حين تطرح مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد سؤال «الوطنية بين الأمس واليوم»، فإنها تطرح في العمق سؤالا قيميا كبيرا يسائلنا جميعا كمغاربة، في سياق إنضاج المشاريع التاريخية التي تفضى إلى تحقيق تحول، يضيف تراكمه النوعي، ضمن سياق متواصل من فعل المغاربة في التاريخ، وفي ذاكرة الأيام. ولعل قوة الموضوع آتية، من أنه يترجم غير قليل من القلق، حول واقع القيم ببلادنا، التي يأتي في مقدمتها معنى الإنتماء. الإنتماء لوطن، لفكرة بناءة عنه، لطموح جماعي لتحقيق التقدم والرفاه. لأن العطب - ربما- الذي يطال اليوم المغرب، هو في عدم وضوح صورة المثل والقيم أمام الأجيال الجديدة، التي لم تجد بعد ما تتساوق معه من أفكار جماعية بناءة، تحقق ليس فقط الإمتلاء الروحي، بل تعطي معنى للوجود في معناه الحضاري الواسع. إعداد: لحسن العسبي مقاربة هذا السؤال الكبير، حاولنا تتبع مساراته كما فكر فيه عدد من مفكرينا المغاربة، الذين خلصوا إلى معنى للإنتماء لفكرة الوطن، ولإنتاج روح الوطنية، التي تجد لها العديد من المسميات في مفاهيم « الحداثة»، « العلمانية»، « التقدم»، « الهوية»، « الإنتماء إلى العصر»، وغيرها كثير من المفاهيم. ولعل إحدى أهم الأطروحات التي ترد دوما في هذا الباب، تلك التي بناها بعمق معرفي وتأصيل تاريخي، الدكتور عبد الله العروي، في كتابه « أصول الوطنية المغربية»، الذي اشتغل معرفيا على الفترة ما قبل الإستعمارية ببلادنا، أي فترة القرن 19 وبدايات القرن 20. حيث توقف طويلا، عند معنى الإطار السياسي الذي تأسست عليه الدولة المغربية في تفاعلها مع المجتمع المغربي ومع الخارج. وذهبت بعض الدراسات التي حللت هذه الأطروحة المتكاملة للدكتور العروي، إلى أن النظام السياسي المغربي (المخزن)، قد ظل يتأسس على تابثين أساسيين هما قوة الجيش ونظام إداري ميزته البيروقراطية بصيغته المغربية الصرفة، التي صيغة تقليدية تماما. وأن فكرة الوطنية، هي مفهوم حديث، ولد عمليا (بمعناه السياسي)، مع صدمة الإستعمار. وأنه مفهوم مديني بامتياز، ولد بمعناه الحديث، مع بروز فئة بورجوازية بالمدن المغربية العتيقة، كان لها طموح هائل في تغيير أساليب التدبير العمومية، بما يتوافق وشرط المدنية الحديثة. بل إن فكرة الوطنية قد اكتسبت معناها السياسي، في تنازعها مع الخيار التقليدي للسلطة، الذي يتأسس، على أن الجيش والإدارة الممركزة، على مدى قرنين من الزمن «هما الأداة التي يتم بواسطتها حماية الحقوق و المصالح وتدبير الامتيازات وفق الأعراف الضوابط المخزنية، و فيهما يتم إحداث الوظائف والمناصب مركزيا ومحليا ويتم إدماج الأنصار والمحاسيب وتسوية التوافقات في إطار هذه الوظائف التي تمتد من الوزارات إلى السفارات و العمالات والأمانات والقيادات ورئاسات بعض الهيئات مركزيا أو محليا». على مستوى آخر، نجد أن بعض كتابات الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي، تطرح سؤال التحديث (كعنوان من عناوين ترجمة الوطنية في السياقات المغربية). بل إنه يؤكد، أن من أدوار البحث الفلسفي اليوم، هي زرع روح التحديث، تأسيسا على «أن الحداثة ليست مجرد وقوف عند، مجرد إثبات للتحولات الكبرى في مختلف المجالات، وهي ليست بالأولى حقبة زمنية، إنها ليست فترة تمتد بين تاريخين، وإنما هي عصر». مضيفا أنه «عند كل عصر ينكشف عالم من العوالم، أي تنكشف بالنسبة لإنسان ذلك العالم، علاقة جديدة للماضي بالمستقبل. الحداثة اذاً شكل من العلاقة المتوترة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيار واعٍ، ونمط من التفكير والإحساس، وطريقة في السلوك والاستجابة تظهر كمهمة ينبغي الاضطلاع بها. إنها وعي بأن الكائن تحول. إنها إثبات للانفصال، ووعي بالحركة المتقطعة للزمن، إنها اللحظة التي يصبح فيها الانفصال من صميم الوجود و يغدو نسيج الكائن ولحمته». ولعل من أهم المقاربات التي اشتغلت على مفهوم الوطنية المغربية، في علاقتها بالتقدم ورسم معالم الهوية المغربية، تلك التي قام بها الباحث المغربي محمد كلفرني، فى إحدى دراساته القيمة حول «الوطنية المغربية وإشكالية الاستمرارية التاريخية». فهي دراسة رصينة تؤكد أن إشكالية تحديد مفهوم الوطنية، كأحد المفاهيم الأكثر تعقيدا لتعدد المستويات التي يحيل عليها إيديولوجيا وسياسيا وثقافيا، إنما تعود إلى « غموض تداخله مع مفهوم الأمة (Nation) ومصطلح الوطن (Patrie) وتكامله مع معاني البناء الوطني. وقد حدد أحد المختصين مشاكل المقاربة في عنصرين: من جهة ازدواجية الكلمة حيث تحيل إلى ظاهرة معلن عنها منظمة ومهيكلة هي وطنية الوطنيين مقابل بعد غير منظم مبثوث يتجاوز الأحزاب والمنظمات التي تتحدث باسمه. ومن جهة أخرى ( وهو الوجه الأخر للإشكال) فالإيديولوجيا الوطنية لا تظهر في حالة صفاء إلا استثناء حيث عادة ما تكون ممزوجة بمنظومات قيم سياسية واجتماعية عامة، كما تتساكن مع إيديولوجيات أخرى وتنهل من مذاهب مختلفة وحتى متناقضة.. لذا يستدعي التحديد التمييز بين الحالة السابقة لوجود دولة / أمة مستقلة قانونيا فتبدو كإرادة جماعة ذات وعي بخصوصيتها التاريخية لإنشاء وتطوير دولة ذات سيادة خاصة بها. أما في إطار الدولة / الأمة فتبدو كرغبة وإرادة للدفاع عن الاستقلال وتأكيد عظمتها». و بناء عليه فالوطنية تطابق المجهود المبذول من طرف مجتمع لامتلاك مصيره الذي يجب أن يستوعب القيم الحضارية للمجتمع السائدة في كليتها والذي يتعرف عن ذاته من خلالها وتميزه عن غيره. ويحيل هذا التحديد الشكلي إلى إشكالية أخرى أي جدلية الشعور الوطني والوطنية التي استأثرت باهتمام العديد من الباحثين، في هذا الإطار ميز (GELLNER) بين الوطنية كمبدأ سياسي يعلن عن ضرورة تطابق الوحدة السياسية والوحدة الوطنية في حين الشعور الوطني بمثابة شعور الغضب أو الرضى الناتجين عن اختراق هذا المبدأ أو تحقيقه. هذا التمييز صحيح في حدود جغرافية وفي حالة تأسيس الوطنية على قيم جديدة تتجاوز الأسس السابقة فتكون بمثابة مسلسل هدم وبناء. في حين أن الوطنية وخصوصا في المجتمعات التاريخية يتم بناؤها في إطار استمرارية تاريخية تمتزج فيها بمنظومة قيم وتراتبات ومحمولة من طرف فئات ما قبل وطنية. تحيلنا هذه الملاحظة إلى إشكالية العلاقة بالتاريخ أي مخيال الوطنية فحسب (Benedict Andrson) فالخضوع للفضاء المنسجم والمجرد للسيادة الوطنية ليس ظاهرة طبيعية. فالأمة ليست معطى بديهي ولا هي عابرة للتاريخ، إنها بناء مشيد من طرف الوطنيين يعلنون عن أولويتها على التضامنات السابقة. وتؤكد أن المجتمعات التقليدية كانت غير قادرة عن ابتكار «الوطنية» كيفما كانت قوة ارتباطها الإثني أو الثرابي. وتذهب إلى أن الوطنية عبارة عن جماعات متخيلة - وهو عنوان الكتاب - جاءت في سياق التحولات التي عرفتها أوربا التي تأثرت بالتصورات حول المجال والزمن، كما وظفت آليات الإحصاء والخرائط والمتحف لإنتاج هذه الجماعات». مضيفا أنه قد اهتمت مجموعة من الأدبيات بالوطنية المغربية، واختلفت في مناهجها وتحديدها وتحقيبها وقد استعمل البعض مصطلحات المقاومة الأولية والمقاومة الثانوية والوطنية السياسية، لتمييز ردود الفعل العسكرية عن العمل السياسي المنظم المتمثل في ظهور الأحزاب والمنظمات السياسية. ويرى الدكتور عبد الله العروي أن الأطروحة الكلاسيكية والرائجة حول الوطنية المغربية التي أنتجها الفرنسيون وتم تبنيها من طرف الباحثين الأمريكيين، تقارب الظاهرة كنتاج منطقي للتحولات الاقتصادية والاجتماعية للحماية ( من قبيل إنشاء السوق الداخلي والسياسة التعليمية التي بثت أفكار الثورة الفرنسية من بينها الأمة ). فالوطنية المغربية مع هذا الطرح هي النشاط السياسي/الثقافي للشباب المغربي في الإطار السياسي - الإداري للحماية. ويرى الباحث المغربي محمد كلفرني، أن «حدود هذا الطرح تكمن في تغاضيه عن عوامل ساهمت في نشوء الوطنية، في حين أنها لم تكن من منتجات الحماية. ونخص بالذكر الحركة السلفية. كما أن أحداث ومحطات تخللت مسار الحركة لا نجد لها تفسيرا من داخلها». إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا - كما ذهب إلى ذلك هذا البحث العلمي الرصين في قراءته لأطروحة العروي هو أن الوطنية المغربية هي تحيين لمكتسبات الشعب المغربي والمرآة التي يفكر من خلالها في تطوره. وهي محددة ببنية المخزن ورد فعل جماعة العلماء والمنهجية السلفية. بصيغة أخرى فالوطنية كرد فعل المجتمع المغربي على الخطر الخارجي الذي تعرضت له البلاد في القرن 19 في شكل ضغط انتهى باستعمار البلاد، لم يكن ليظهر على المستوى الاجتماعي إلا من داخل المخزن، وعلى المستوى السياسي إلا وسط الطبقة الدينية والعلماء تحديدا، وعلى مستوى التعبير الإيديولوجي إلا تحت غطاء سلفي. على أن هذا التحليل لا يعني جمود الوطنية المغربية التي مرت من ثلاث مراحل التخلي والعزوف فالقبول والمشاركة ثم النقد والتجاوز العقلاني. ويرى الدكتور عبد الله العروي أن هذا التشابك - مجموع قواعد تأويلية- يساعد على تمييز فحوى كل الحركات التي تولدت قبل الحرب العالمية الثانية وتلك التي ظهرت بعدها إلى الآن. مثلا، تمة أمر قليلا ما انتبه إليه، وهو أن «تاريخ الاستعمار الفرنسي يفسر اختلاف الوطنية في كل من المغرب والجزائر - كمثال دال- لأن الجزائر استعمرت قبل المغرب ولفترة طويلة. ويعد المتغير الزمني محددا بهذا الخصوص، حيث أن التغلغل الفرنسي في الثلث الأول من القرن 19 في الجزائر ليس له نفس الدلالة ولا نفس الوقع للدخول إلى المغرب في بداية القرن 20. ففرنسا ما بين 1820 - 1930 كانت غارقة في بداوتها وحديثة الخروج من التجارب الثورية والنابليونية لم تكن لها نفس الخصائص التي ميزتها بعد دخولها في الثورة الصناعية . هذا المعطى سينعكس على الوطنية التي ستكون في الجزائر سليلة الإرث الجاكوبيني ( نسبة إلى التيار اليعاقبي في فرنسا الذي كان مناهضا لتيار الجيروندي)، بكل تمثلاته خصوصا موقع الدولة المركزية والعلاقة بالماضي في حين سيتم الحد من فعاليته مع الحملة التهدئة المغربية قبيل الحرب العالمية الأولى. حيث على خلاف الجزائر ستراهن فرنسا على نظام الحماية. في هذا الإطار سيشخص ليوطي تمثل ملكي للأمة الفرنسية ودخل في تحالف مع النخبة الوطنية. وقد بين دانيال ريفي في بحث له حول ليوطي الطريقة التي اعترف بها ورسخ وعيا وطنيا مغربيا: «برفضه تهميش المخزن وبإدخال جرع من الحداثة - تقنيات الدولة الحديثة - في جسمه التقليدي وبتأكيده وعمله على تمفصل الدولة التقليدية والعصرية التي زرع بدورها. وأخيرا تمجيده لماضي الإمبراطورية وحثه على ظهور بنية عصرية إصلاحية». نختم هنا هذه المتابعة، بما كتبه الأستاذ والباحث المغربي محمد سبيلا، الذي يؤكد أنه «فيما يخص مجتمعاتنا الثالثية والعربية, ومجتمعنا المغربي على وجه الخصوص والذي دخل في الحداثة منذ ما قبل الاستعمار، أي منذ أواسط القرن الثامن عشر، عندما بدأت الجيوش الأجنبية تهدد حدود المغرب بحرا وبرا، منذ معركة ايسلي تقريبا, بدأت تعي النخب المغربية بأن المغرب دخل في عهد جديد من الاستجابة للحداثة الغربية, فالحداثة الأوربية بدأت تطرق الأبواب بجيوشها كما طرقت أبواب مصرعبر حملة نابليون سنة 1798. ونحن في فترة مقاربة بدأنا نشعر بأن المغرب مهدد, وهذا ما أدى إلى ظهور حركة إصلاحية فكرية تدعو إلى إصلاح الجيش وتحديثه, وهناك اراجيز وكتابات في هذا الباب, والكتب المتخصصة في دراسة تاريخ المغرب تفيض بأمثلة في ذلك, فالمغرب بدأت تطرق أبوابه الحداثة قبل الاستعمار عبر الحضور التجاري للأجانب، مثل تسليح الجيش, ومختلف الظواهر.. وقد قام نقاش في المجتمع المغربي حول استعمال التقنيات الحديثة مثلا, هل يجوز استعمال البرق مثلا للإعلان عن موعد الإفطار في رمضان؟ وهذه كلها مظاهر أوضحت أن هناك مخاضا في المجتمع, فمنذئذ دخل المغرب عصر الحداثة, ولكن الحداثة ليست حماما سريعا لا يستطيع أن يدخله المرء ويخرج منه بسرعة, إنه مخاض يتم عبر قرون. على كل فهذه المرحلة الأولى للتحديث تلتها المرحلة الثانية التي هي الاستعمار, والاستعمار وكما يثبت ذلك السوسيولوجيون هو الأداة التي اتخذ بها التحديث طابعا كونيا, فالاستعمار له وجه سيطرة وتحكم واستغلال ونهب للثروات، ولكن له وجه آخر وهو أنه يعمم التقنيات الحديثة... إذن مع الاستعمار تدخل الحداثة، إذن الحداثة تلازم الاستعمار وهذه إحدى مشاكلها, فمشكل الحداثة بالنسبة لدولة ثالثية هو ارتباطها بالاستعمار, إذ تظهر أحيانا كأنها حصان طروادة, وهذا ما يجعلنا نخلط دائما بين الحداثة والاستعمار وبين التحديث والتغريب, وفي الوقت الذي نستطيع فيه أن نميز بين المستويين أو العمليتين نكون بذلك قد خطونا خطوة كبيرة في فهم الحداثة وفي تقبلها وفي تشذيبها أيضا».. أي أننا ننتج مفهوما أكثر عقلانية للوطنية، كأداة للبناء وللمصالحة مع التاريخ.