العالم بأكمله يتكلّم لغة واحدة؛ إنّها لغة كرة القدم، والتعدّد اللغويّ في هذه الحالة لم تعد لديه قيمة أو جدوى ، فقد وجد نفسه إزاء وضع مغاير، إزاء منافس من العيار الثقيل قويّ، ينتصب أمامه بثقة عالية. ها نحن نعيش في ظلّ الكونية التي بموجبها تكون الأشياء والأحداث حاضرة في مجمل مساحات هذا العالم وجغرافيته الشاسعة. فأيّ حدث يقع على هذا الكوكب يجد صداه في مواقع عديدة وعلى مسمع ومرأى قرى نائية، وفي منازل تتّخذ من منعرجات الجبال موطنا لها. وأيّ اختراع تكنولوجي لا يعي ولادته الأولى يجد نفسه بين أياد غريبة عنه، وأمام وجوه بملامح مختلفة، والسلع التي تمّت عملية تغليفها بالليل تجد ذاتها وراء البحار ومتداولة في اليوم الموالي. الكونية حركة انتقالات وترحال دائم للأشياء والأحداث. لا ألوم مارشال ماك لوهان Marshal Mc Luhan على نبوءته، فرؤيته قد تحقّقت مئة بالمائة. العالم يتكلّم ويتحدّث ويتنفّس ويتغذى كرة القدم وينام على شريطها الطويل ويحلم به طوال الليل. لاغرو أنّ مجال كرة القدم هو المجال الذي تنبثق فيه الثروة، وتتكدس وتتراكم وتتزايد بشكل يثير الانتباه، وتعجز العقول البشرية عن تخيّلها، هو معقل حقيقي للرساميل الضخمة وللاستثمارات الخيالية والصفقات غير المسبوقة على المستوى التاريخي. ينطلق رؤساء هذا المجال الرأسماليون من منطق أنّ الثروة تنتج الثروة، طالما أنّ هناك إنفاقا كبيرا على مستوى نوعية الصفقات، فإنّ ثمّة رغبة أكيدة وواضحة في جلب ضعف ما أنفق إن لم نقل أضعافا مضاعفة. إنّه مجال تتسيّده مؤسّسات كبرى لها تجربة وباع طويلان في الميدان التجاريّ المحترف في أعلى مستوياته، مجال تديره إطارات اجتماعية تنطلق فلسفتها التسييرية من استراتيجيات موضوعة سلفا، تضع مفهوم الربح أفقا ورهانا لها، عليها أن تحقّقه على أرض الواقع. إنّه فعلا مجال لمزايدات ولمغامرات تشكّل السيولة المالية الهائلة أساسه الثابت ومحرّكه الأصليّ الذي لا غنى عنه في مواصلة رحلته الفرجوية المنتظرة منه. في فصول الانتقالات التي يخضع لها اللاعبون يتجلّى الإنفاق والتبديد في شكله الأقصى، هي فصول عنوانها العريض هو الثروة غير القابلة للعدّ. هذا الإنفاق السخيّ وغير القابل للاستقصاء والإدراك لا يتضمّن عنصر البراءة في ذاته، بل هو موجّه بمنطق شديد الصرامة وغائية بادية للعيان، هما جني الربح ولا شيء سوى الربح. ما هي الوسيلة التي تعتمدها هذه المؤسسات ذات التدفّق الماليّ الهائل في استعادة نفقاتها وأرباحها؟ في اعتقادي الشخصيّ أنّ الوسيلة المثالية والممكنة لاسترجاع هيبة هذه المؤسّسات ومكانتها المادية هي القدرة على خلق النجومية. فضمان استمرارية هذه المؤسّسات في الوجود رهين بهذا الخلق، فهي تعتمد اعتمادا كلّيا عليه في البقاء حيّة، وقادرة بالتالي على الدخول في غمار المنافسة التي تتطلّب نفسا طويلا وقدرة على تحمل الصعاب، وهي تعي جيّدا أنّ التخلّي عن هذا الشرط سيزجّ بها في غياهب النسيان والخسارة المرّة. فشرط وجود تلك المؤسّسات يتأسّس على أرضية صناعة النجومية من حيث هي خبرة فردية بالدرجة الأولى، ومن حيث هي آلية متاحة لجني الأرباح والفوائد المالية اللامتناهية. لا نستغرب من الهالة الإعلامية الضخمة التي يخضع لها لاعب كرة القدم أو من يُتعارف على تسميته بالنجم الرياضيّ؛ ومن خلال عرضه على شاشات التلفزيون أو في المجلات المتخصّصة أو غير المتخصّصة، لأنّ هدفها الأسمى هو تقديمه كشخصية عمومية تحظى بقيمة رمزية فائقة وتتحمّل في ذاتها نفحة إلهية تسمو بها في الأعالي، بما يجعلها بالتالي شخصية أسطورية لا يختلف عليها اثنان وتتجلّى فيها السمة الكاريزمية وتتعيّن. هي شخصية انتقلت بفعل الإعلام من كائن مؤنسن إلى كائن مؤلّه لا تعتوره الهشاشة أو النقص. انطلاقا من هذا الكلام، ومن خلال هذا الوضع الذي يوجد فيه هذا النجم، ينتج على إثره لنفسه تابعين ومريدين من كلّ البقاع يسلكون وفق نمط عيشه، ولباسه، وأفضلياته وأولوياته وحتى أحلامه، لا لشيء سوى لأنّه النموذج المثالي. لا يكفّ الجمهور عن مماهاة هذا النجم وتقمص حياته بأيّ شكل من الأشكال، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للكيان الإشهاري الذي فطن بحسّ ماكر للإنسان النجم، هذا الخزّان المتدفّق من الأرباح، لهذا الكنز الثمين غير القابل للحساب ليعمل عمله ويؤدي واجبه على أحسن ما يرام وفي أحسن الظروف. إذن إنّ استعادة النفقات التي جازفت بها تلك المؤسّسات تكمن في الأرباح التي يقدّمها الإشهار لها، وتأتي أهمية النجم في قدرته على تسويق نفسه والاستفادة المباشرة من عامل النجومية من ناحية، ثمّ قدرته على تسويق المنتجات الأخرى من ناحية ثانية، وهذا يتأتّى فقط من خلال لمعانه في عالم النجومية الرحب. إنّ المبالغ التي تخرج من صناديق هذه المؤسّسات الكبرى تروم من جهة صنع نموذج إنسانيّ يحظى بوضع اعتباريّ إن تجرّأت على القول إنّه خارق، ثمّ الاستفادة من عطاءاته وشهرته ومكانته الاجتماعية التي تتميّز بالاستثنائية من جهة ثانية. وما نعاينه هذه الأيّام لهو خير دليل على ما نقوله، فالصفقات التي خاضها النادي الملكي الإسباني ريال مدريد هي بمثابة حدث تاريخيّ يساير فلسفة العصر الراهن من حيث هي فلسفة تحكمها آليات جديدة كلّ الجدّة وتطبعها ميكانيزمات غيّرت من صنوف تحركاتها واشتغالاتها المعهودة، إنها آليات السرعة والتقنية والصورة والإعلام والإشهار. إنها صفقات لم تأت بمحض الصدفة العمياء، بل هي صدفة على دراية بما تقوم به ومستيقظة وحذرة. إنّ استقطاب الجماهير إلى الانخراط الوجدانيّ في قلب هذه النوادي، يتمّ انطلاقا من خلال اقتناءها للنجوم، وتعمل هي على صناعة نجوميتهم لاحقا، فصناعتها للنجومية ترتكز بالأساس على المبلغ الخياليّ الذي تقدّمه لهذا اللاعب أو ذاك، ممّا يبيح للنادي امتلاك الهيمنة الشمولية وحيازته للروح التوتاليتارية على باقي المنافسين، ويحظى بالتالي بمكانة مقدّسة متربّعة على عروش قلوب المتتبّعين العاشقين والمتيمين، والعشق والهيام يتجسّدان في متابعتهم الأمينة لكلّ تحرّكاته وأخباره، هو بمثابة ديانة بالنسبة لهؤلاء الأفراد، الذين لا يتورعون بدورهم عن تقديم القرابين ومراسم الطاعة إليه. ويصل الأمر إلى درجة سلوك هؤلاء الأفراد سلوكا يتّسم بطابع التعصب والشوفينية لهذا النادي أو ذاك، إنّه يشكّل في أساسه ديانة توحيدية بكلّ ما في الكلمة من مدلول، والويل كلّ الويل أن تتجرّأ على إبداء موقف مضادّ لهذا النادي أو التجرّؤ على قذفه بالسبّ والشتم . إن الانتماء للنادي يمثل في جوهره خصوصية الفرد وهويته الثابتة، تتجلى هذه الصيغة الهوياتية في مضمون ضمير النحن، حيث يصيح أنصاره نحن انتصرنا، نحن اقتنينا، نحن الأقوياء إلى غير ذلك من هذا الكلام، إنه ضمير يفصح عن هوية جمعية مشتركة بين أفراد معينين ينضوون تحت لواء جماعة تتقاسم فيما بينها نفس المصير ونفس الرؤية. في ظلّ هذا الحبّ العذريّ للجماهير تجاه النادي، ومماهاتهم مع نجومه الحاملين للنزعة الكاريزمية، يتسلّل الكيان الإشهاريّ ويستفيد من هذا الوضع المثاليّ علما أننا نحيا في سياق المجتمع الاستهلاكي الخالص. ففي بحر النجومية ينتعش التسويق وينمو. والحقيقة التي تفرض نفسها هي أننا محكومون في عصرنا هذا بأشكال جديدة يمثل الإشهار أحد عناصرها الأساسية، فالعالم الذي يتبدّى أمامي الآن يختلف اختلافا جذريا عن العالم الذي يقدّمه الإشهار، وإذا كان اليوميّ أكثر قساوة وفظاظة، فإنّ الإشهار يعمل على تلطيفه وتدجينه ليكون ذا قابلية للعيش فيه انطلاقا من استعماله للعديد من التقنيات يكون الاستيهام أحد أركانها. فالإشهار حسب الباحث المتخصص في السيميائيات سعيد بنكراد يضلّل ويبسّط ويفسد ويقلب الحقائق، فهو يتعامل مع الإنسان باعتباره مجرّد حيوان تطبّق عليه كلّ أساليب الترويض والتحكّم الآلي، والإشهار بالإضافة إلى كلّ ذلك موقف من العالم، من أشيائه وموضوعاته ومن كل ما تعج به الحياة من سلع وخدمات وأفكار وحالات وجودية. فالأشياء والموضوعات والخدمات وأحلام النجوم وطموحات السياسيين؛ كلّها سلع تحتاج إلى تسويق، وهو ما يتكفّل به الإشهار وفق آليات تقود جميعها إلى البيع ثمّ البيع ولاشيء سواه. يعتبر الفيلسوف الهولندي البينيدكت باروخ سبينوزا Spinozaالرغبة بمثابة التعبير المباشر عن ميل الإنسان إلى حفظ وجوده وعن كونه واعيا بهذا الميل، إنها ماهية الإنسان ذاته، وتشمل في ذاتها كل مساعي الإنسان واندفاعاته وشهواته ومطالبه التي يسعى بها إلى تحقيق شيء ما، من هنا كان ارتباطها الوثيق بالماهية الأساسية للإنسان( سبينوزا. للأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، الناشر دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر 2009 ص 208. ( هذه الرغبة المتاخمة لجوهر الإنسان هي المنبع الذي لا ينضب للفاعل الإشهاري ووجهته الأولى والأخيرة، فهو يعمل على إيقاظها وتجييشها وزرع روح الانتعاشة في مفاصلها وضخّ الدم في شرايينها، إنه لا يكتفي بمعطى الرغبة فقط، بل يسعى إلى مضاعفتها حتى تستجيب لشروطه التي تكمن في الهوس بالشراء، شراء الموضوعات التي لا تصبّ في خانة الحاجات الأساسية لحفظ الوجود، بقدر ما هو اقتناء مواضيع غير ضرورية. التقنية، الصورة، الإشهار هي الأقانيم التي تهيمن على حضارتنا الإنسانية المعاصرة، بموجبها ينحت عصر جديد مشمول بطابع التغيير والتغيّر على مستوى العلاقات الاجتماعية بين الذوات الفردية وبين الإنسان والعالم.