ذكرتنا الكيفية التي تم بها حل الأزمة الغينية على إثر الأحداث التي عرفتها غينيا بعد وفاة رئيسها السابق، والرصاصة التي أصابت رئيس المجلس العسكري كامارا داديس بالدور الدبلوماسي المغربي في المنطقة. فقد ساهم المغرب بشكل ملحوظ في تمكين هذه الدولة الإفريقية من الرجوع الى وضع طبيعي، نتمنى أن يتكرس بشكل مستديم عبر انتخابات حرة ونزيهة. في نفس الوقت، أبرز هذا التحرك وغيره أن المغرب معني بشكل عضوي بتحولات محيطه الإفريقي. انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية التي كان أحد مؤسسيها الفاعلين عبر مجموعة الدارالبيضاء، شكل لحظة لإعادة تقييم التفاعل المغربي مع هذه القارة المثخنة بالمشكلات والأزمات. ربما كان الدرس الأساسي في ذلك التقييم هو العمل على تجاوز مظاهر النقص التي شابت الممارسة المغربية في القارة، وتجاوز تلك النظرة المتشائمة لهذه القارة التي تدركها فقط من خلال مشكلاتها ومآسيها وليس من خلال دينامياتها المعقدة. فالقارة تأوي أكثر من 50 دولة، وما فتئت ساكنتها تتزايد. في نفس السياق، فهي تزخر بخيرات طبيعية مهمة، وبقدرات محتاجة إلى الاستكشاف والتطوير وفضلا عن ذلك، فهي تشكل العمق الاستراتيجي لبلادنا. لقد تطورت العلاقات المغربية الإفريقية خلال التسعينات بشكل ملحوظ، واتخذت أبعاداً متعددة. فعلى المستوى الدبلوماسي، كان لابد من حضور على أعلى مستوى تجسد فعليا من خلال الزيارات المتعددة التي قام بها جلالة الملك محمد السادس الى عدد من الدول الإفريقية، والتي شكلت مناسبة لتوقيع عدد من الاتفاقيات وتدشين عدد من المشاريع التي ساهم فيها المغرب، سواء بالخبرة أو بموارده، وسمحت بالعمل على استكشاف الفرص الاقتصادية والاستثمارية التي يوفرها السوق الإفريقي. لاشك أن الاقتصاد الإفريقي يظل ضعيفاً، فالقارة التي تمثل 13% من سكان لا تمثل إلا أقل من 2% في التجارة العالمية ولا تستفيد إلا ب 1,7% من الاستثمارات الأجنبية، لكن السوق الإفريقي يظل حاملا لقدرات هائلة من الفرص. وتبين بعض المعطيات الصادرة عن مديرية الدراسات والتوقعات المالية بوزارة الاقتصاد والمالية، أن حجم المبادلات بين المغرب وإفريقيا قد سجل نمواً مستمراً ما بين الفترة 1996 و 2006 ليستقر عند 425 مليون دولار، وهو في وضعية أحسن إذا قورن بدول شمال إفريقيا كمصر وتونس. من الواضح أن هذا النمو الذي سجلته المبادلات التجارية المتنوعة مع المحيط الإفريقي لا يحجب العوائق المقلصة لإشعاعه، والمتمثلة في ضعف انفتاح الأسواق الإفريقية وتواضع البنيات التحتية، خاصة في مجال النقل، ووجود منافسة قوية تقودها اليوم الصين، علاوة على ضغط تقاليد المقاولة المغربية نفسها. فضلا عن تدعيم المبادلات التجارية، فقد تم تدعيم الانتشار الدبلوماسي المغربي من خلال فتح تمثيليات دبلوماسية جديدة. وفي نفس السياق، فقد وسع المغرب من مبادرات التضامن كلما شعر بحاجة أحد الأقطار الإفريقية لذلك. وهو أمر يمثل امتدادا لسياسة التضامن التي كرسها جلالة الملك على المستوى الداخلي لمواجهة مظاهر الإقصاء والفقر والهشاشة. من الناحية الجيوسياسية هناك قضيتان تستأثران باهتمام المغرب في تفاعله مع القارة السمرآء. أولها: مواجهة مصادر اللاستقرار وخاصة تلك المتعلقة بمنطقة الساحل والصحراء. وثانيها العلاقة مع النظام المؤسساتي المتجسد في الاتحاد الافريقي. هناك اتفاق اليوم على أن منطقة الساحل والصحراء أصبحت مرتعا للعديد من مصادر الاستقرار يختلط فيها ما هو مرتبط بتهريب البضائع المختلفة،تهريب البشر من خلال الهجرة السرية، وما يتعلق بالجريمة المنظمة، وأساسا ما يخص الإرهاب. وإذا كان من الصعب تحديد حجم المجموعات الإرهابية وارتباطاتها وخاصة علاقاتها التنظيمية مع القاعدة، فمن الواضح أن هذه الوضعية تتغذى من عوامل متعددة مرتبطة بالمنطقة من بينها الطبيعة الجغرافية التي هي عبارة عن كثبان شاسعة من الرمال، الحدود المتفسخة وغير الواضحة بين الدول، وضعف الدولة المركزية، وحدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الصراعات المتعلقة بحكامة الدول. في ظل هذه المعطيات لا يمكن لأية دولة التحكم بشكل انفرادي في هذه التيارات الجاذبة. فالمطلوب التحرك على مجموعة من الواجهات: داخليا: القيام بالإصلاحات الضرورية والممكنة لتحسين الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطن قصد تثبيته فوق ترابه الوطني، وبصيغة أخرى لا مناص من تضافر شروط الأمن والحكامة الجيدة والتنمية المستدامة. إقليميا: من المفيد استكشاف كل السبل القمينة بإقرار الاندماج الإقليمي. وقد لا يتأتى ذلك بدون المساهمة في حل الخلافات القائمة بين الاطراف، ومن بينها قضية الصحرآء. فحسب مجموعة من التحليلات، فإن حالة الإحباط في مخيمات تندوف والإفلاس الإيديولوجي للبوليزاريو، قد يدفع عددا من منخرطيها إلى التعاون مع الحركات الإرهابية. ومن ثم تبرز مسؤولية الجزائر في منع وقوع هذا التفاعل السلبي الذي يشكل خطرا على المنطقة برمتها. يمكن أن تكون الجزائر فاعلا إيجابيا إذا عملت مع جوارها على تفعيل مؤسسات الاندماج المشتركة كما هو الأمر بالنسبة لاتحاد المغرب العربي الذي مازال في حالة غيبوبة استمرت طويلا. في انتظار ذلك لا يمكن الاستغناء على التعاون في المجال الأمني، لأن المخاطر كما لاحظنا لا تهدد دولة واحدة بل النظام الإقليمي برمه. وفي هذا السياق، ومهما كانت حدة الخلاف بين المغرب والجزائر حول الصحراء، فإن المصير الجيواستراتيجي للبلدين يبقى مشتركا، ويدفع بدل التنافس الى ضمان الحد الأدني من التعاون لمواجهة مصادر الخطر، ومنع التدخلات الأجنبية. ويفرض هذا الأمر تجاوز الأنانيات والانخراط في مقاربات مشتركة تعاونية. وأخيرا يبدو واضحا أن الصعوبات الحالية، وخاصة ما يتعلق بالإرهاب لا يمكن أن تجعل الدول الكبرى مكتوفة الأيدي. وتسعى الولاياتالمتحدة التي وسعت من مفهوم أمنها القومي والتهديدات الموجهة له إلى الاهتمام بالوضع في المنطقة.و لاحظنا في مقالنا السابق الصادر بتاريخ 19 يناير الحالي، الخطوات التي قامت بها. لكن هناك تخوف لدى دول المنطقة من الانخراط بشكل كلي في هذا التعاون. فتجربة الولاياتالمتحدة في هذا المجال ليست مشجعة. بل إن تدخلاتها كثيرا ما أفضت الى تأجيج الأوضاع أكثر من مواجهتها. لذلك يستحسن الاكتفاء بالتعاون في المجال اللوجستيكي كما هو الأمر بالنسبة للتكوين والمساعدة على الإصلاح، وترك باقي الأمور للدول الإفريقية نفسها. لايمكن الحديث عن تفاعل المغرب مع محيطه الافريقي دون طرح علاقة المغرب مع النظام المؤسساتي الافريقي، المتجسد منذ بداية هذه الالفية في الاتحاد الافريقي. ألم يحن الوقت بعد لاسترجاع المغرب لمقعده بعد أن انسحب في سنة 1984 نتيجة خرق الشرعية آنذاك بقبول انضمام ما يسمى بالجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية الى حظيرة منظمة الوحدة الافريقية. هناك بعدان في الموضوع: قانوني وسياسي. يطرح الاول مسألة الاعتراف في القانون الدولي. والثاني يتعلق بسبل إصلاح هذه الوضعية. هناك خاصيتان تسمان الاعتراف وهما : كون الاعتراف معلن لواقع وليس منشىء له. وهو يعني ان الدولة لاتقوم الا إذا توفرت لها بشكل واضح العناصر الثلاثة المنشأة للدولة وهي الاقليم والسكان والسلطة السياسية. وفي حالة الصحراء، فإن هذه الشروط غير متوفرة وخاصة الاقليم والسكان. فمسؤولو البوليزاريو لايسيطرون إلا على مخيمات تندوف التي توجد في التراب الجزائري. في حين، إن الصحراء توجد تحت نفوذ المغرب وتحت إدارته وفقا لاتفاقية مدريد. كما أن أغلب السكان الصحراويون يوجدون فوق التراب المغربي ويساهمون في الحياة اليومية على جميع الاصعدة. وثاني خصائص الاعتراف أنه عمل من أعمال سيادة الدولة. فهي حرة في الاعتراف او عدم الاعتراف . بل أكثر من ذلك فهي حرة في سحب الاعتراف كما وقع لعدد من الدول التي سعت الى تصحيح خطئها، بسحب الاعتراف من الجمهورية المصطنعة. لذلك، فإن انضمام هذا الكيان الى منظمة الوحدة الافريقية يبقى حالة شاذة. فلم تستطع الانضمام الى أي منظمة أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، بل ليست هناك دولة أوربية معترفة به، ولا دولة دائمة العضوية في مجلس الامن. إذن من الناحية القانونية لم يستطع هذا الكيان ان يفرض حضوره ولايبرر وجوده إزاء القانون الدولي. لقد كان من الممكن طرح عضوية هذا الكيان اثناء الانتقال من منظمة الوحدة الافريقية الى الاتحاد الافريقي. فعمليا الجمهورية الصحراوية لم تعد تملك الاغلبية من الاعترافات داخل هذا الكيان. ومخافة ان يطرح الموضوع فقد سارعت بإيعاز من الجزائر إلى التصديق بسرعة على وثائق الاتحاد الافريقي في دجنبر 2000. وفي غياب مقتضى قانوني داخل ميثاق الاتحاد الافريقي ينظم سحب العضوية من عضو ما، فإنه من الممكن اذا كانت الدبلوماسية المغربية تشاطر حيوية استعادة مقعد المغرب ان تدفع الحلفاء الى طرح وضعية الجمهورية الصحراوية على ضوء فقدانها لأغلبية الاعترافات. وقد يفضي ذلك الى تجميد عضويتها بشكل قد يفتح الطريق أمام عودة المغرب الى المنتظم الافريقي. من الناحية السياسية، يبدو واضحا انه منذ انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الافريقية، فقد عرف الملف عدة تحولات كلها ترمي لصالح المغرب والشرعية الدولية. فمن جهة أولى، فقد أقر الكثيرون بمن فيهم إديم كودجو الذي كان أمينا عاما لمنظمة الوحدة الافريقية بزلة ضم هذا الكيان الى المنظمة . ثانيا: ان التحولات التي عرفها الملف وخاصة ما يتعلق بالبحث عن تسوية مقبولة من الطرفين في سياق مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب، يجعل من العبث الاستمرار في تكريس واقع مفتعل، وثالثهما ان الاخطار التي تواجهها المنطقة تفرض على كافة الاطراف وخاصة الجزائر العمل على مواجهة مصادر الخطر في المنطقة، وهو أمر لن يتسنى الا بالتعاون والبحث عن التسويات الضامنة لتوازن المصالح بدل توازن القوى، وذلك لدرء مخاطر الزعزعة والتدخل الاجنبي.