الأحرار وعهد الرئيس جمال عبد الناصر كل الأفلام المؤيدة للقومية العربية والاشتراكية. وهكذا تمكن المخرجون من الخمسينات إلى الستينات من معالجة قضايا سياسية عديدة بشرط كونها تنتقد الحكم الملكي السابق أو الاحتلال دون التشكيك في نجاح ثورة 1952 أو في الأسس الموضوعية للسياسة الاشتراكية. فالحكم آنذاك، على غرار كل الأنظمة التي سبقته والتي تلته، رفض الانتقاد الموجه حيال سياسته.
فجهاز الرقابة في عهد السادات، أي في السبعينات، اعتز بتأييد الأفلام التي عكست أهمية الأخلاق والقيم الإسلامية، ورفض الأفلام المثيرة للجدل أو التي تتناول القضايا الاجتماعية الساخنة، مما دعم بروز نوع من "الاتجاه النظيف" في صناعة الأفلام، بينما كان المواطنون يعتنقون أفكار التطرف الديني الذي مثلتها الجماعات الإسلامية أكثر فأكثر. وأخيراً يأتي عهد الرئيس مبارك. فرغم أن هذا الرئيس استعان بالذرائع الدينية لمنع أو مصادرة الأفلام المنتقدة للحكم بشكل مباشر أو غير مباشر، إلاّ أنه دعم إنتاج الأفلام التي تناولت خطر التطرف الديني. فسياسته المبهمة قد أدت إلى ترسيخ الرقابة وما زالت تتقوى مع مرور السنين إضافة إلى كونها أكثر تنويعاً في مصادرها و أنواعها. ولا نبالغ إذا قلنا إن كل واحد في المجتمع المصري منذ رئاسة مبارك رقيب، من رئيس المجتمع الذي يحل محل الرقباء في بعض الأحيان إلى المارة وصولاً إلى النزعات والطبقات الاجتماعية حيث إن كل هذه الشرائح تخلط الخيال بالواقع. وهكذا حاولنا بهذا التحليل الدليل على أن صعود التطرف الديني حل محل الرقابة الرسمية التابعة للدولة بلا شك، مما يجعل تمويل الأفلام الواقعية التي تهدف إلى وصف الأوضاع الاجتماعية المصرية الدقيق أمراً صعباً وأحياناً مستحيلاً فيما أن منتجي صناعة الأفلام الذين تكبدوا خسائر مادية فادحة بعد منع بعض الأفلام، أو جراء رفض المصريين لمشاهدة الأفلام التي أثارت جدلاً بسبب معالجتها قضايا شائكة، أو جراء القرصنة الإلكترونية أدركوا أن أذواق وإرادات الجمهور تغيرت بشكل غير مسبوق منذ الثمانينات والتسعينات. وقد فضّل هؤلاء المنتجون متابعة اتجاه تجاري يعزّز سلطتهم المالية حيث إن هذه الأفلام الكوميديا السطحية تدرّ الأرباح الهائلة في ظل الدخول الضخم لرؤوس الأموال السعودية لإنتاج الأفلام المحافظة. وفي ظل هذه الأوضاع لم يكن على المخرجين إلا الالتفات إلى التمويل الغربي، مما يعني أن أصحاب رؤوس الأموال المصرية تنازلوا عن إنتاج أفلام وطنية بكاملها. وذلك الأمر يعادل بعض الشيء موت جزء هام من السينما المصرية وخضوع الإبداع للشمولية وقمع الأفكار التي ترفض الحوار والتشكيك في الأيدولوجية التي يشيعها التيار المتطرف. وهذا ما دفع المصريين إلى تبني تصرفات وقيم أكثر انغلاقاً مما كانت عليها في الماضي، وما شجعهم على الحياة في حالة إنكار الوقائع الاجتماعية ومعارضة كل مبادرة لتمثيلها داخل المجتمع بدلاً من أن يطالبوا بحرية التفكير والتعبير الفني. وفي الوقت الراهن، لا يمكن للمجتمع المصري الاستغناء عن الدور الذي لعبته الرقابة التي عرقلت تطوير سينما الهوية وفضلت السينما ذات الطبيعة المزيفة. فالرقابة جعلت المصريين يعترضون على كل الأفكار أو المعايير التي تندمج في إطار مختلف تماماً عمّا اعتادوا عليه. وما دامت السينما المصرية لا تحدّد هويتها الخاصة ولا تعكس واقع المجتمع المصري، فلسوف تبقى معزولة عن الشعب المصري. لكننا يمكن أن نتساءل في ظل صعود تيار الإسلام السياسي، هل ستتحسن الأوضاع ؟ وهل ستستطيع السينما المصرية تحقيق ثورتها؟.. إذ يقال إن العصر الذهبي للسينما المصرية ذهب مع نهاية الستينيات من القرن العشرين.. ولا أحد يعلم ما إذا كان سيعود.