كنت ولازلت من المهتمين بعلم اللسانيات، وأجد متعة كبيرة في التحليق في فضاءات بعض المفردات اللغوية، والبحث في خصائصها وتراكيبها، لمعرفة درجات التشابه والتباين فيما بينها، شاءت الصدف أن أجتمع في يوم من الأيام بالأستاذ الدكتور (سامي الديراوي)، وكنا نتحدث في موضوع آخر عن تطابق السلوك الفطري العام عند الحيوانات (آكلة الحشائش)، وتوحدها في رفض تناول أوراق النباتات المنتجة للثمار والأزهار والعصارات المخدرة، فتطرقنا إلى قطعان الماعز المعروفة بشراهتها في ابتلاع أوراق الصحف وأقمشة الملابس وأكياس النايلون، لكنها على الرغم من شراهتها لا تقترب من نباتات الخشخاش، وتتجنب قضم أزهار الأفيون، وكأنها تدرك سلفا خطورة الإدمان على المخدرات، وتتجنب الوقوع تحت تأثيرها، ثم تحدثنا عن الخصائص العجيبة لشجيرات الأفيون والقنب، وقدراتها في النمو والتعايش حتى في الأوساط البيئية غير الملائمة، فهي شجيرات شيطانية تنبت في كل أرض، فقال لي الدكتور (سامي): أتدري ما اسمها باللغة الهندية؟ أنهم يسمونها: (بنا هيا)، أو (بلا هيا). وهي كلمة عربية الأصل، تعني (بلا حياء) للدلالة على وقاحة هذه النبتة وشذوذها. أضاف لي معلومة في غاية الأهمية عن (مملكة الحشاشين) التي كانت تغذي أتباعها بالحشيش والمخدرات، وتجندهم لتنفيذ الغارات الانتحارية التي كانت تستهدف تصفية الخصوم والأعداء من الملوك والوزراء والقادة عن طريق الاغتيال، و ان كلمة (Assassin) الانجليزية، وتعني الاغتيال خلسة أو غدراً، اشتقت من عقيدة جماعة الحشاشين التي مارست الاغتيالات السياسية والعسكرية والدينية على نطاق واسع في القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلاديين. استهوتني فكرة التعمق بالبحث في هذه المرحلة الغامضة من تاريخنا، وقررت مراجعة ما كتبه (برنارد لويس) عن الحشياشين، و (أصول الإسماعيلية)، وما كتبه الغزالي عن فضائح الباطنية، ما كتبه ابن الجوزي في (المنتظم)، فعرفت أن الحشاشين ينتمون الى طائفة اسماعيلية نزارية، تمردت على الأنظمة السائدة آنذاك، لتدعو الى إمامة نزار بن المستنصر بالله الفاطمي، وأن مؤسسها هو (الحسن بن الصباح)، وهو عربي تنحدر أصوله من اليمن من (حميّر)، وكانت ولادته في (قم) الإيرانية، لكنه تلقى ثقافته الدينية في الأزهر الشريف، وكان زميلا في إقامته بالقاهرة لصاحب الرباعيات (عمر الخيام)، و (نظام الملك) الذي صار وزيراً فيما بعد. عاد الحسن بن الصباح الى بلاد فارس بعد إكمال دراسته، ليؤسس نواة جماعة الحشاشين في قلعة حصينة، أطلق عليها اسم (قلعة الموت)، وشيد فيها القصور المزدانة بحدائق ساحرة، تخترقها جداول صغيرة تفيض بالخمر واللبن والماء والعسل، وتملؤها الطيور والأزهار، واشترى العديد من الفتيات الفائقات الجمال، فأسكنهن القلعة، وجلب لهن من يعلمهن فنون الشعر والرقص والغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وعلمهن فنون الإثارة والمداعبة الجنسية، ووضع معهن طائفة من الغلمان المرد الحسان، ثم توسع في تشييد عشرات القلاع على النمط نفسه، مثل قلعة (تعليم العقاب)، و (قلعة عش النسر). نجح هذا الرجل في تهيئة البيئة الخداعة، وشرع بتشكيل عصاباته الانتحارية، مستقطبا حوله نخبة من الفتية الأشداء، الذين اقتنعوا واهمين بصلاحه، وبقدرته على تأسيس دولة اسلامية قائمة على أشلاء الإمارات السلجوقية والفاطمية الضعيفة، واعتمد في تمويله في بداية الأمر على الابتزاز والسطو المسلح والخطف وقطع الطرق، وكان أتباعه يطيعونه طاعة عمياء الى درجة العبادة، وينفذون أوامره على الفور، ولا يترددون في الانتحار وقتل أنفسهم إن طلب منهم ذلك. كان ولاؤهم المطلق له مرتبطاً بأساليبه الخبيثة الملتوية في تدريبهم وإعدادهم وتهيئتهم، أساليب تعتمد على التشفير الذهني للعقل البشري، وترتكز على خطوات غسل الأدمغة، والتلاعب بعقول الفتية لتحقيق غايات وأهداف مخطط لها مسبقا. ويكمن سر هذا الولاء في جرعات الأفيون، التي كانوا يحصلون عليها، ثم يجري نقلهم بعد تخديرهم الى المخادع السرية في فردوسه المخملي، يجدوا فيه ما لذ وطاب من ملذات الدنيا وما تشتهي الأنفس، فيوهمهم انه أرسلهم إلى الجنة السماوية، التي يزعم أنه يمتلك مفاتيحها، فيشاهدون بأم أعينهم الجنان التي تتراقص فيها الحوريات البلوريات العاريات على أرق الأنغام وأعذبها، فيستمتعون برفقة الجواري الحسان حتى يغمى عليهم تماماً، ثم يعادون الى ديوان زعيمهم ليطلب منهم بعد الإفاقة، إن أرادوا خلدواً في الجنة التي أذاقهم جزءاً من نعيمها، أن ينفذوا ما يطلبه منهم. فدربهم على فنون القتال الأعزل، وعلى استخدام الأسلحة الجارحة، ولاسيما الخناجر المسمومة، وعلمهم على أساليب الخداع والتمويه والغش والاختباء والتخفي بثياب المتصوفين والدراويش والشحاذين، والتسلل بين صفوف المصلين، وكانوا ينفذون عمليات الاغتيال المنظم بسرية تامة، ويقتلون أنفسهم إن وقعوا في قبضة الخصم قبل أن يبوحوا بكلمة واحدة. ذكر ابن الجوزي في (المنتظم) حكاية مفادها أن زعيمهم الحسن بن الصباح التقى بمبعوثين من خصومه السلاجقة، وكانوا يطلبون منه التوقف عن دعم العمليات الانتحارية، والامتناع عن الاغتيالات السياسية، والرجوع عن دعوته، فرد عليهم بواقع حال فدائييه، الذين أذاقهم نعيم فردوسه، فاستدعى اثنين من فدائييه، وقال لأحدهم: هل تريد العودة الى الفردوس والخلود فيها؟ أجاب الفتى: أن نعم، فقال له اذهب الى أعلى البرج وألق بنفسك الى الأرض، فانطلق الفتى برغبة طافحة، وجذل ظاهر، وارتقى البرج، وقذف بنفسه الى الأرض، فوقع ميتاً، ثم التفت الى الفدائي الآخر ملوحا بالفردوس، وسأله: ألديك خنجر؟ فأجاب: أن نعم، فقال له اقتل نفسك، فانتزع خنجره وغرسه في عنقه، وفار دمه، ثم خر صريعاً. عندها قال ابن الصباح للمبعوثين: أبلغوا من أرسلكم أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا مبلغ طاعتهم. كان الحشاشون يشكلون طائفة من الفدائيين الانتحاريين والقتلة المحترفين، نشروا الخوف والرعب والفزع في العالم الاسلامي، وكان شعارهم في بعض مراحلهم: (لا حقيقة في الوجود فكل أمر مباح)، فانخرطوا في الفسوق والآثام والرذيلة، واسموا أنفسهم (المتطهرين). اضمحلت نشاطات الحشاشين في القرن الثالث عشر الميلادي، لكنها لم تمت نهائيا، وكانت تتفجر بين الحين والآخر، كما الفقاعات فوق سطوح الأحداث السياسية التي مر بها تاريخنا الطويل، ولم تعد خططهم الانتحارية مقتصرة على الفرقة الاسماعيلية النزارية، خصوصا بعد أن تبنتها عدة تنظيمات إسلامية متطرفة في شرق الأرض وغربها، وظهرت علينا مجامع من المتعصبين، الذين أعجبتهم أساليب الحشاشين الانتحارية، فقروا تكرار تجربتهم، وانتهاج الطريق نفسه، ظهرت علينا اليوم نماذج مستنسخة من الحسن بن الصباح، نماذج مخدرة بأقراص المودراكس، متنكرة بجلابيب جديدة، متمنطقة بالأحزمة الناسفة، متسلحة بمسدسات كاتمة الصوت، متأبطة مجموعة من العبوات اللاصقة، ليقفوا في الأسواق ساعة الذروة، فيفجروا أنفسهم وسط الزحام تحت تأثير المخدرات القوية، واهمين أنفسهم بأنهم سينتقلون مباشرة الى الفردوس، مع علمهم المسبق بأنهم سيتسببون في إزهاق أرواح عشرات الناس الأبرياء، وظهرت علينا فتاوى تجيز للمكلفين بتنفيذ العمليات الانتحارية تعاطي المخدرات وأقراص الهلوسة، وشاهدنا دولا محسوبة على الإسلام تخصصت بزراعة الأفيون والهيروين والماريغوانا والترياق في سهولها ووديانها وعلى سفوح جبالها، بل إنها تصدرت قائمة الدول المنتجة والمصدرة للمخدرات في الوقت الذي ما انفكت تتظاهر بإسلامها المتطرف المتعصب المتشدد. نقول لهؤلاء ولغيرهم، إن الإسلام ارفع من أن تلوثه هذه العقائق الانعزالية الشاذة الغارقة في أوحال المخدرات، وأن رسالة الإسلام كانت ولاتزال من أسمى الرسالات السماوية الداعية الى صفاء الذهن وسلامة الروح والجسد، والداعية الى نقاوة القلب، ونظافة النية والسريرة، وأكثرها تضمنا للمبادىء الفاضلة والأخلاق الحميدة العظيمة، وأشدها رفضا للممارسات الوحشية المنحرفة، والأساليب الإجرامية الغادرة، فالمسلم من سلم الناس من يده ولسانه، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.