1 أبواب المعنى المقفلة أو البلاغة السوداء يخلق شعر محمد السرغيني في نفس القارئ توترا وقلقا ناتجين عن صعوبة ولوج المعنى، هذا الكائن المختفي، المنزلق بين صلب القصيدة وترائبها. إنها كتابة مزعجة، مؤرقة، ترمي بك في ضائقة المعنى، في تأبيه ونفوره الشديد من الانقياد لنزوات القارئ الذي تعود التلذذ والانتشاء بكتابات مطواعة. بلاغة سوداء تمتلك القدرة على استفزازك وتوتيرك ونفث القلق بداخلك. سوداء من حيث أنها تنتشلك من طمأنينتك وثقتك التي تأتي متسلحا بها كلما تجهزت للغارة على نص أو كتاب، ترمي بك في البلبلة وفوضى التفكير، وتجعلك تسائل معرفتك سواء المكتسبة أو الحدسية: إلى أي حد أنت أهل للولوج الى هذا العالم الملغوم، المستفز، المولع باللعب والمراوغة؟ كتابة ذات صفات ميدوزية، إذا لم تفطن لسحرها سلبتك قدرة الفهم والتأويل، وحولتك الى حجارة، لا تعي ولا تفقه ما تقرأ وترى. تتأسس الكتابة الشعرية لدى محمد السرغيني على شعرية الغموض، وتنبني صورها الشعرية على الجمع بين الأطراف المتباعدة، ذات الصلات العقلية والذهنية لا الحسية، لذلك يجد القارئ صعوبة قصوى في فك طلاسم الكتابة. يجد القارئ نفسه أمام كتابة شعرية تنشد الفرادة والتميز والاختلاف عما هو سائد في الساحة المغربية والعربية، على مستوى الصيغة، لكن على مستوى الآفاق فإن الكتابة الشعرية لدى محمد السرغيني تتفق مع كتابات شعرية أخرى اتخذت من الصوفية توجها صريحا يغلب المعرفة القلبية على العقل، أو أنها تستوحي لغتها الشعرية من المتصوفة، من هنا تأتي صعوبة التقاط معانيها إذا ما لجأنا الى العقل في تفسيرنا، لأنها أصلا تثور على الواقع الملموس الذي يدجنها ويجعلها تتكيف مع الواقع المادي. إنها واقعية من حيث كونها تتجاوز هذا الواقع وتشير الى الجوهري والباطني في عالم المظاهر والماديات المتحجر. هذا الهيام بالمجهول واللامرئي يتضمن هدما لأشكال التعبير التقليدية الباردة، التي هي الأخرى تتلون بدم التجربة وتصطبغ بدماء الرؤيا المتجددة. 2 الكينونة، التكون، والكمون. 2 - 1 - في ديوانه (ويكون إحراق أسمائه الآتية) تتجلى لقارئ محمد السرغيني مجموعة من المكونات التي يمكن اعتبارها الدعامات الأساسية لشعرية محمد السرغيني، أول تلك المكونات فعل «الكينونة» وبه يفتح الشاعر الديوان، إذا ما اعتبرنا العنوان عتبة أساسية في كل كتابة، أو أن العنوان مختزل ومختصر قول الشاعر. «يكون» فعل مضارع ناقص يدل على الحال والاستقبال كما يؤكد على ذلك النحاة. أي أن الحركة التي يرصدها الشاعر في ديوانه تقف عند حالة / لحظة تخلُّق الاشياء. وهي لحظة قد تبدو سكونية ومحدودة لا استمرار لها، وتبدو معزولة عن اللحظة السابقة عليها واللحظة المستقبلية، أي أن الشاعر يقف عند لحظة التخلق الأولى، لحظة الظل، اللحظة الجنينية، وهي لحظة الوجود بالقوة بالنسبة للإنسان عامة، لكنها لحظة للوجود بالفعل بالنسبة للشاعر. فلحظة التخلق والوجود الفعلي للأشياء في بذراتها اللامرئية، اللاحسية أساس كل وجود حسي ومرئي بعدي والشاعر، ومن تم محمد السرغيني يقف عند الاشياء الجنينية حيث تتعدد الكينونة الفعلية السابقة على الوجود الحسي الجمعي، هذه الملاحظة تقودنا الى اللحظة الثانية أو المكون الثاني الأساس في شعرية محمد السرغيني إنها لحظة التكون. 2 - 2 - فإذا كانت الكينونة مقولة فكرية تحددها الأبعاد الوجود للأشياء والموجودات على اختلافها وتنوعها فإن لحظة التكون هي لحظة التفرغ والتعدد، أو انشطار الواحد (الكينونة) الى المتعدد (الأشياء الموجودة)، كانشطار جنس الإنسان الى نوع الذكورة أو الأنوثة مثلا. في لحظة التكون تأخذ الأشياء أبعادها المميزة والمجددة، يعبر الشاعر عن ذلك باستعارة الارض للرحم واستعارة النبت للطفل. يقول الشاعر في قصيدة «ضائقة الرحم في الرحم»: «جاء من ضربة شمس شهوة دون اشتهاء مثلما ينعقد الكلس الجيني على القطرة في طور التبخر. كان في الأرض زناة أتقياء قذفوا النطفة في شيء شبيه بالأنابيب وهي في المطبخ تجتر الأفاويه وخل المائدة (من أحب البحر فليقرأ من الغمد المحارة). غير أن ضاقت بالمحاكاة ومادت يخرج النبت بإذن وبغيره. وتزيغ القطرات الصادقات ويجيء الطفل منسوبا الى غير أبيه»(1) 2 - 3 - يحتوي هذا النص الشعري على حقول معجمية ترتبط بينها الاستعارة الآنفة الذكر، فنجد مثلا مرادفات الطرف الاول في الاستعارة (الارض، الرحم، المطبخ، الأنابيب، الغمد، المحارة) وكلها عناصر تشترك في مكون الاحتواء أو الاحتضان، كاحتضان الارض للبذور، أي النباتات بالقوة قبل الفعل (الإخصاب)، أو احتضان المحارة للؤلؤة قبل افتضاضها واستخراجها من مكنونها، وككناية الشاعر على الرحم بالمطبخ حيث يتكون الجنسين قبل أن يصبح موجودا بالفعل في الوجود الخارجي الجماعي. والغمد كما في اللغة يحمل معنى جراب السيف. أما الطرف الثاني من الاستعارة فيضم الموجودات بالفعل (الطفل، البنت) ويضم الموجودات بالقوة (الكلس الجنيني والنطفة والقطرات). إن هذه الموجودات المتأرجحة بين الفعل والقوة تدل على التخلق وتدل على لحظة التكون التي يركز عليها الشاعر. 2 - 4 - المكون الثالث نطلق عليه لحظة «الكمون» فإذا كانت لحظة التكون تتخذ لنفسها أبعادا زمانية تقوم على التعدد والامتداد واللااستقرار أي التحول وربما المسخ. وخروج الشيء من حالة الى حالة، من حالة النطفة الى حالة الطفل، ومن حالة البذرة الى حالة النبتة. فإن لحظة الكمون تقف فاصلا بين فضاءين متناقضين، فضاء الداخل الحميم وفضاء الخارج الصاخب، وتماشيا مع شعرية محمد السرغيني ذات المنحى الصوفي، والفرادة، فإن الداخل يبقى ذا قيمة أساسية وأن الخارج انمحاء وفناء، يقول مثلا في «ضائقة الصبا»: «خارج الجلد توارى، داخل الجلد استكان» (2) الداخل حياة متجددة بينما الخارج عائق ضاج، والكمون في هذه القصيدة الشعرية يقف في البرزخ بين الفضاءين، وهو ما يطلق عليه الشاعر المسافة، أي أن المسافة الفاصلة بين الخارج والداخل، يقول في نفس القصيدة محددا الوجود الكامن على الحد الفاصل: «وبعيدا منه طعم الجلبة وقريبا منه صمت الكبرياء»(3) الوجود الكامن يقترب من الصمت والكبرياء ويبتعد عن الجلبة، واللفظتان متضادتان (الصمت والجلبة) كتضاد (الخارج والداخل). إن حالة الكمون حالة ترصد، حالة حياد، وحالة الإقامة في المابين، أي الإقامة الصعبة الساكنة، غير ان «السكون ليس غياب الحركة إنه بالأحرى وحدتها، يمنحها كيانا، يشكل علة وجودها، والمبدع الأول لها. لا بمعنى أنه يخلقها ويقذف بها بعيدا عنه، بل بمعنى أنه يحفظها في ذاتها، الحركة إذن تعتمد على السكون، تتأصل فيه وتضرب بجذورها في أعماقه. فوحده ما يتحرك يمكنه أن يكون في حالة سكون، الذي ليس سوى حركة نفسه داخل حدوده الخاصة» (4). 2 - 5 - نطلق على شعرية الغموض عند محمد السرغيني عنوان «بلاغة الكاف» اعتمادا على المكونات الأساسية التي تكون شعريته الصعبة الانصياع والانقياد وهي كما أوردنا سلفا. أ الكينونة، ب التكون، ج الكمون. والفصل بين هذه المكونات اقتراح و افتراض يسمح لنا بالولوج الى عالم مغلق اختار لغته الخاصة، وأقام صروحه على المؤالفة بين المتنافر في الصور والعوالم. 3 مطلق الموت: تأتي صعوبة قراءة الشاعر محمد السرغيني من مكون تجربة الكتابة لديه مرتبطة بتجربة الموت. تجربة تتعالى على عالم المظاهر بشتى علاقاته ومستوياته وتغرق في عمق التجربة الذي هو الانماء والتلاشي، تجسدهما لحظة الاحتراق والحريق الذي هو عند الشاعر امتلاء وشبع وكمال. يختار الشاعر الموت كإمكانية لمعانقة حياة حقيقية متحررة من موت تجسده الحياة في واقع متردي سمته عدم الوضوح والعقم والعجز يقول في قصيدة «الغائب في شهادته»: وسوف يرتهل عن حالاته ويكظم الغيظ الذي في علبة الكبريت. كم مسافة النكوص ينسى أوله وسوف يرتحل عن مدائن الملح ويشرب نبيذ الله في الصورة والظل، قرب غائم في علبة الكبريت صاح خارج الأسوار (...) لهذه الدفلى الخيار أن تكون زهرة أو أن تكون حِصْرَما» (5). تشكل مدائن الملح الواقع العقيم الذي تنوي الذات هجرانه والرحيل عنه، الملح كاستعارة للعقم وعدم الخصوبة، ويشكل نبيذ الله الشراب الروحي الذي سوف ينقل الذات من حالة الصحو الى السكر والانتشاء والفناء حيث يتم الالتحام والوحدة بين الصورة والظل، بين الخالق والمخلوق. فما على الكائن المجبول من مرارة (الدفلى) إلا أن يختار أحد الوجودين: إما أن يكون زهرة: والزهرة تحيل على اكتمال الخلق وجماله ونضارته أو أن يكون حصرما: والحصرم هنا هو التمر الذي لم ينضج بعد وتقال للعنب قبل نضوجه. فلا يتم الكمال والنضج والنضارة للإنسان إلا بالموت والفناء الذي به تتحول مرارة الدفلى (نقصان المخلوق) الى حلاوة النضج واكتمال ونضارة الزهرة. فالإنسان ينضج ويكتمل بالموت، لأن فيه خلاصه من عالم جوهره التشويش والنقصان، واختيار الموت فيه إيذان بالاكتمال، فالزهرة تحيل الى المطلق والكمال الذي يتحقق باختيار الموت يقول موريس بلانشو: «إذا اختار موته، إذا حقق حريته في الموت، وحرية موته، فإنه أدرك المطلق، وأصبح هو المطلق، بل أصبح بالتأكيد إنسانا، بحيث لن يبقى هناك مطلق خارجه» (6) الموت يشكل انبجاسا وانبثاقا الحياة حقيقية تتعالى على الواقع المادي، وليس اختيار الموت في الوقت المناسب إلا دلالة الاكتمال. فمحمد السرغيني يردد في قصيدة «المشمول بكمون الرماد 6»: «الحريق يجيء على سبع وامتلاء» (7) وليس الحريق إلا نوع من الفناء حسب تعبير المتصوفة، تطاله الذات التي أحرقت وأنهكت فيها كل الوجودات الزائفة المشوشة وحلقت نحو مطلقها، حيث حريقها واحتراقها دلالة على اكتمالها ونشدانها الخلاص من واقع يوقف شهوتها لتحقيق المطلق الذي يوجد في الموت، لا يمكن أن تكون بداية من غير نهاية إلا بإحراق الوجودات الحاضرة والآتية، لأن أمل الانتهاء هو في عمقه رغبة في الابتداء يقول الشاعر في «المشمول بكمون الرماد» (2): «وأول ما أينعت فيه جثته طمثت فاستعار لهاه جسدا حيا» (8) من يعشق موته يدرك أن هذا الموت يستبطن عنفوانا وطاقة الخلق والبداية. حين يكتمل الموت تينع الجثة، وبيناعتها يتحقق نضجها فتطمث، والطمث استعارة للنضج، الطمث يدرك الصبية التي اكتملت أنوثتها. والنضج الذي يهبه الموت إيذان بولوج حياة حقيقية تتحقق بعد الموت. من يختار موته يعرف جيدا أن وراء الموت حياة. وحده الموت يجدد شرايين الحياة ويذكي اشتعالها ويهب للجثة جسدا حيا، «الحياة هي الموت، سلبية الموت هي وحدها تعطي حياة للحياة» (9). يقول الشاعر في قصيدة: ضائقة العنفوان: وعظام الشجرة كلفت بالصخر حتى الموت (والصخر انبجاس وانبثاق) آه! غال هو مهر الشجرة (10). ليست الشجرة التي تكلف بالصخر حتى الموت سوى استعارة للإنسان الهائم بموته، والصخر يحيل على التابوت الذي سوف يأوي عظام الشجرة، غير أن الصخر / التابوت. لا يتميز بالجمود كما نعتقد. «بل إن من الصخر لما يتفجر منه الماء» أي الحياة. وليس التابوت إلا عتبة للعبور الى الحياة الأبدية. هل الصخر استعارة لوجه العالم المجهول. كل في الصخر أو الحجر حقيقي كما هو حقيقي الموت. هل كلف الانسان بالصخر / الموت هو في عمقه تعلق باللامرئي والخفي، وجه يخفي عكس ما يظهر الحياة، الانبجاس والانبثاق من قلب حقيقة جامدة يقول إدمون جابس في: «كتاب الهوامش»: كل شيء هو حقيقي في الحجر لأنه يوجد في الموت،[...]، توجد في الحجر الحياة، علاوة على الموت» (11) يشكل إذن كل من الموت والحريق عند محمد السرغيني لحظة انبجاس وانبثاق للحياة الحقيقية، حياة تتميز بالعنفوان والاكتمال لا يشوبها نقصان وتشويش الحياة الارضية، يلتقي محمد السرغيني مع الصوفية في لحظة الانخطاف هاته التي تشكل حريقا هو موت من حيث أنه محو وإفناء لكل تشويشات وأوهام العالم المادي العقيم. ٭ هوامش: 1 محمد السرغيني، ويكون إحراق أسمائه الآتية، منشورات عيون، الطبعة الاولى، الدارالبيضاء 1987 ص20. 2 نفس المرجع ص.21 3 نفس المرجع نفس الصفحة. 4 سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الاولى 1980 ص.269. 5 محمد السرغيني، مرجع مذكور، ص.48. 6 Maurice Blanchot; l espace littéraire; ed; Gallimard; 6 - 1955;p 129 7 محمد السرغيني، مرجع مذكور، ص.40. 8 محمد السرغيني، مرجع مذكور، ص.36. 9 روجيه غارودي، فكر هيغل، ترجمة: إلياس مرقص، دار الحقيقة بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ص.102. 10 محمد السرغيني، مرجع مذكور، ص.22. 11 E;Jabes; le livre des marges fata Morgana; 1975 et 1984; p; 33