إن الوضع الوجودي للإنسان، هو في العمق تعبير عن عجزه أمام الموت الذي يعصف به، و يغير كل شيء، لذلك أدرك الشاعر منذ البداية أن المنية أمر محتوم، لا مفر منه ، يقول طرفة : لعمري إن الموت ما أخطا الفتى ** لكالطول المرخى و ثنياه باليد و تمنى الشاعر تميم بن مقبل لو أن الفتى حجر، إن رؤية الشاعر تبرز أن الحياة هشة، سريعة الانكسار1. فنظرة الشاعر الجاهلي للموت في الأعم هي نظرة تحكمها علاقته بالطبيعة ، لأنها مجال بحثه و تجاربه ، فالسيف و الفرس و البطولة و الخمرة و المرأة هي سلاحه لمقاومة الموت في انفتاح الطبيعة أمامه «... فالشاعر يعيش في جدل مع الطبيعة المتموجة كالرمل و مع الدهر القاهر ».2 أما الشاعر العربي المعاصر في ظل التجربة التي يعيشها ، تجربة الهزائم و الإخفاقات المتوالية ، من الخليج إلى المحيط ، هذه الإخفاقات ولدت لديه هذا اليأس و الاغتراب و الحزن الذي ميز الشعر العربي المعاصر، هذه المعاناة أثمرت « تجربة الموت و من هذه المعاناة بدأت تتولد في أعماقه معاني الولادة و التجدد و البعث » 3 و بالعودة إلى المنجز الشعري المعاصر سندرك كيف شكل الموت هاجسا شعريا في تجربة الشعراء وهو عندهم لا يعني الاستسلام و الانهزام بل تحمل مسؤولية الحياة 4 فالصورة التي يقدمها لا تتسم بالسقوط و الفناء، إنه الموت حين يتجدد و يبعث على الحياة كما الحال في قصائد الشعراء الرواد مثل ادونيس و خليل حاوي و السياب و نازك الملائكة و أمل دنقل.. وإن اختلفت الرؤية الفنية فإن الموت لا يخرج عن معاني التجدد و البعث و الانتصار و الحياة . يقول السياب : أود لو غرقت في دمي إلى القرار لأحمل العبء مع البشر و ابعث الحياة ، إن موتي انتصار 5 و ادونيس حتى في موته قادرعلى الاستمرار و أن يمنح للأرض الخصب : جامع ، احتضن الأرض كأنثى و أنام . 6 يقول لأمل دنقل : ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة ابدْ. 7 و نازك الملائكة نفسها لا ترى في الموت سوى الحياة ، فحفارا لقبور يكد في عمله لكي تستمر حياته ، و حين يموت ، هناك من سيحفر قبره: طالما حفرا في التراب / حفرا في الضباب ربما حفرا في شحوب الخريف / طالما شوهدا يحفران / و هما الآن فوق الثرى ميتان 8 هذه نماذج تبرز كيف نظر الشعراء العرب المعاصرون للموت ، و سنركز في هذه الورقة على رؤية الشاعر محمود درويش و من خلال قصيدته « جدارية » . أولا لأن هذه القصيدة كتبها درويش في لحظة كان إحساس الشاعر بالموت كبيرا ، في فيينا عندما أجرى عملية جراحية على القلب . ثم شهادة الشاعر حول هذا النص حين يقول« إذا كان لا بد من تخليص فلتكن جدارية .. لقد كنت أرشح هذه القصيدة لتكون هويتي الشعرية » 9 ثم ما كتبه الشاعر إلى صديقه سميح القاسم في إحدى رسائله يقول « سافرت من الحياة إلى الموت في فيينا و عدت من الموت إلى الحياة.... اخترقت غابة من المسامير صدري..ذابت طاقتي ..وحين أعادوني من نشوة النوم إلى عذاب اليقظة... لقد أعادوني من الموت الذي استمر دقيقتين..أعادوني من النشوة إلى الوجع أهذا هو الموت ؟ ما أجمله ! أهذا هو الفارق بين الحياة و الموت ما أكبره.!....لقد أزعجوني في نومي الأبيض.. » .10...لهذه الاعتبارات تشكل هذه القصيدة – الديوان- واحدة من أجمل ما كتب درويش. إن درويش في هذا النص كان يتهيأ للموت ، لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية : لا شيء يبقى على حاله/ للولادة وقت و للموت وقت/ و للصمت وقت ..... و لا شيء يبقى على حاله... كل نهر سيشربه البحر 11 لكن الموت عند درويش هو موت مادي ، فيزيائي ، الموت لا ينال من الإنسان سوى الجانب الطيني منه ، أما روح الأشياء فهي قادرة على مقاومة الموت و هزمه، إن الموت الذي يخشاه الشاعر هو موت القصيدة لديه بمعنى عجزه عن الإبداع و موت قدرته على الكتابة ، لأن خلود الأثر الأدبي هو القادر على مقاومة الموت : ألديك وقت لاختيار/ قصيدتي . لا . ليس هذا الشأن شأنك / . أنت المسؤول عن الطيني في البشري ... هزمتك يا موت الفنون جميعها.... 12 إن تجربة الموت عند الشاعر هي تجربة عميقة،لأنه مات لدقيقتين و رأى ما رأى ، ليعود إلى الحياة ، ليعود إلى الوجع و الألم، لذلك تساءل لماذا أعادوني من النشوة ؟، فيصبح الموت هو الحياة، و الحياة هي المعاناة. من هنا يبدو هذا الاستعداد للموت، وهذا الترتيب للرحيل، ترتيب الجنازة، و تأبين نفسه بنفسه، دعوته للموت بالانتظار ليتمم هذه المراسيم ، ثم وصيته الأخيرة : . أيها الموت انتظرني خارج الأرض ، انتظرني في بلادك .... فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش 13 وفي وصيته يستمر هذا الخلود و الأمل حتى في الموت : لا تضعوا عل قبري البنفسج فهو زهر المحبطين / ضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت / وبعض شقائق النعمان 14 و الشاعر في موته المؤقت يصادف هذا الخلود الذي يسعى إليه، اقصد خلود قصيدته في الذاكرة الإنسانية كما احتفظ التاريخ بنصوص الشعراء و الكتاب الكبار، وفي غيبوبته يرى : رأيت ريني شار / يجلس مع هيدجر على بعد مترين مني / رأيتهما يشربان النبيذ و لا يبحثان عن الشعر .............................................. رأيت المعري يطرد نقاده / من قصيدته لست أعمى / لأبصر ما تبصرون 15 بل إن الشاعر في انتصاره على الموت يشكل صورة مأساوية و سوداء له ، كاشفا عن ضعفه، لأنه لا يعيش حياته كباقي الكائنات و في جبروته لا ينال إلا من الجسد و من براءة الطفولة ، أما الكتابة التي تخط على الصخور و على الورقة فمصيرها البقاء ، إننا نكتشف هذا التشفي و الاستهزاء في مواجهة الموت : كأنك المنفي بين الكائنات/ ووحدك المنفي / لا تحيا / حياتك . ما حياتك غير موتي لا تعيش و لا تموت . و تخطف الاطفال من عطش الحليب الى الحليب 16 هكذا يعري درويش عن جبن الموت، عن ضعفه و عجزه أمام الخلود، خلود الآثار المادية و المعنوية، لذلك يستحضر عناصر عديدة ، مسلة المصري ، مقبرة الفراعنة ، بلاد الرافدين ، طرفة ، المتنبي ، أبي العلاء ، هيدجر،أيوب..لأنه يرى نفسه فيها، و عليه أن يغتنم الفرصة في حياته كما فعل طرفة حين يرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة، و الموت آت لا محالة ، فهو يشبه الحبل المرخى : يقول طرفة بن العبد أرى العيش ناقصا كل ليلة و ما تنقص الأيام و الدهر ينفد و لعمري إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى و ثنياه في اليد 17 الشاعر وحده عايش تجربة الموت عن قرب ، و أدرك حقيقته ، ليكشف هذا الضعف ، في فيينا ، عندما كان في المستشفى ، حيث البياض هو البياض ، هذا اللون يأخذ معنى مناقضا لحقيقته في زمان و مكان الشاعر : كل شيء أبيض / البحر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء. و اللا شيء أبيض في / سماء المطلق البيضاء/ كنت و لم أكن . فأنا الوحيد في نواحي هذه الأبدية البيضاء 18 واسم الشاعر لا يتغير ، كل شيء واقعي ، فهو لا يحلم وهناك من يذكره باسمه :
هذا هو اسمك / قالت امرأة / و غابت في الممر اللولبي.. لم أحلم بأنني كنت أحلم .كل سيء واقعي 19 إن المتأمل لهذا النص سيدرك الملامح الكثيرة، و الإشارات التاريخية و الأسطورية و الدينية... التي يحفل بها الديوان وهي عناصر تتداخل لتفصح عن مقاومة الموت و السعي نحو الخلود مثل جلجامش ، أدونيس ، أنكيدو ، تموز، المسيح... و يشكل القاموس اللغوي في معلقة درويش – جدارية- معجما يستقي من الحداد و الموت عالمه الخاص ، و يجعل من الموت بؤرة دلالية أساسية ، فلا عجب أن تتكرر كلمة الموت و مشتقاتها خمسة و خمسين مرة في هذه القصيدة، بالإضافة إلى كلمات أخرى تحيل على الموت: الفناء، التابوت ، الجنازة ، الكفن ، القيامة ،، الأطلال، القبر، العدم ،الغياب ، الآخرة ، الرحيل ، النهاية .. و خلاصة القول إن محمود درويش يقف من الموت موقف المنتصر المتشفي الذي يكشف جبنه و ضعفه و مكره «.. و بذلك تكون الذات الشاعرة قد حققت نصرا رمزيا و هي تواجه عدوها الميتافيزيقي... » 20 إن درويش لا يعيد الحياة لموته من خلال البعث و الانتصار كما فعل الشعراء التموزيين – السياب ، ادونيس، حاوي – منبهرين بالأساطير القديمة ، و إنما وجوده أمام الموت هو مصدر إعطاء معنى للعالم 21 من خلال خلوده الرمزي ، و بالتالي حياة و خلود المجتمع الفلسطيني و مقاومته للموت – إسرائيل- حيث يتحول الضمير- أنا -إلى الضمير- نحن - : ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا ، فنحن قادرون على التذكر قادرون على التحرر ، سائرون على خطى جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن 22 . هذه لمحة تبرز مفهوم الموت من المنظور الدرويشي و هي نظرة تحكمها معاناة الذات المبدعة ، التي اكتوت بحرقة الكتابة و مرارة المنفى و سعت إلى الخلود عن طريق الإبداع ، نص ديوان جدارية سيظل خالدا في ذاكرة الإنسانية الشعرية كما احتفظت المعلقات ببريقها ، و ظل طرفة و امرؤ القيس وغيره حاضرا بيننا، لذلك نقول إن فداحة الغياب يقابلها ألق الحضور....