تشير أغلب المصادر التاريخية التي وقفت بالتعريف عند إسم فاطمة بنت محمد الفهرية، أن امرأة مسلمة عربية، لُقبت بأم البنين، تعود أصولها إلى ذرية عقبة بن نافع الفهري فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان. وهي شخصية تاريخية خالدة في ذاكرة مدينة القيروان ومدينة فاس، وبالتالي نحن إزاء مرأة ذات أثر ميداني على التاريخ التونسي والمغربي، أسست مع شقيقتها مريم الفهري جامعة القرويين في المغرب عام 859 م، وتُعد أول جامعة في العالم. (توفيت رحمها الله 878 م). لماذا هذه الوقفة مع إسم فاطمة الفهرية ونحن أبناء 2019، وعلى بعد أسابيع من عام 2020؟ لا يمكن حصر مُجمل الأسباب في هذا المقام، ولكن مجرد استحضار مكانة وصورة المرأة في المخيال المجتمعي اليوم، يتطلب بذل المزيد من المجهودات للتعريف بأسماء نسائية رائدة، قدمن الخير الحضاري لشعوب المنطقة، وليس صدفة هذه العلاقة التاريخية بين أصل فاطمة الفهرية، وهي التونسية والمغربية، وبين واقع المرأة اليوم في تونس والمغرب، حيث يبدو هذا الواقع أفضل بكثير مقارنة مع السائد في المنطقة العربية اليوم. هاجرت فاطمة الفِهرية من القيروان عاصمة توسن حينها إلى فاس عاصمة الأدارسية في المغرب الأقصى، لتؤسس مسجداً تحول تدريجياً إلى جامعة تُدَرس العلوم بشتى أنواعِها، وتُخرِّجُ كبارَ العلماء، ووصل إشعاعها إلى أوروبا في القرون الوسطى. بل إن مجرد ذكر فاس، المدينة التاريخية التي أسسها إدريس الثاني في عهد الدولة الإدريسية، وذُكر جامع القرويين وجامعة القرويين نسبة إلى المهاجرين من القيروان، الذين سكنوا أحد أكبر أحياء فاس في أول عهدِها وهو عدوة القرويين، يتم بشكل تلقائي عند المؤخرين وفي مخيال ساكنة فاس والمغرب وتونس، الحديث عن دور هذه الفئة من المهاجرين، لأن فاطمة بنت محمد الفهرية التي قدِمت من تونس إلى عاصمة الدولة الإدريسية مع والدها الفقيه القيرواني محمد بن عبد الله الفهري وأختِها مريم في أيام الأمير يحيي بن محمد بن إدريس، كانت منهم. ما جرى إذن، أن فاطمة الفهرية نزحت مع العرب النازحين من مدينة القيروان موطنها الأصلي إلى أقصى المغرب ونزلت مع أهل بيتها في عدوة القرويين زمن حكم إدريس الثاني، حتى تزوجت هناك. ولم يمض زمن طويل حتى توفي والدها وزوجها فورثت عن والدها ثروة طائلة شاركتها فيها أخت لها هي مريم بنت محمد الفهري التي كانت تكنى بأم القاسم. ومعلوم أيضاً، كما نقرأ في المصادر التاريخية، ومنها ما حرره المؤخر المغربي عبد الهادي التازي، أن وهو رجل تونسي عربي من القيروان اسمه محمد بن عبدالله الفهري كان ذا مال عريض وثروة طائلة، ولم يكن له من الأولاد سوى بنتين هما: فاطمة ومريم، أحسن تربيتهما واعتنى بهما حتى كبرتا. فلما مات ورثته ابنتاه ورأتا ضيق المسجد بالمصلين أحبتا أن تخلدا ذكر والديهما بخير ما درج عليه المسلمون باتخاذ المساجد سلماً للمجد. عمدت فاطمة الفهرية إلى مسجد القرويين فأعادت بناءه مما ورثته من أبيها في عهد دولة الأدارسة في رمضان من سنة 245ه، وضاعفت حجمه بشراء الحقل المحيط به من رجل من هوارة، وضمت أرضه إلى المسجد، وبذلت مالاً جسيماً برغبة صادقة حتى اكتمل بناؤه في صورة بهية وحلية رصينة. يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه "شهيرات التونسيات" الذي ألفه في العشرينات من القرن الماضي حول الطريقة التي سلكتها في بنائه، إنها "التزمت أن لا تأخذ التراب وغيره من مادة البناء إلا من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها فحفرت كهوفاً في أعماقها وجعلتْ تستخرج الرمل الأصفر الجيد والجص والحجر لتبني به تحرياً منها أن لا تدخل شبهة في تشييد المسجد". ويذكر الدكتور عبد الهادي التازي، في رسالته لنيل الدكتوراه، أن "حفر أساس مسجد القرويين (جاءت تسمية القرويين نسبة إلى موطنها القيروانتونس) والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله". [تتواتر الروايات التاريخية في ذكر صوم فاطمة طوال فترة بناء المسجد التي امتدتْ إلى سنة 876م، أي حوالي 18 سنة] من نتائج ها السبق العلمي والتاريخي الذي قامت به فاطمة الفهرية، أن جامعة القرويين تُعدّ أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين، حيث تخرّج منها العديد من الأعلام المسلمين والغربيين، كما كان لهذه المؤسسة دورها السياسي إلى جانب دورها التربوي والعلمي؛ فلقد أشار علماء التاريخ الإسلامي إلى أنّ اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة من بيعة وحرب وسِلْم كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين. وفي عهد الوصاية الفرنسية على المغرب سنة 1912، كان جامع القرويين مركزاً للمقاومة ومعملاً يصنع أبطالها؛ وبفضل القرويين، وصف عبد الواحد المراكشي مدينة فاس في القرن السادس في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" قائلاً: "مدينة فاس هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا، وموضع العلم فيه؛ اجتمع فيها علم القيروان وعِلم قرطبة"، كما نقرأ في تحفة "جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري" للراحل عبد الهادي التازي، وهوالعمل الصدر عن دار الكتاب اللبناني. هكذا إذن أنتج الجامع جامعة، ليتم الخوض البحثي العالمي أهمية المكانة العلمية الفريدة لجامع القرويين منذ القرن 12 الميلادي، كما تطورت مكتبته لاحقاً عبر الكتب والتبرعات والأوقاف وجهود الحكام لزيادة مقتنياتها، وحافظت القرويين على قيمتها كمركز للمعرفة الدينية والعلمية في العالم الإسلامي، بل جذبت الجامعة العديد من العلماء والفلاسفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، ابن رشد، وابن باجة، وابن خلدون، وموسى بن ميمون، والشريف الإدريسي، وكذلك بابا الفاتيكان "سيلفستر" الذي يعتقد أنه نقل الأرقام العربية إلى أوروبا.