من الصعب التفكير في الموت حين النسيان. ومن الصعب إعادة ترتيب كتب الراحل في المكتبة، كأنك لا تريد التواطأ مع الكتابة في حالتها الظرفية. ربما لأن ظرفية الموت بماهي نسيان للذات. توثر ما قد لا تستقيم معه الكتابة في مجال لا تستطيع بمفردك محاصرة أسئلته وآفاق المجالات التي يطرقها هذا المفكر. نعني بذلك أنه من الصعب متابعة أسئلة محمد أركون التي واكبها طيلة خمسة عقود، فكيف يمكن إعادة قراءة ماخططناه سلفا في ظرفية محزنة. ظرفية تعيد السؤال الثقافي العربي إلى بدايته. أو بالأحرى تعيد السؤال الأول في الثقافة العربية إلى نقطة الصفر. إنه سؤال افترضه الراحل محمد عابد الجابري في مقدمة مشروعه الفكري. أي لماذا فشل العقل «الفكر الفلسفي» ونجح الفقه في العالم العربي؟ أو بلغة محمد أركون بهيمنة «الجهل المقدس». إن هذه الإحالة البرقية تفيد غربة المفكر العربي في محيطه الثقافي العام. بل أكثر من ذلك، فالاشارة إلى كتب هذا المفكر أو ذاك تشكل في دلالاتها البعيدة بما يسمى عادة «الواحد المتعدد»، كأن موت المفكر محمد أركون هو نهاية مشروعه الفكري. هل هذا يعني انفصال أم اتصال في هذا المشروع الكبير؟. لنتأمل هذه الإحالة جيدا، ولنقل أن المشروع الفكري لمحمد أركون لا يمكن أن نعتبره مشروعا فرديا. وإن كان الأمر كذلك. بمعنى أن محمد أركون يحمل معه عربات مختلفة ومنفصلة في المقاربة والمعطى، لا يوصل بينها إلا ذاك الوعي الاستراتيجي الموسوم بالخلخلة والتفكيك. كأن الرابط بين القضايا الموجودة في تلك العربات هو خلخلة البداهات التي تؤسسها. وتفكيك السلطات الثاوية خلفها. إن هذا الأفق الاستراتيجي يتيح لقراء محمد أركون، أن يجدوا أنفسهم في توتر متصل، توتر الأسئلة المتناسلة، بل والمولدة من أسئلة ابستيمولوجية. تضع المفهوم يحيا داخل سياقه العام. لهذا يقدم المفهوم بين مزدوجتين كأنه يضيف لقارئه حرفة التوليد والبحث والتمحيص. إن استراتيجية مفكرنا لا تعطي الإجابات النهائية، ولا تتوخى أمن وطمأنينة متلقيها، ولا ترغب في الاستهلاك والامتلاك البسيطين... ولا تصاحب قارئها إلى منطقة الجهل المقدس، بل إنها تستدعي قارئا يمارس معه الحفر في مناطق ظلت إلى حد قريب لا مفكر فيها. إنها استراتيجية تروم بقارئها أن يكون منفتحا، ومتفتحا على مقاربات علمية جديدة كاللسانيات والسيميائيات والأنتروبولوجيا والبنيوية ونظريات الخيال والتحليل النفسي، وتحليل الخطاب.. الخ. ولأن الأمر كذلك، فالمفكر محمد أركون ينبه قارءه إلى تجديد أسئلته وعدم الركون في الدغمة والبداهة، إنه يمارس شكلا من أشكال تفجير وخلخلة تلك البداهات التي تسترنا دون الانتباه إلى النتائج سنرى ذلك بشكل كبير في المشروع الذي أسسه منذ أكثر من أربعة عقود، مشروع نقد العقل الإسلامي. لايتحدد العقل بمعناه العربي ولا حتى بمعناه الفلسفي التقليدي، وإنما الذي يهمه من مفهوم العقل هو الكيفية التي ينتج بها العقل الإسلامي آليات تفكير في جميع مستويات هذا التفكير. ولأن الأمر كذلك، فإن مفهوم العقل لا يستقيم إلا حين ربطه بتحديد المجال المعرفي الذي يؤطره، وهذا ما يشكل اختلافه مع الجابري، وحتى مع عبد الله العروي في كتابه «مفهوم العقل». لنحتفظ بهذه المقارنة إلى فرصة أخرى، ولنتأمل العلاقة بين مفهوم العقل والمجال الابستيمي الذي يتحرك داخله، لا للبحث عن عقل مفارق، خالص ميتافيزيقي، بل في العلاقة التي تربط العقل بمفاهيم أخرى كاللاعقل، الخيال، الذاكرة، بمعنى أن العقل ليس نقيضا مطلقا للاعقل، بل إنه يتداخل معه ويتعايشان. يرى مفكرنا في هذا التداخل، سوف أضرب على ذلك مثلا الحسن البصري. هل يمكن القول أن الحسن البصري كان يستخدم عقلا خالصا منفصلا عن كل علاقة بالخيال. خياله هو بالذات، أم منفصلا عن ذاكرته؟ بالطبع،لا. وما الذي يملأ ذاكرته؟ ماهي المعارف السابقة التي تجيء لكي تملأ ذاكرته والتي تجيء لكي تقدم للعقل، عقله هو بالذات، عناصر يشتغل عليها؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي ينبغي أن يجيب عنها التحليل النفسي. هاهنا يضعنا محمد أركون في مجال ملغوم بأكثر من سؤال - لغم يفجر الذات القارئة، أكثر ما يفجر الموضوع. فنحن - بلغة أركون أمام عقول متعددة، فعقل الحسن البصري ليس هو عقل ابن خلدون، وعقل هذا الأخير ليس عقل طه حسين وهكذا ذواليك. وهو بنفس الصيغة يطرح على سبيل المثال المناظرة بين محمد عبده ورينان، فمنطلق كل واحد منهما يختلف عن الثاني مثلما هو الأمر تقريبا، ولو بشكل ضمني بين المجال الذي يشتغل به محمد عابد الجابري والمجال الذي يفكر داخله محمد أركون. ليس في المنطلقات النظرية فحسب، بل فيما يؤسس تفكير كل واحد منهما، وقد نخلص في الأخير أن الجابري يفكر ويتحدث بلغة الشرق، بما يحمله هذا الشرق من ترسانة إيديولوجية وفكرية تشكل الوحدة إطارا وضمانا لها، بينما محمد أركون لا يفكرفي الشرق إلا عبر إحراق وتأزيم شرنقته، أي من خلال حوارمنفتح داخل الغرب ذاته، وبلغة أخرى تفكيك خطاب الهيمنة الذي يشكل حدود الصراع بينهما. لا غرابة إذن أن ينعت محمد أركون بالمعتزل أو بإضافة التوحيدي ومسكويه وابن رشد وفولتير وفوكو أسماء أخرى لاسمه. قد تكون تلك الإضافة الإسمية نوعا من البحث عن المعنى الذي ينفلت كلما اقتربنا منه، بل وتجد العلاقة بين محمد أركون والأسماء الأخرى إمكانية التصديق رغم الاختلاف الكبير بينهما. فلا يعني جرأة محمد أركون في تطرقه للقرآن الكريم بالبحث والتحليل، باعتباره حادثة تاريخية، واعتباره معتزليا، لأن المعتزلة قالوا «بخلق القرآن». إن أهمية أركون في نظرنا تكمن في الجرأة العلمية التي يتصف بها، لنقول هل ستكون الجرأة - بماهية كذلك - لو كان يفكر بالمنطق المشرقي؟ قد نقول لا، وقد نقول، ربمال إن سؤال التنوير لازال مطروحا في راهننا الفكري، بماهو سؤال يفترض الخلاص من البداهات، بل يفترض إبعاد وتأزيم الأصوليات القاتلة. تلك هي المهمة التي نرغب جميعا التفكير فيها وممارسة الأسئلة عليها، بل والمشي على طريقة محمد أركون الذي يرى ماقاله نيشه لحظة ما.«آه يا أيتها الحقيقية، يا أكبر كذبة في التاريخ».