الفيلم التسجيلي يلتزم, يقاوم, يشهد, ويحذر كلما أُتاحت لي الظروف بلقاء أحد السينمائيين من تونس, كنتُ أسأله عن (اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقيّ), ردود الفعل الإيجابية المُتراكمة زادت من رغبتي بمُتابعة الدورة الثالثة, والتي انعقدت في تونس خلال الفترة من 2 وحتى 6 أفريل 2008, وعلى الرغم من كلّ ما سمعته, كنت أظنها احتفاليةً سينمائيةٌ صغيرة, تضمّ مجموعة أفلامٍ جمعتها مديرتها (سهام بلخوجة) من هنا, وهناك, وشكلت حولها تظاهرةً سينمائيةً, كي تُلفتَ الانتباه نحوها أكثر من الأفلام نفسها, كما تصورتُ بأنّ عدد الضيوف أكثر بكثير من الجمهور المحليّ. ولكن, حالما وصلتُ مطار قرطاج الدولي, المألوف بالنسبة لي, تسارعت المفاجآت الواحدة بعد الأخرى. لقد كان المُنظمون في موعدهم لاستقبال القادمين من باريس, وهم أكثر عدداً من آخرين وصلوا من بلدانٍ أخرى, وكان الغداء في موعده كما أشارت المُفوضة العامّة (حورية عبد الكافي) في رسالتها الإلكترونية الجماعية التي وصلتني ليلة السفر, وحتى التنبيه استعداداً للطقس البارد في تونس التي وجدتها (مناخيا)ً مختلفة عما عهدتها في فتراتٍ مهرجاناتيةٍ أخرى : أيام قرطاج السينمائية, المهرجان الدولي لأفلام الطفولة, والشباب/ سوسة, والمهرجان الدولي لأفلام الهواة/ قليبية. وكان الكتالوغ في موعده أيضاً بلغتيّه الفرنسية, والإنكليزية (غابت اللغة العربية عنه, ومن المُفيد بأن يكون مستقبلاً باللغة العربية, والفرنسية فقط). في المساء, تحتمّ علينا الذهاب إلى (المسرح البلديّ) المُجاور ل(فندق أفريقيا) في السابعة والنصف لحضور الافتتاح المُفترض بدايته في الثامنة, وعندما وصلنا, كانت جموع المتفرجين الشباب خاصةً تتأهبّ للهجوم حالما يفتح المسرح أبوابه, وقتذاكَ, فهمتُ أسباب اصطحابنا المُبكر, وبعد دقائق من جلوسنا, امتلأت القاعة, والشرفات العديدة, وبكلّ تواضع, وثقة, وقفت (سهام بلخوجة) فوق المنصة تُعلن افتتاح الدورة الثالثة, وأشارت إلى المتفرجين المنتظرين خارج القاعة يأملون مكاناً شاغراً, وهم أكثر عدداً من الحاضرين المحظوظين, وشكرت الجميع : المُمولين, الداعمين, المُتضامنين, والمسؤولين (الغائبين) عن هذا الحدث الهام, و(الغريب) بأنّ أحداً منهم لم يظهر, ولم نسمعَ أيّ كلمات ترحيبٍ روتينية من ممثلي المدينة, والدولة, ربما تجاهلاً مُتعمداً من طرفهم, ولكن, كان واضحاً تعمّد إدارة (اللقاءات) الابتعاد عن المظاهر الاحتفالية, أو عروض الافتتاح الخجولة/أو المُبهرة المُعتادة في مهرجاناتٍ أخرى, علماً بأنّ (سهام بلخوجة) القادمة من الرقص, والسينما هي الأقدر على انتهاز مناسبةٍ كهذه لتقديم عرضاً ما, ولكنها لم تفعل, وتخيّرت مقاطعة البهرجة التي تطغى في بعض الأحيان على الهدف الرئيسيّ للمهرجان..السينما. وتوضح هذا التوّجه المقصود باختيار فيلميّ الافتتاح, الأول بعنوان(أحمد بهاء الدين عطية, المُغامر) لمخرجه التونسي (رضا الباهي) 26 دقيقة, 2007 هو بمثابة ذكرى وفاءٍ لواحدٍ من أعلام السينما التونسية, والعربية. في أحد مشاهد الفيلم/الوثيقة النادرة يحكي (المُنتج المغامر) عن بدايات مسيرته, وتحوله من النشاط السياسي إلى السينما, وهو القاسم المُشترك لمُعظم السينمائيين التونسيين الذين شحذوا مواهبهم في (الجامعة التونسية لهواة السينما), و(نوادي السينما) التي انتشرت في طول البلاد, وعرضها, ويعود الفضل لها في تكوين كوادر سينمائية, وخلق جمهوراً شغوفاً, ومخلصاً للسينما بكافة أشكالها, وأنواعها, واليوم, فإنّ تزاحمه أمام الصالات حرصاً على مشاهدة أفلامٍ تسجيلية, أفضل مثالٍ على ذلك. والفيلم الثاني, (كلماتٌ بعد الحرب) 58 دقيقة , 2007 لمخرجه الموسيقيّ التونسي (أنور إبراهيم), وثيقة قويةٌ, ومؤثرة, تُلخص أراء بعض المُثقفين اللبنانيين حول المأساة التي عاشها اللبنانيّون فترة الاعتداءات الإسرائيلية على بلدهم في تموز من عام 2006. وبدل أن ينصرف الجمهور فوراً بعد عرض الفيلميّن, أو يتبع الافتتاح سهرةً عامرة, فقد كانت المفاجأة مبادرة نادرة من نوعها في المهرجانات العربية, والدولية, حيث صعدت (سهام بلخوجة) إلى منصة المسرح برفقة المخرج, وأثارت نقاشاً مفتوحاً مع الجمهور حول الفيلم, بينما كانت (جيهان) الراقصة الأولى في فرقتها تهتمّ بدزينةٍ من الضيوف. لم يكن فيلم الختام (محامي الرعب) فرنسا, 2007 لمخرجه (باربيت شرودر) أقلّ التزاماً, وإثارةً للجدل. شيوعيّ, مقاومٌ للاستعمار, أم يمينيّ متطرف, أيّ مبادئ وجهت (جاك فيرجيز) ؟, خلال 135 دقيقة يكشف الفيلم عن الغموض الذي يكتنف حياته, وخاصةً انخراطه في مقاومة الاستعمار الفرنسي للجزائر, وزواجه من (جميلة بوحريد), ومن ثم اختفائه لمدة ثماني أعوام, وبعد عودته يدافع( فيرجيز) عن (الإرهابيين) من كلّ حدب, وصوب وُفق وجهة نظر الغرب حول نشاطاتهم المُسلحة : ماجدالينا كوب, أنيس نقاش, وكارلوس, وعن مجرمي الحرب أمثال الألماني (باربي). **** تخيّرت (اللقاءات) بأن تكون إعلامية, وتعمّدت إدارتها الابتعاد عن المُنافسة بين الأفلام, وفي جلسة عشاء, سمعتُ المدير الفنيّ المخرج (هشام بن عمار) يقول لأحد الضيوف (بأنها فكرةٌ مؤجلة). وبالإضافة لأفلام الافتتاح, والختام, تُجسّد البرمجة التزاماً, وتوجهاً خاصاً نحو القضايا المُلتهبة في مجتمعنا الراهن. وكما جاء في الكتالوغ, لم تكن الاختيارات مجانية, فالبرمجة بناءٌ معماريّ عام, يُضاف كلّ حجر من الهيكل إلى التالي عن طريق الإسمنت/الخطة التحريريةّ. تضمنت البرمجة 75 فيلماً من 17 دولة, تظهر معظمها شكلاً من أشكال الالتزام, النضال, والمقاومة, توزعت, وتقاطعت في محاور مختلفة : * عندما يلتزم الفيلم التسجيلي : صراعات الأمس, واليوم. * عندما يشهد الفيلم التسجيلي : بورتريهات, مصائر فردية, وجماعية. * عندما يقاوم الفيلم التسجيلي : الذاكرة, والمنافي, النساء تتساءلن. * عندما يحذر الفيلم التسجيلي : أين يذهب العالم ؟ بالإضافة لتكريم المخرج التونسي المُقيم في باريس (مصطفى الحسناوي), والفرنسية (آنييس فاردا), اللذان منحا البرمجة ثقلاً نوعياً يتوافق مع فكرة الالتزام التي كشفت عنها (اللقاءات). وبرنامجٌ خاص تحت عنوان (وعودٌ تسجيلية), يقدم أفلاماً قصيرة تمّ إنجازها في إطار مدارس, ومعاهد السينما, المؤسّسات, والورش المُستقلة, أو الأفلام المُمولة من طرف المخرجين أنفسهم. ****** (أولاد لينين) من إنتاج تونس/فرنسا2007, لمخرجته التونسية (ناديا الفاني), فيلمٌ فريدٌ في موضوعه, ويتقاطع مع فيلم (كلماتٌ بعد الحرب) لمخرجه (أنور إبراهيم) في تحطيم محرماتٍ تتعلق بالدين, والسياسة, وفيه لا تخشى الشخصيات المُختارة لتقديم شهاداتها عن العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 من التصريح الواضح بعلمانيتها, ويكشف (أولاد لينين) عن ذكريات عائلة شيوعية تونسية امتلكت تاريخاً حافلاً بالنضال, وتنبش (الفاني) الذكريات, تستعيدها, وتتساءل : كيف يمكن أن تكون شيوعياً البارحة, واليوم ؟ وهل التخلص من الشيوعية, أو الانفصال عن مرجعياتها يحتمّ بالضرورة التخلي عن الحسّ النضالي ؟ فيما مضى, تطرقت بعض الأفلام الروائية العربية لهذه التيمة بخوفٍ, وترددٍ من خلال شخصياتٍ شيوعية( يسارية بالأحرى), ولم تتعرض لها الأفلام التسجيلية العربية بهذا الوضوح, الصراحة, والكشف. فيلمٌ يتمسّك بالنضال, ويرغب بأن يعود, وكما ذكر والد المخرجة في أحد مشاهد الفيلم : لقد أصبحت الشيوعية جثةً ميتةً, ولكنها تتحرك في بعض الأحيان... وربما يرغب الفيلم ضخّ الحياة فيها بشكل يتناسب مع الحاضر . فيلمٌ جرئ, يأتي في وقته, بعد أن اندحرت الشيوعية, وتكاد اليوم تختفي, ولكن, بعد اكتشاف الوجوه الحقيقية المُدمرة للرأسمالية, النظام العالمي الجديد, والعولمة.. فإنّ الجيل الحالي بحاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى للتساؤل عن معنى الاشتراكية, الشيوعية, واليسارية, ليُغربلها من مُخلفاتها, ويسترجع ما هو إنسانيّ فيها. ويُثبتُ تفاعل الجمهور التونسي مع الفيلم, بأنّ (الفاني) لا تبغي بأن يكون استرجاعياً, حنينياً إلى زمانٍ مضى, ولكنها استشعرت رغبات جيلٍ يبحث عن مرجعياتٍ إيديولوجية تحقق طموحاته في التغيير. فيلمٌ/ بيانٌ سياسيٌّ صادقٌ, مؤثر, فعالٌ, وبعيدٌ عن الشعارات, والخطابات. الفيلم الأمريكي(مخيم المسيح/Jesus Camp) لمخرجيه هيدي إيوينغ, وراشيل غرايدي 85 دقيقة, إنتاج عام 2005 يُظهر التطرّف الديني الذي يحتاج إلى مقاومة إنسانية شاملة, فهؤلاء الذين تتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم في (الولاياتالمتحدة) يشكلون قوةً انتخابيةً مُعتبرة, مُؤثرة, وقادرة على أن تُسمع صوتها في الحياة السياسية, والثقافية, وهم لا يؤمنون فقط بعودة المسيح, ولكنهم يستعدون لهذا الغرض, ويجهزون أنفسهم للوصول/الاستيلاء على السلطة في أمريكا باسم المسيح, ويدربون أطفالهم على أبشع أنواع التطرف ضدّ أنفسهم, والآخرين. الفيلم الفرنسي/اللبناني (رحلة يوليو) 35 دقيقة, إنتاج عام 2006 لمخرجه(وائل نور الدين) رحلةٌ إلى بيروت أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو 2006, يتجسّد فعله المُقاوم بالرغبة بتوقف التاريخ عن استنساخ أحداثه المُتتالية, والمُتشابهة, والدوران في حلقةٍ مستمرة, ولكنه, بدوره, يبتعد عن نمطية الأفلام التسجيلية التي صورت العدوان, يتخيّر أسلوباً جمالياً تجريبياً, مختلفا,ً ومخالفاً لتقاليد سيولة السرد المعهودة, وينهج تتابعاً حاداً, فظاً, وصادماً. الفيلم التونسي (عزبز, نوافذ الخطر) 52 دقيقة إنتاج 2008 لمخرجه (جلال بالسعد) أكثر الأفلام التي دخلت إلى قلوب الجمهور التونسي, فهو يكشف عن موهبة الطفل (عزيز) 8 سنوات الفائق الذكاء, والغارق في خيالاتٍ مستوحاة من عالم الرسوم المُتحركة التي تبثها محطات التلفزيون, يشاهدها بانتباه, يُعيد تنظيم قصصها, يخلق منها حكاياته, وشخصياته الخاصة, ويرسمها بإتقانٍ مدهش, ولكنه يعيّ تماماً بأنّ ما يجسّده على الورق لا علاقة له بالواقع, ويُعبر عن رأيه فيما يحدث في العراق, لبنان, وفلسطين, ويمتلك في هذه السن المُبكرة كلّ الإمكانيات (الخيالية) لمُقاومة الاحتلال, والظلم, والفساد, مُتعاطفٌ تماماً مع الضحايا, ويتوعد الجلادين بنهاياتٍ مُفجعة. وبالإضافة للشخصيات العديدة التي جمعها في رسوماته, فقد خلق شخصيةً كريهةً, شريرةً, عدوانيةً, سيئة, وأسماها (Busharon) وهي مستوحاة من شخصيتيّ (بوش), و(شارون), وجهز لهما في مخيلته سيناريوهاتٍ مرعبة كي يخلص العالم من شرورهما(هل يعتبره بوش سلاح دمارٍ شامل ؟). ولكنّ (عزيز) الغارق في العنف المُستوحى من برامج التلفزيون, رقيقٌ, حالمٌ, وعاشقٌ لطفلةٍ تقاربه سناً, تُشاركه حبّه, أحلامه, وخيالاته المُرعبة, والطريفة معاً . **** بعد عرض أفلام الافتتاح, وأنا أهبط سلالم (المسرح البلديّ) هرباً من الزحام, والمُدخنين, أوقفني الناقد السينمائي التونسيّ (خميس الخياطي) ليُجري معي حواراً مُقتضباً لصالح إذاعة (مونت كارلو), في تلك الدقائق القليلة, شرحتُ له انطباعاتي الإيجابية عما شاهدته في اليوم الأول, وطلبتُ منه بأن يُصحح معلوماتي إن أخطأت, حيث ذكرت له بأنّ (اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي) في تونس هي التظاهرة الوحيدة في الوطن العربي المُتخصصة بهذه النوعية من الأفلام, حالما ذكرني ب(المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية, والقصيرة) في الإسماعيلية/مصر, ووافقته بدون تفكير, وفيما بعد, تذكرتُ بأنّ ذاك المهرجان يهتمّ بالأفلام الروائية القصيرة, والتسجيلية معاً. وفي جلسةٍ ختامية جمعتني والمدير الفنيّ (هشام بن عمار), أكدتُ مرةً أخرى على تفردّ (اللقاءات), وتخصصها بالأفلام التسجيلية, وبتواضعٍ ذكرني أيضاَ ب(مهرجان الإسماعيلية), و(المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية) في بيروتDocudays, وتدخلت المخرجة الفلسطينية (بثينة خوري كنعان) كي (نُصححَ معاً) معلوماتنا. يبدو بأنّ( Docudays ) قد توقف (أتمنى بأن تكون المعلومة خاطئة, وغير مؤكدة). يضمّ مهرجان الإسماعيلية الأفلام القصيرة بأنواعها (روائية, تجريبية, وتحريكية), والأفلام التسجيلية بأطوالها المُختلفة. خلال الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر 2008سوف تنعقد في أغادير/المغرب الدورة الأولى للمهرجان الدولي للأفلام التسجيلية. إذاً, وحتى نوفمبر القادم, تظلّ (اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقيّ) في تونس, هي التظاهرة السينمائية الوحيدة في الوطن العربي المُتخصصة بالأفلام التسجيلية, وهي ما تزال في بداية مشوارها(ثلاث دورات), ولكنها أثبتت نضجها المُبكر, تماماً كما الطفل (عزيز) في فيلم (جلال بلسعد), وهي بانتظار (لقاءاتٍ) عربية أخرى كي تحبها, وتتعاون معها, وتتحول إلى نوافذ مُشرعة على الأفلام التسجيلية . صلاح سرميني تونس