قد يكون من المفيد، ونحن نقارب ظاهرة الترحال السياسي في المغرب أن نتحدث عن الفاعل أكثر من الحديث عن الفعل ، أي أن نتحدث عن المترحل أو المتجول السياسي أكثر من الحديث عن فعل الترحال السياسي، وذالك وصولا إلى رسم بورتريه تقريبي لهذا الكائن المسافر بين التخوم الحزبية، والذي لا يستقر في مكان من الأمكنة الحزبية إلا وتأخذه الرغبة مجددا لشد الرحال باتجاه مكان أخر من الخريطة الواسعة المتشعبة للتشكيلات الحزبية. أهمية التركيز على الفاعل عوض الفعل، علاقة بهذا الموضوع، تأتي، في تقديري من ثلاثة اعتبارات: أ?- إن الترحال السياسي، كما مورس عندنا منذ عقدين من الزمن أو أكثر، وكما تكثف خلال السنوات الأخيرة، لا يمت بصلة إلى مفهوم الانشقاق، وما قد يترتب عنه من أفعال تعطيه معان متعددة منها مثلا وصول التناقضات داخل تشكيل حزبي معين إلى مستوى إحداث القطيعة، بكل تبعاتها السياسية والتنظيمية. ب?- إن الترحال لا يحدث في العادة بسبب خصومات ذات بعد سياسي، خصومات معقولة ومعلنة يقرر المترحل على إثرها مغادرة عائلة سياسية تقاسم مع أعضائها القيم والمبادئ وأعطاها من وقته وجهده، فتكون المغادرة نتيجة منطقية لتلك الخصومات ويكون قرار الترحال حاملا معه معنى بحث المترحل عن فضاءات عمل أخرى تعيد له التوازن مع الذات ومع المحيط المجتمعي. ج- والترحال عندنا ثالثا لا يأتي بسبب اكتشاف المترحل، وهو في عز الممارسة داخل حزب من الأحزاب أن المنطلقات المذهبية أو الإيديولوجية لهذا الحزب لم تعد تسعفه في إيجاد الأجوبة الملائمة عن تساؤلاته وانشغالاته وعما تطرحه عليه تحولات المحيط المجتمعي من تساؤلات وتحديات، فيقرر تأسيسا على ذالك الرحيل إلى تنظيم سياسي آخر يراه أقدر على تقديم تلك الأجوبة. وإذن فان ظاهرة الترحال السياسي في بلادنا هي ظاهرة فاعل سياسي،ه أو على الأصح نوع معين من الفاعل السياسي أكثر مما هي ظاهرة فعل أو مسلكية سياسية معقلنة، ومفكر فيها، مسلكية تخضع لحوافز وبواعث يمكن تحليلها أو قراءتها على ضوء مفردات اللغة السياسية. على ضوء ذالك يبدو لي من المفيد جدا وعلى ضوء ما قدمته الوجوه النمطية للمترحلين على امتداد السنوات الأخيرة، في مختلف الأقاليم والجهات في بلادنا، بمناسبة الاستحقاقات السياسية، أن نقدم بورتريه تقريبي بقسمات المترحل وخصائصه النوعية لعل هذا البورتريه يساعد على فهم فعل الترحال وتموجات هذا الفعل في الزمن السياسي المغربي المتمنع، فيما يظهر، على الحركية السياسية المنهية نصا وروحا مع المسارات اللولبية. أولا: المترحل السياسي هو في الغالب الأعم رجل دخل السياسة متأخرا، لم يدخل عالم السياسة من باب التزام شده بقضايا عامة خلال مرحلة الشباب مثلا، ولم يدخل إلى مجال السياسة من بواباتها الفكرية والإيديولوجية كانتماء إلى مرجعيات تصقل الوجدان السياسي، توجه السلوك وتربطه بأفكار وقيم. ثانيا: المترحل غير منحصر في طبقة اجتماعية محددة، ولا في فئة سوسيومهنية معينة قد تجده في الطبقات العليا من ملاك الأراضي وقد تجده ضمن فئة المقاولين الصناعيين، وقد تجده داخل المراكز النافذة في الإدارات العمومية، فهو غير مقيد بحدود طبقية أو فئوية محددة، ووجوده ذاته هو نفي للقاعدة العادية والتي تقول بان الحزب هو في نهاية المطاف تعبير عن حقائق اجتماعية محددة. ثالثا: المترحل رجل يعتبر في قرارة نقسه أن السياسة ليست اختيارا مذهبيا ينطوي على التزامات قارة تجاه الآخرين، مواطنين وناخبين، بل هي اختيار تاكتيكي يسمح بالتموقع في الخريطة السياسية والتقرب من مراكز القرار حسب مختلف أنواع الظرفيات، وخاصة الظرفيات الانتخابية. رابعا: المترحل السياسي هو رجل استبطن القناعة بان الفعل السياسي هو أساسا فعل مضاربة، بنفس الصورة التي قد تتم بها المضاربة في مجال العقار أو في أي مجال آخر يقبل منطق المضاربة المحمومة. خامسا: المترحل رجل تنمحي في شخصه الحدود والفواصل بين الحزب السياسي وجماعة الضغط ويتحول عنده اللوبيينغ الى عنوان انتماء سياسي. سادسا: المترحل السياسي هو شخص تساوت في ذهنه وعقله الممارسة السياسية مع التواجد النافذ داخل المؤسسات المنتخبة المحلية والجهوية والإقليمية، تواجد بالعدد والنفوذ وليس بالبرامج أو بأرضيات العمل، ولذالك فان أبغض الحلال السياسي عنده هو أن تضطره ظروف ما إلى حضور جلسة افتتاح في مؤتمر أو في ندوة تناقش فيها مواضيع وقضايا عامة، تجد الرجل يترنح في كرسيه وكأنه جالس على الجمر، لأن العقد الذي وضعه مع نفسه ومع الاخرين لايدخل ضمن مشمولاته هذا النوع من الأنشطة، التزامه الأساسي هو تصريف الموقع الحزبي في قرارات براغماتية تدر النفع وليس الانشغال بمواقف أو قضايا أو ما شابه ذالك. سابعا: إن الترحال السياسي كان إلى عهد قريب يعرف حدوده، فهو لم يكن «يزعم»( باللغة الدارجة) أو يتطاول بالرغبة في أخذ موقع داخل حزب من أحزاب الصف الوطني الديمقراطي، ولكن يبدو أن لا شيء يحد رغبة الترحال اليوم لديه، ومن المؤكد أن بعض الأحزاب الوطنية العريقة، قد قبلت بقدومهم للأسف إلى صفوفها الانتخابية غير عابئة بنوعية الجهات التي قدموا منها- ربما رغبة في مضاعفة التواجد الانتخابي المؤسساتي- وربما بذريعة انفتاح غير متحكم في الحقيقة في مساراته. وإذا لم يتم الانتباه إلى مخاطر هذا التنوع من الانزلاقات فان المترحلين سيعتبرون مستقبلا أن كل شيء جائز وانه لم تعد هناك اية خطوط حمراء تقف في وجه فهمهم الخاص للسياسة وللممارسة السياسية. وتحصرني بهذا الخصوص واقعة في غاية الطرافة وفي غاية التعبير عن نوعية القناعات التي يمكن أن يحملها المترحلون حينما «يزعمون» على أحزاب الصف الوطني. والواقعة حكاها لي أحد الأصدقاء ممن تحملوا مسؤولية القيادة الإقليمية لحزب وطني يساري: ترشح السيد س باسم هذا الحزب في الانتخابات التشريعية بعدما قدم إليه من حزب كان الجميع يعده في خانة الأحزاب الإدارية. نجح الرجل وبدأ يمارس نشاطه كبرلماني. وبدأ يجتمع بفريقه الحزبي. جاءه مسؤول إقليمي في مكتبه التجاري بالمدينة التي يمثلها وسلمه منشورا حزبيا يدعو البرلمانيين من فريقه للمساهمة الشهرية بمبلغ 2000 درهم كالتزام نضالي مع الحزب. يحكي لي الصديق المذكور أن المترحل الجديد إلى الصف الديمقراطي حملق في وجهه مطولا وقال له: بالله عليك يا أخي لقد جئت عندكم وكسبت لكم مقعدا لم تكونوا لتحلمون به، مساهما بذالك في إعلاء شأن الحزب، وتطالبون مني فوق هذا أن أساهم في تمويل الأنشطة النضالية للحزب، ما الذي سأكسبه أنا من هذا الموضوع!؟. تلكم بعض من القسمات والخصائص النوعية البروتوتيبية - إذا صح التعبير- التي تشكل بورتريه الترحال السياسي، لعلها تشكل مقياسا لفهم فعل الترحال. أمام هذه الخصائص هل يمكن نأمل في أن تلعب الضوابط القانونية والتعديلات القانونية دورا في وقف حركية الرحل السياسيين، والذي سيكون بكل تأكيد وقفا لحركية التمييع للجانب السياسي؟ نعم بكل تأكيد، وبكل تأكيد فان قانونا جيدا ينصب على هذا الموضوع لن يكون من نتائجه فقط الحد من الظاهرة ، ومن وتيرتها، بل سيكون من نتائجه المحققة دفع هذا النوع من الناس إلى خارج العمل السياسي لأن الحقل السياسي المنظم والمؤسس لا يمكن أن يتسع أصلا لهم ولممارساتهم.