-كنتم من الأوائل الذين دافعوا عن مبدأ استقلالية القضاء في الوقت الذي كان الحديث عن القضاء في حكم الطابو السياسي، وأديتم مع ثلة قليلة من القضاة المؤمنين بسلطة القضاء ثمنا معروفة تداعياته. ما الجديد اليوم بالنسبة لورش القضاء في تصوركم كقاض سابق؟ - منذ التحاقنا بالقضاء سنة 1979 لاحظنا الهيمنة المطلقة لوزارة العدل عن طريق المفتشية العامة و مديرية الشؤون المدنية على قضاة الأحكام والمهن القانونية والقضائية (المحاماة، العدالة، التوثيق العصري، المفوضين القضائيين، الخبراء، التراجمة) ومديرية الشؤون الجنائية والعفو (قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم في القضايا الزجرية وضباط الشرطة القضائية..... ) ومديرية الموارد البشرية (كتابة الضبط بكافة أطرها) ومؤسسة المجلس الأعلى للقضاء، حيث لا يترشح إلا القضاة الموالون للوزارة. من هذا المنطلق اجتمعت ثلة من القضاة، وأخذت على عاتقها مهمة إيصال رسالة الظلم والجور والحيف وانعدام العدل داخل وزارة العدل للجهات العليا، مع محاولة بلورة خطاب مهني رصين لمواجهة كل التحديات داخل الجهاز وخارجه، بل السعي إلى تكوين ضمير مهني للقضاة، يعتبر نواة لكل إصلاح. واستطاعت المجموعة أن تطفو على السطح وتطرح أفكارها رغم المنع الممنهج لحرية التعبير لدى القاضي عموما. وما حصل سنتي 2003 و2004 كان دليلا على أن النظام السياسي يرفض كل تغيير وإصلاح داخل قطاع العدالة. وأنه تم طردنا من الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء برسالة ملكية، والتي تتبع الشعب المغربي فحواها بعد تلاوتها علنا. وقتها كانت لنا رؤية وتصور للإصلاح وطرحناه، ولازلنا نؤكد على ذلك اليوم، إلا أن هناك صعوبات وحواجز منها الحرية، فالحرية هي التنمية والاستقلالية توأم للمسؤولية والمسؤولية تعني المحاسبة. فالكل اليوم يقف على الداء ويصف الدواء، لكن المهم هو كيفية التداوي. فإصلاح القضاء يهم القاضي والمحامي والخبير والترجمان والعدل والموثق والمفوض القضائي والمواطن. فلابد من إعطاء هؤلاء حريتهم لتأسيس ما شاء الله من الجمعيات والنقابات كمنابر حرة ومستقلة لإصلاح شؤونهم بأنفسهم. فالهدف من هذه الهيئات التطوعية هو التأطير والتأهيل. وأعتقد أن هذه الهيئات التطوعية ستساعد الدولة على التقليل من المشاكل القطاعية وستسهم الاستقلالية في تحديد المسؤولية، وعندما تبرز المسؤولية تكون المحاسبة حاضرة. فغياب الاستقلالية والمسؤولية والمحاسبة والحرية سواء في السابق أو اليوم يجعل فرص نجاح أي إصلاح شبه مستحيلة. - قلتم في أحد تدخلاتكم إن المحكمة تصدر قرارات ولا تقدم خدمات، وأن القضاء في حاجة إلى حماية شعبية ودستورية، هل لكم أن تفصلوا في ذلك؟ - القضاء هو الجهة التي تختص بفض النزاعات بمقتضى القانون سواء كانت هذه النزاعات بين الأفراد أو بينهم وبين الحكومة وإعطاء الحقوق لأصحابها. ومن هنا نقول إن المحاكم لا تضع يدها على أية قضية إلا بناء على طلب وتبت فيه وفق أحكام القانون لتعطي الحقوق لأصحابها، ولا تقدم خدمة أو خدمات لأي كان. فالمحكمة ليست رهن إشارة الحكومة مثلا: لتحد من حرية التعبير عن طريق محاكمة الصحافة أو تخويف أهل العمل النقابي أو الحد من ممارسة الأحزاب السياسية. والمطالبة بدسترة القضاء كسلطة يصب في هذا الاتجاه، أي أن يكون القضاء سلطة مستقلة يؤدي وظيفة سامية ونبيلة، وهي إصدار أحكام وقرارات وأوامر قضائية غايتها إعطاء الحقوق لأصحابها، وليس تقديم خدمة للحكومة وللنافذين في الدولة، للانتقام من خصومهم سواء السياسيين أو النقابيين أو الحقوقيين. ومبدأ استقلال القضاء في حاجة إلى حماية وتتعدد أوجه هذه الحماية منها: الدستورية: وتعني صياغة مبدأ استقلال القضاء في نصوص دستورية ترتفع بها إلى مستوى الإلزام القانوني وتحميها من الاعتداء والإنكار فالتنصيص دستوريا على كون القضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيدية، وتحدد الإدارة التي تتولى السلطة وقتها نكون أمام نص إلزامي. وهذا المظهر هو الذي يعطي استقلال القضاء معناه الحقيقي، لأن إنكار وصف السلطة على القضاء يجرده من استقلاله. فإذا لم يكن القضاء سلطة وإنما مجرد مرفق عام أو مؤسسة، فإنه يكون تابعا للسلطة التنفيذية والتبعية تنفي الاستقلال. الشعبية: لا قيمة لمبدأ استقلال القضاء ولو كفلته نصوص الدستور. إذا لم يكن قائما في وجدان الشعب. فإيمان الشعب باستقلال القضاء هو أقوى ضمان له خاصة، وأن كفالة الحقوق والحريات دون إيمان شعبي تصبح مجرد شعارات ترفع لا تأثير لها. فالقضاء مكسب للشعوب، والأصوات التي تطالب بإصلاح القضاء لا تخرج عن النخبة والجهات الرسمية، في حين يغيب الشعب عن عملية الإصلاح وهو المعني والمهتم أولا وأخيرا. فلا يمكن إصلاح القضاء في غيبة الشعب. هذا الأخير هو مصدر السلط. وفي اعتقادي أن ما يجري اليوم على الساحة لمحاولة إصلاح القضاء لابد أن يؤطر بإصلاح دستوري شامل. - تحدث جلالة الملك في إحدى خطبه الرسمية عن ضرورة تنزيل ميثاق وطني للقضاء، وهو الورش الذي ظل مفتوحا لسنوات. كيف تتصورون الصيغ الممكنة لوضع هذا الميثاق؟ - إن إصلاح القضاء لا يتوقف على ميثاق وطني فقط. بل لابد من حمايته بمجموعة من الآليات الداعمة لتنزيله. لقد سبق وضع مواثيق وطنية في مجالات أخرى، ولم تصلح شؤونها، بل استفحلت أحوالها. أما بخصوص القضاء فنجد أن هذا الأخير مرتبط بطبيعة الحكم في البلاد. وهذا الصراع حول شكل الحكم ومضمونه مفتوح منذ تقديم وثيقة الاستقلال ولا يزال. فإقرار مبدأ فصل السلط الذي جاءت به توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة هو الحل، ومضامين البيان السياسي الصادر عن المؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي فيه خارطة طريق واقعية للإصلاح . الحل ليس في ابتكار الأساليب، وإنما في الوقوف على الحقيقة الموضوعية وطرح البدائل على ضوئها. فتقرير الخمسينية تم إنجازه بأمر ملكي، وكذا الشأن بالنسبة لهيئة الإنصاف والمصالحة ونشر مضامين عملها. وبارك الملك عملها، ومن بين توصياتها إقرار مبدأ فصل السلط، والتنصيص دستوريا على كون القضاء سلطة مستقلة تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتحديد الإدارة التي تتولى السلطة القضائية. ووضع أنظمة أساسية للمهن القانونية والقضائية تشمل القاضي والمحامي والعدل والموثق والترجمان والخبير والمفوض القضائي، وإعطاء هؤلاء المهنيين الحرية في تأسيس ما شاء الله من الهيئات التطوعية بقصد تأهيلهم وتأطيرهم مهنيا حتى يكون الجميع مسؤولا عما يصدر عنه من أعمال. لكن توقف العمل الجبار الذي أوصت به هيئة الإنصاف والمصالحة، ولم تستطع أية جهة سواء رسمية أو تطوعية تفعيل تلك التوصيات. - مارستم القضاء، واليوم تلبسون جبة المحامي، ما الفرق بين الوضعين، خصوصا وأنكم تحملون تجربة قضائية لما يقارب ثلاثين سنة ؟ - أعتقد أن اليسار المغربي ارتكب خطأ استراتيجيا عندما رفض مناضلوه الولوج إلى القطاعات العمومية عموما، كالشرطة والداخلية والقضاء وتركوا الباب مفتوحا على مصراعيه للإدارة، لكي تشكل النماذج التي تريد كما يحلو لها. وهكذا شكلت الإدارة أطرا خائفة ومذعورة وتابعة وغير قادرة على إنتاج المعرفة الموضوعية، بل تبتكر الأساليب الثعلبية لتدبير الأزمة يوما بيوم. أقول هذا لأن المناضل لن يشعر بالفرق عند انتقاله من القاضي إلى المحامي والعكس صحيح، لكون كل واحد منهما ملزم بتحقيق العدالة. والعدالة واحدة ليست لها جنسية أو وطن، بل هي كونية. وهكذا نجد أن كل من له علاقة بالعدالة سواء كان مدعيا أو مدعى عليه أو شاهدا أو ضابطا للشرطة أو عدلا أو موثقا أو محاميا أو قاضيا أو ترجمانا أو خبيرا أو مفوضا قضائيا أو كاتبا للضبط مسؤولا عن تحقيق العدالة و ملزما بأداء طقوسها. وهذا ما يجعل بعض الدول تسلك طرقا حميدة مثلا: أنها تولي القضاء من المحامين وأطر كتابة الضبط بعد أن يكونوا من ذوي الشهادات العليا في القانون ولهم تجربة طويلة في الميدان وتجاوزوا الأربعين سنة من العمر. وبهذا يكون من تولى القضاء قد أخذ من النضج نصيبا كبيرا. وهكذا تنفع تجربة المحامي في القضاء وتجربة القاضي في المحاماة لكون هدفهما واحد هو تحقيق العدالة. - أصبح المشهد السياسي اليوم والفاعلين المركزيين فيه، يضج بأصوات عديدة تطالب بدسترة القضاء، بما يعني فصلا للسلط وإعادة النظر في الهندسة الدستورية، هل تعتقدون أن الظرف الوطني بتقاطعاته السياسية والاجتماعية والقانونية قادر على إنتاج تغيير حقيقي داخل الجسم القضائي؟ - المطالبة بدسترة القضاء، كما سبق أن قلت، هو مرتبط بطبيعة الحكم في البلاد، وهو مطلب الحركة الوطنية وليس مطلبا جديدا، والآن فإننا لا نتوفر على سلطة تشريعية حقيقية ولا على سلطة تنفيذية حقيقية، فالوزير الأول لا يتحكم في الوالي والعامل والقائد والشيخ والمقدم والدركي والشرطي، وهذا ما قاله الشهيد المهدي بنبركة ... و تعلم بعض إطارات الحزب بالتفصيل كيف قمنا منذ البداية، ونحن لازلنا في حزب الاستقلال، بالدفاع عن مبدأ أساسي يضمن لكل حكومة تستحق هذا الاسم، أن تباشر السلطة التنفيدية المخولة لها. ذلك المبدأ الذي بدون احترامه تكون الحكومة اسما بلا مسمى، وهو أن تكون بيد الحكومة سائر وسائل السلطة وبالأخص الإشراف على موظفي وزارة الداخلية والعمال وكذلك مصالح الجيش والشرطة والدرك..... و لم نقم بواجب التوضيح أمام الرأي العام لهذه المعارك المتجددة على تعاقب الحكومات من الوزارتين الائتلافيتين الأولى والثانية إلى حكومتي بلافريج وعبد الله إبراهيم، ولم نقل قط للشعب إننا كنا فاقدين لوسائل تنفيذ برامجنا. فلا غرابة إذن من أن يتهمنا البعض اليوم بأننا كنا نتوفر على سائر السلطات طيلة سنوات 1956 إلى 1960، بينما كنا فاقدين لجوهر السلطة هذه هي الحقيقة. وأعاد نفس الكلام المجاهد عبد الرحمان اليوسفي في ندوة بروكسيل سنة 2003.