بعد «وشم في الكف « (1980)، و»شيء كالظل» (1994) يعود عبد الرفيع جواهري في ديوانيه «كأني أُفيق» الصادر عن دار أبي رقراق(2010) و»الرابسوديا الزرقاء» الصادر عن وزارة الثقافة(2010) إلى أُفُق شعري متميز، ليكشف عن رؤى جديدة في الكتابة، وليواصل مسيرته الإبداعية التي يظل فيها وفياً للميزات الفنية لقصيدته بدلالات متجددة للكون، والحياة. تختبر فيه الذات عنفوانها وتبرُز الأنا الشعرية في علاقة وجدانية بالقصيدة. وهو إعلان بميلاد زمن جديد لسلطة القصيدة في تشغيل اللغة والدلالة بأفقٍ تخييليٍ زاخرٍ بلغة العشق والحُلُم والطفولة. في ديوان «كأني أُفيق» مرحلة جد متقدمة في نضج رؤيته الشعرية. بدت فيه القصيدة جسداً شعرياً متكاملاً. فقد كتب الديوان بلغة العشق الأندلسي والعشق الصوفي. وهذا الديوان بمثابة إعادة لكتابة تاريخ فاس كمعْلمة من معالم الرقي الإنساني والحضاري والفكري. لذلك تحضر بقوة في الإبداع المغربي على مستوى الشعر والسرد. والمكان الفاسي في شعر عبد الرفيع جواهري ليس صوراً طفولية فحسب، ولكنه وعي شعري كوني حاضر في الكتابة، مثلت فيه «فاس» فضاءً تخييلياً غنياً بدروبها، وأضرحتها، وأبوابها، وأسوارها، ودهاليزها، وسطوح منازلها... ما جعل الشاعر يخرج من رحم فاس ليعود إليها بمتخيل شعري منفتِح على فضاءات متعددة من جغرافيتها. وبما أني كنت في ضيافة صالون فاس الثقافي لمحاورة الشاعر، حاولت أن أكشف قبساً من سر علاقته بفاس، التي كانت حاضرة معه في هذا اليوم، حقيقة وليس تجلياً ولا حلماً. فلمست أن لفاس المكان جمالية استثنائية في شعر عبد الرفيع جواهري. وهذا العشق الممزوج بنفحة صوفية هو الذي تحكم في جمالية القصيدة لديه، ومنحت نصه الشعري قدرة جمالية أو بمعنى آخر ساهمت في خلق جماليات قراءة القصيدة في زمننا. تصديرات الديوان تفتح أفق قراءات متعددة، فسلطان العاشقين ابن الفارض شديد التأثر بالجمال بل ويرقص طرباً للحن الجميل. أما المعتمد ابن عباد فشاعر وأديب محب للطرب والموسيقى. وسلطان العارفين الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، مغرم بالجمال المطلق الذي تتجلى فيه حقيقة العشق عند المتصوفة. وما يجمع هؤلاء جميعاً هو عشقهم للجمال، وتأثرهم بالجلال الذي خلق هذا الجمال. وابن عربي جاءه الفتح في مدينة فاس. فكانت الكتابة بالصمغ استكشافٌ لفاس التي «سقَتْ بِسُلافتها» ترجمان تشوُّق شيخ الفتوحات ابن عربي (ص. 31) فكانت فاس رمزاً للميلاد والموت والحياة، ويبقى الموت عشقاً شهادة في رأي ابن الفارض إلا أن الموت في فاس هو بعث ضمني للحياة، واسترداد لزمنها الجميل. فاس الجنة المستوحاة من ألَق المكان الشعري ومجده، دعت الشاعر لدخول جنتها بعد أن رآها بعين القلب. فتجلت له أنهار خمرها وأرائكها المبثوثة. ومن لحظة التجلي والفناء في فاس يولد الشاعر العاشق من جديد. وهي لحظة ميلاد لا يعرفها إلا من ذاق وجرّب، يقول في قصيدة «تجَلَّيْتِ لي» (ص. 81): ... أَنَا الحَيُّ فِيكِ، إلَى حَدِّ أنِّيَ فَانِي. أُرَاوِدُ فِي اسْمِكِ دَنَّ الحُرُوفِ، أرَى الفَاءَ مِثْلَ اسْتِدَارَةِ كَأْسٍ، إلَى رَشْفَةٍ ثَغْرُهَا قَدْ دَعَانِيَ. أرَى ألِفَ الفَاءِ قَدّاً. تَأَوَّدَ فِي غُصْنِ بَانِ. نعرف أن رمزية الحرف عند المتصوفة تحيِّر العقول. وقد وجد الشاعر في حروف فاس طرباً وعزفاً جميلاً، فاس التي تأتي المشاهدة من عين فائها، ومن فوق قرميد سينها تحصل الرؤيا. وبين فائها وسينها يحصل التجلي، فيظهر حرف الفاء المرصع، وتبرز ألِف الفاء التي استحالت قدّاً وألِف خيزران رشيق. وهكذا تبقى المدن عند الشاعر بحروفها وفضاءاتها كالنساء، لكل واحدة منهن سحرها الغامض الذي لا تكشفه العيون. سواء كانت فاس، أو كازابلانكا ،أو تطوان، أو مراكش... (الرابسوديا الزرقاء، ص. 73). ولكن فاسالمدينة عند الشاعر ليست «يوتوبيا» أي المدينة الفاضلة عند الإغريق، لأنها لا تحمل معالم المدينة التي أرساها أفلاطون في جمهوريته، لكن يطبعها روح التشَوُّف إلى هذه المدينة لأنها الجنة والميلاد والموت والانبعاث. إلا أن الشاعر لم يذهب في حُلُمه بعيداً لأنه ظل مرتبطاً بالواقع لأنها ليست المدينة الوهمية أو الأسطورة ولكنها وعي حضاري وإنساني. لذلك لم يتردد إلا إصراراً على تشخيص واقع بعض الأماكن. إن الشاعر عاشق بطبعه مع اختلافٍ في درجة العشق، وعشقه للقصيدة الأنثى مميز. يقول عن القصيدة في نصٍّ عنونه بالقصيدة من ديوان «الرابسوديا الزرقاء»: أُرَاوِدُهَا، فَتُرَاوِدُنِي. وحِينَ أَهُمُّ بِهَا، تَتَمَنَّعُ، تَهْرُبُ، تَبْعَثُ لِي قُبْلَةً فِي الهَوَاءْ. تُرَاوِدُنِي فَاُشَاكِسُهَا، وَفِي الغَدِ يَسْبِقُهَا عِطْرُهَا المَلَكِي.. هي ذي القصيدة عند عبد الرفيع جواهري خلق من الجمال المنغم، والتآلف الموسيقي، وهو ذا عالمه المليء بالعطور. فهو شاعر مطرب في شعره. يحب فيفالدي ويهيم بموزار. وفي «الرابسوديا الزرقاء» (ص. 27) ينظر إلى القصيدة نظرة طرب ونغم. فقد استلهم عنوانها من سمفونية «جورج غير شوين». واستوحى معانيها من الكتاب المقدس «نشيد الأنشاد» لسليمان. وإعجابه بهذه السمفونية معناه أنه يحب تنوع الإيقاعات واستخدام الآلات المتنوعة وكذالك الأركسترا، وهو أسلوب جديد في تلحين القصائد. لغة البوْح في هذين الديوانين فيها انفتاح على السيرورة الأنثوية، إذ خلق من الجسد الأنثوي طاقة للفكر والانفعال. فكانت بذلك الأنوثة في شعره اكتشافاً كونياً. وهذا ما حقق لديه انسجاماً متكاملاً بين المكان والطبيعة والمرأة في تناسق لغوي جميل يميل إلى الطرب والموسيقى.