هداها تفكيرها إلى فعل الخير، فعقدت العزم وأعطت أوامر البناء، الذي أصرت مع أول أيامه على بدء الصوم ونذرت ألا تفطر حتى ينتهي العمل فيه.. و حين اكتمل البناء صلت فيه ساجدة شاكرة.. إنها فاطمة الفهرية الملقبة بأم البنين، أثرى أثرياء زمانها، التي ينسب إليها بناء أول جامعة عربية إسلامية بفاس، فمن تكون هذه المرأة الصالحة التي قال عنها بن خلدون: «فكأنما نبهت عزائم الملوك بعدها»؟ في زمن حكم إدريس الأول، كانت وفود من المهاجرين تصل إلى مدينة فاس.. كان من ضمنهم رجل عربي فقيه من القيروان اسمه محمد بن عبد الله الفهري، وكان ذو مال عريض وثروة طائلة، ولم يكن له من الأولاد سوى بنتين هما: فاطمة ومريم، أحسن تربيتهما واعتنى بهما حتى كبرتا. بناء مسجد القرويين مات محمد الفهري وورثت ابنتاه فاطمة ومريم ماله الوافر وأصبحتا من أثرياء زمانهما، ففكرتا في شيء يعود على أبيهما وعليهما بالنفع والخير الوفير. كانت فاس قد نشأت مع تأسيس دولة الأدارسة ك«دار فقه وعلم»، وأخذت تتوسع بسرعة، ولذلك رأت الأختان أن تساهما في ذلك بعمل يخدم «دار الفقه والعلم» فاهتدت فاطمة الفهرية إلى بناء جامع القرويين واختارت الضفة الغربية وشرعت في اتخاذ الخطوات الأولى في البناء.. اشترت أرضا بيضاء بالقرب من منزلها بالقرويين ودفعت لصاحبها بسخاء، حتى إذا شرعت في البناء عقدت العزم على ألا تأخذ ترابا أو مواد بناء من غير الأرض التي اشترتها بحر مالها، وطلبت من عمال البناء أن يحفروا حتى أعماق الأرض المزمع إقامة البناء عليها، فأخذوا يستخرجون من أعماقها الرمل الأصفر الجديد والأحجار والجبس ليستخدموه في البناء، وهي بذلك تهدف إلى منع وجود أي شبهة تشوب مشروع تشييد البناء في المسجد، ومع أول أيام البناء أصرت على بدء الصوم، ونذرت ألا تفطر يوما حتى ينتهي العمل فيه . بدأ الحفر في صحنه لإنشاء بئر من أجل شرب البنائين ولاستخدام الماء أيضا في أعمال البناء، ثم عمدت بعد ذلك إلى حفر بناء أساس وجدران المسجد. وقامت بنفسها بالإشراف على أعمال الأساسات والبناء، فجاء المسجد فسيح الأرجاء محكم البناء، وكأن فاطمة عالمة بأمور البناء وأصول التشييد، لما اتصفت به من مهارة وذكاء، فبدا واضحا شكل المسجد في أتم رونق وأزهى صورة وأجمل حال وأبهاه، حتى إذا انتهى العمل وتم البناء كان أول رمضان سنة 245 من الهجرة، فصلت فاطمة صلاة شكر لربها على فضله وامتنانها لكريم لرزقه وفيض عطائه الذي وفقها لبناء هذا الصرح الذي عرف بمسجد القرويين . يذكر الدكتور عبد الهادي التازي أن «حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت لبنائه وظلت صائمة محتسبة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله». مريم المنسية في المقابل، قامت أختها مريم الفهرية، بعد سنة من انطلاق أشغال تشييد جامع القرويين، باختيار الضفة الشرقية لفاس، أو «عدوة الأندلس» لنزول المسلمين النازحين من الأندلس فيها، لتبني فيها جامع الأندلس عام 245 ه أيضا، الذي أخذ ينافس «جامع القرويين» في جذبه العلماء وطلبة العلم، حتى قال فيه الإمام الجزنائي في القرن التاسع الهجري في مؤلفه «جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس»، إنه «كان هناك جملة من الفقهاء يدرسون العلم في مواضع من هذا الجامع، وإنهم كانوا أهل شورى ممن يقتدى بهم ويقصدهم الناس من أقطار البلاد». للأسف لا توجد مصادر تذكر مريم الفهرية، وفقط القليل عن أختها فاطمة الفهرية مما ورد أعلاه، لكنهما خلدتا اسميهما بمعلمتين خالدتين، إذ لا زال جامع القرويين إلى جوار جامع الأندلس يؤديان الدور المنوط بهما في نشر الإسلام والعلوم. وكانت نية أم البنين صادقة لوجه الله في بناء مسجد أسس على الصدق والتقوى، فأضحى مسجدا وجامعا وأول معهد ديني وأكبر كلية عربية في بلاد المغرب الأقصى، بل وأول جامعة في العالم.