"عندما خلق الله العالم، فإن أول ما خلق هو الأسفار"... هل حقا كانت هذه الرؤية لأحد أبطال الفيلم اليوناني "تحديقة يوليسيس"، أم أنها لمخرج الفيلم ثيو انجيلوبولوس وقد تجسدت على لسان إحدى شخصياته السينمائية؟ إلى أي مدى شكلت الرحلة، المغامرة، الاكتشاف، المعرفة، والأسطورة هاجسا انعكس بشكل محوري في أفلام ثيو انجيلوبولوس السينمائية؟ وما هي الحدود التي تفصل ثيو انجيلوبولوس عن شخصياته ومواضيع أفلامه؟ يمنحنا كتاب "عالم ثيو انجيلوبولوس السينمائي" الصادر حديثا عن وزارة الثقافة والإعلام في البحرين2009، متعة التعرف على إجابات هذه الأسئلة وغيرها من الأمور التي تقربنا من عالم المخرج اليوناني ثيو انجيلوبولوس، بما تحمل كلمة عالم من معنى، حيث يقدم الكتاب إحاطة شاملة بشخصه وبأعماله، أعدها وترجمها الناقد البحريني أمين صالح، واستند في إعداده هذا بشكل رئيسي إلى مجموعة مقابلات أجريت مع المخرج، بالإضافة إلى بعض الدراسات النقدية حول أفلامه، مما يمنح تكاملا لصورة ثيو انجيلوبولوس التي نتلمس ملامحها عبر الكتاب. فهي مضاءة من الخارج بما يقدمه النقد من قراءة لشخصه، لأفلامه، وأسلوبه السينمائي، كما أنها مضاءة من الداخل بما يقوله انجيلوبولوس عنه نفسه بنفسه، وهاتان تشكلان رافدين يغذيان كل باب من أبواب الكتاب الذي ينقسم إلى جزأين: يتناول الأول في أبوابه بشكل موسع كل ما يتعلق بشخص انجيلوبولوس: سيرته، روافده، اختياراته، رؤيته، ثيماته، التأثيرات، الخلفية السياسية، التاريخ والأسطورة ومعالجتها، أسلوبه السينمائي، ومختلف العناصر الأخرى من سيناريو وتصوير وموسيقى ومونتاج، إلى علاقته بالمكان والوطن...، أما الجزء الثاني فيتناول بالتحليل كل فيلم من أفلامه الثلاثة عشر الطويلة، منذ أولى تلك الأفلام "إعادة بناء" 1970، والذي نال عنه عدة جوائز، مرورا بفيلم "الممثلون الجوالون" 1975، الذي شكل بطاقة عبور انجيلوبولوس إلى العالمية، ونال عنه عدة جوائز دولية مهمة منها جائزة النقاد في مهرجان كان، وجائزة مهرجان برلين، واعتبر حينها واحدا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، وصولا إلى فيلمه قبل الأخير ثلاثية "المرج الباكي" 2004، دون أن يتمكن الكتاب من متابعة أخر أفلامه "غبار الزمن" 2008، الذي أنتج بعد الانتهاء من إعداد الكتاب. حتى النهاية "كرجلين عجوزين يجلسان في مقهى، وقت الربيع، وهما يشاهدان العالم يمر أمامهما خصوصا النساء الجميلات. إنهما يشاهدان امرأة تسير مبتعدة، واحدهما يسأل الآخر: إلى متى سوف نجلس هنا ونشاهد فحسب؟ فيجيبه الآخر: حتى النهاية"، هكذا يُشبه ثيو انجيلوبولوس ولعه بالسينما، التي لن يكف عن إدمانها والعمل بها حتى اللحظة الأخيرة من حياته، فهو يتنفسها بعمق وهدوء يتجلى في أسلوبه السينمائي الشعري، وفي استخدامه الدائم للقطات طويلة تزيد في بعضها عن العشر دقائق مع حركة كاميرا وئيدة، تتيح للمشاهد أن يتأمل الحياة التي تعبرها على مهل حتى وان كان الزمن في تلك اللقطة يقفز سنوات للخلف أو للأمام. وكما أن المغامرة وشهوة الاكتشاف تقفان كهاجس خلف الأفلام التي يصنعها ثيو انجيلوبولوس، كذلك تقف الرغبة في التأمل وإعادة صياغة وبناء الواقع والتاريخ والأسطورة. فأفلامه هي محاولة مستمرة من قبله للفهم، لذلك لا يكف فيها عن معاينة المواضيع ذاتها التي تشغله: كالتاريخ اليوناني المعاصر، الحرب، مفهوم الوطن، المنفى، والحدود... بالعودة إليها مرة تلو الأخرى دون أن يفقد -مع كل مرة- دهشة وبراءة التحديقة الأولى إلى الأشياء، ولتغدو تلك المواضيع ثيمات توحد أفلامه -باستثناء "إعادة بناء"، و"الاسكندر العظيم"- في ثلاثيات: كثيمة التاريخ التي وحدت ثلاثية "أيام 36" 1972, و"الممثلون الجوالون"، 1975، و"الصيادون" 1977، وثيمة الصمت في ثلاثية: "رحلة إلى كيثيرا" 1983، و"مربي النحل" 1986، و"منظر في السديم" 1988، ثم ثيمة التخوم في ثلاثية: "خطوة اللقلق المعلقة" 1991، و"تحديقة يوليسيس" 1995، و"الأبدية ويوم واحد" 1998. وهذا يجعلنا نفهم أكثر نظرة ثيو انجيلوبولوس إلى أفلامه على أنها فيلم واحد طويل: "الفيلم الأول هو الأصل، أما الباقي فتنويع أو تطوير يعكس الثيمة الأولى"، لكن لانجاز هذه التنويعات باتساق مع الثيمة الأولى، يلزم فريق عمل متآلف مع ثيو انجيلوبولوس وقادر على التقاط وتجسيد رؤيته، نبضه، إيقاعه، وإحساسه بتناغم. وهذا ما حظي به ثيو انجيلوبولوس بداية عند لقائه بمدير التصوير اليوناني جورجوس أرفانيتيس، حيث استمرت شراكتهما الإبداعية على امتداد مشوار انجيلوبولوس المهني، ومنذ فيلمه السادس "رحلة إلى كيثيرا" لن يفرط انجيلوبولوس أيضا بكاتب السيناريو الايطالي تونينو جويرا، والمؤلفة الموسيقية اليونانية إيليني كاريندرو، اللذين سيعملان معه في كل أفلامه اللاحقة. إضافة جديدة "عالم ثيو انجيلوبولوس السينمائي" إضافة جديدة ونوعية من الناقد أمين صالح إلى المكتبة السينمائية العربية، تأتي بعد ترجمته لكتابي "النحت في الزمن" للمخرج الروسي اندريه تاركوفسكي، و"حوار مع فدريكو فلليني"، حيث ترفدنا هذه الكتب بمعرفة موسعة لفلسفة وعوالم وأعمال مخرجين تميزوا برؤيتهم وأسلوبهم السينمائي، وتركوا بصماتهم الخاصة في تاريخ السينما، كما أن الشهادات الشخصية لهؤلاء المخرجين تتيح لنا اكتشاف معاملهم الإبداعية الداخلية، وكيف أنتجت هذه بدورها، لاحقا، أهم الأفلام العالمية، علاوة على أن أعمال بعضهم -ك ثيو انجيلوبولوس- غير معروفة تماما عربيا، وهو ما يضطلع هذا الكتاب بتقديمه لنا أيضا. رانيه ع حداد هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة