كنت دوما مهووسا بالتدريب وأتمتع بفوضى الاندهاش أمام المدربين ..كنت أقترب منهم و أحيانا أتحول إلى صديق حقيقي كاتم للاسرار ..كان المدربون الذين عرفتهم أوصادفتهم طيلة حياتي المهنية.. يثقون بي لدرجة البوح ..و كانوا يتحملون جبال أسئلتي حول التقنيات و التكتيكات ..كانوا يعجبون بإلحاحي في سبر بعض الأغوار العميقة المتدلية وسط زوابع الدفاتر و المفكرات الفنية .. تابعت دورة تدريبية في السبعينات للفيفا مع مشروب صودا شارك فيها الأستاذ الصحفي اللامع والشاعر أحمد صبري كمدرب و تابعت دورة أخرى في سنغافورة ضمن تكوينية للاتحاد الآسيوي في الثمانينات ..و أحمل شهادتها ..قرات بنهم العديد من الكتب التي ألفها مدربون مشهورون أجانب منها على سبيل المثال لا الحصر الكرة الشاملة للمدرب الروماني الشهير ستيفان كوفاك ..إضافة لكل التحليلات الفنية عبر المجلات الفرنسية فرانس فوتبول و ليكيب ماغازين و الأونز و اليومية ليكيب ..مثلي مثل غيري من المتابعين المهتمين ..و لا أكتفي بالتفسيرات التقنية التكتيكية بل كنت أدون أفكار و فلسفات التناول و التدبير عند المدربين عبر حواراتهم المطولة في المقروء و المسموع و المرئي .. كانت رائحة التقنيات و التكتيكات تفوح من داخلي و تسكن نفسي و عقلي و لم أفكر يوما أن أتطفل لأصبح مدرب "الغفلة"..أو أضيف بعض الدورات التكوينية التدريبية وأتسلح بشهادات "الحضور" فأصبح مدربا كاذبا تفضحني الأيام بسهولة حتى لو كنت أكبر – قافز – في التاريخ ..كان كل اهتمامي أن أعرف بعض أسرار كرة القدم لما قد يدبرها المدربون داخل رقعة الملعب ..و في مرة قال لي المدرب الفرنسي لوشانتر.. لقد درست 15 سنة كلها فقط لأعرف كرة القدم ..واستنتجت أن أي مدرب في العالم هو غالي الثمن لأنه يستحق و لأنه يضع حقيبة أغراضه دوما جاهزة ..فعندما لا تساعده الأرقام عليه أن يرحل ..و لأنه يحمل باستمرار فوق رأسه و بين وجدانه جبالا من الضغط العصبي ..قبل و خلال و بعد المباراة ..خسر أو تعادل أو فاز ..مفكرته التقنية دوما مفتوحة .. وعندما أذكر بعض بصمات المدربين على ذاكرتي الجائعة.. أتذكر اليوغسلافي فيدينيك الذي أمر عمالقة لاعبي الستينيات أن يتدربوا بالكرة في مواجهة الحائط ..و المدرب المصري المعروف عبد المنعم الحاج الذي أشرف على منتخب العرب بالدوحة أمام منتخب مختلط من هولندا..أجاب عندما سألته عن التعليمات التي يمررها لفريقه كيف ..في المباراة وعندما يتعلق الأمر بمتغير طارئ أشير فقط للاعب واحد بذلك و المثال كان للنجم الكبير فاروق جعفر ..أشير له بخفض الايقاع أو قتله ..و أكون سابقا قد أوصيت اللاعبين بأن يعطون كل الكرات لفاروق في حالة الحيرة و لو صغيرة ..كان فاروق جعفر نجما مبدعا كبيرا و ذكيا و يحمل مواصفات بديل المدرب داخل الملعب و قد أصبح بعدها مدربا مرموقا في بلده ..كان إما يراوغ بالتمويه ليسقطه الخصم أو يحصل على مخالفة ..فيؤخر اللعب و يتمارض للتداوي ..أو يدفع باتجاه لعب الكرة في مناطق آمنة ..المهم أن ينزل إيقاع اللعب لأقصى درجة ممكنة إضافة لكثرة توقف اللعب ..و هو أمر ينهك نفسية الخصم و يؤثر على تركيزه ..الخ .. وعندما تحدتث مع المدرب الكبير عبد القادر يومير عن الايقاع ..ابتسم و أكد لي أن أي مدرب في العالم يفكر ألف مرة قبل أن يستعمل ورقة إيقاع اللعب ..لأنه يحرك كل فعاليات التنفيذ الممكنة و التي لابد أن تكون عالية عند اللاعبين ..فالتدبير الزمني إشكالية حقيقية أمام أن تنتقل من البطء إلى السرعة أو العكس و ما بينهما عادي يرميك لملامح غامضة قد يجتهد اللاعبون فينجحون أو تنعكس الآية .. يومير والناصري من أقوى و أذكى من عرفتهم خلال مسيرتي المهنية و لا تتساءلوا لماذا لم ينجحوا بمعنى الاكتساح لأننا جميعا نعرف الظروف القاسية و شبه منعدمة الامكانات في المغرب و عربيا ..و كان مصطفى مديح الأول في دفعته ببلجيكا وكان صحبته عبد القادر يومير و عبد الخالق اللوزاني ..و مصطفى تميز بواقعية الواقعية و تشبت بأكاديميته و هذا بالتأكيد يحقق النتائج و البطولات و لكن غير مصحوب بالفرجة و الاحتفالية ..و خارجيا يشبه الأمر حالة البرتغالي جوزي مورينيو ..يحقق الأرقام و ينجز البطولات لكنه لا يمنحك الفرجة و الاحتفالية إلا نادرا .. و النادر لا حكم له ..و عبد الخالق اللوزاني كانت مفكرته الفنية في اعتماد لعب دفاعي متطرف ..بينما الناصري المتخرج من معهد مولاي رشيد كان يحمل فكرا كرويا عاليا و قد قرأت أطروحته – كرة القدم المتحركة – لوفتبول أون موفمان -..وأتذكر أن رئيس المعهد آنذاك مصطفى بلحسن كان معجبا بالأطروحة و ناقشناها معا لساعات طويلة في مكتبه بالمعهد . ..كان بإمكان يومير أن يحقق إضافة ما لكرة القدم المغربية عبر النخب و لكنه رغم صعوبة و قلة الممكنات لم يحض مع الأسف بفرصة حقيقية حضي بها أقل منه تكوينا و كفاءة و خبرة .. أما من الجيل الجديد فهناك السكيتيوي ..و هو يمارس ولكن أنا متأكد أن وضع الكرة و الأندية في المغرب تفرض قيودا تنجح غالبا في زرع ألم الإحباط و اليأس .. ذاكرتي تحمل و تحبل بالتناولات المتعددة ..لكن فقط أؤكد أن الإطار المغربي مصاب بالغبن و لا تصدقوا أنهم منحوه بعض الفرص لأنها أصلا فرص مجهضة ..مسمومة ..أو فرص الأفخاخ..