لطالما كانت مغربيات العصر الحديث سباقات إلى التميز والولوج لمجالات عديدة على الصعيد العربي- الأمازيغي، والإسلامي، ولعلهن ورثن هذه الخصلة عن "جدَّتهن" التي لولا عزمُها وقوة إرادتها لما ضمَّت أرض المغرب الأقصى مسجد القرويِّين الذي ظل يعتبر إلى يومنا هذا أول معهد ديني وأكبر كلية عربية ببلاد المغرب الأقصى، لتُصبح بذلك فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني المعروفة بأم البنين الفهرية هي مؤسسة أول جامعة في العالم وهي "جامعة القرويين". صرح علمي باهر.. بَنتهُ امرأة ويؤكِّد المؤرخ العلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني في كتابه "فاس عاصمة الأدارسة"، " أنّ جامعة القرويين تُعدّ أقدم جامعة في العالم، وقد سَبَقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر. كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين"؛ ليُضيف الدكتور حسين مؤنس في كتابه "معالم تاريخ المغرب والأندلس" "أنّ جامع القرويين يُعتبر أقدم جامعة في تاريخ الإسلام". مراجع تاريخية عديدة، تذكُر أن أم البنين فاطمة الفهرية تطوَّعت ببناء المسجد وظلت صائمة ونذرت ألا تفطر يوما حتى ينتهي العمل فيه. كما تروي كتب التاريخ أن أم البنين عقدت العزم على ألا تأخُذ تُرابا أو مواد بناء من غير الأرض التي اشترتها بِحُر مالها، وطلبت من عمال البناء أن يحفروا حتى أعماق الأرض يستخرجون من أعماقها الرمل الأصفر الجديد والأحجار والجِص ليستخدموه في البناء. ويَذكُر الدكتور عبد الهادي التازي في رسالته لنيل الدكتوراه، أن "حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتسبة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله". الثروة لأغراض الخير ولدت فاطمة الفهرية بقيروان تونس، وهي ابنة رجل عربي يدعى الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفِهري القيرواني الذي كان من عداد المهاجرين القيروانيين الذين وفدوا إلى مدينة فاس منذ الأيام الأولى للإمام إدريس بن إدريس الذي حكم المغرب، وكان ذا ثَروة طائِلة، وقد وفدت معه فاطمة إلى فاس وهي صغيرة السن؛ فلما تزوجت مات زوجها الذي كان هو الآخر يُعَدّ من الأغنياء، فوَرِثت مالاً كثيراً، وكان لها أخت تُدعى مريم تُكَنّى ب "أم القاسم"؛ حيث عَزَمت كل منهما على صرف ما ورثتاه في وجوه الخير حتى يكون ذُخراً لهما بعد موتهما. جامعة رائدة علميا وسياسيا ويذكر المؤرخون أن العديد من الأعلام المسلمين والغربيين الوافدين من شمال إفريقيا والجزيرة العربية وأوروبا، تخرَّجوا من هذه الجامعة، وبني حولها مجموعة من المدارس كانت في نفس الوقت مراكز لإيواء الطلبة الوافدين من داخل المغرب وخارجه، وغدا مسجد القرويين بما درج عليه منذ تأسيسه ولمدة ألف عام من طرق التدريس المنهجية ومراحل التعليم المتدرجة، وتخصيص كراسي الأستاذية ومراسيم تعيين العلماء ودرجات كل منهم، وما يمنحونه للطلبة من شهادات "دبلومات"، جامعة حضارية تدرس مختلف العلوم والفنون. إلى جانب ذلك، كان لهذه المؤسسة دورها السياسي إلى جانب دورها التربوي والعلمي، حيث أشار علماء التاريخ الإسلامي إلى أنّ اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة من بَيعة وحرب وسِلْم كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين، وجذبت إليها الكثير من الطلاب باعتبارها أكبر كلية تضم المواد الأدبية والعلمية مثل النحو والجغرافيا والتاريخ الإسلامي والمنطق والحساب والرياضيات والطب والكيمياء والفلك. كما أنه فيعهد الاحتلال الفرنسي للمغرب، كان جامع القرويين مركزاً للمقاومة ومعملاً يصنع الأبطال والمجاهدين.