تقديم يأتي التفسير على رأس العلوم التي تعكس التفاعل الإنساني مع الوحي، إنه -بمعنى آخر- الصورة المثلى للقاء الإنسان مع الله عز وجل وتواصله معه: فهما لآياته وتمثلا لأحكامه، لذلك كان التفسير من أقدم العلوم والمجالات التي شهدت على استمداد الإنسان من الوحي واستناده إليه. وهو إلى جانب ذلك، يتميز بخاصية التجدد والاستمرارية بما يعرضه من الدلالات القرآنية المتجددة والمستمرة في الوجود والكون. وقد مر التفسير بمراحل في تاريخه، تشكلت فيها صورته وتحددت مادته، على أساس التفاعل بين رؤيتين: رؤية النص المفسَّر، أي: الرؤية القرآنية التي تنزلت تباعا مع تنزلات الوحي، حتى استوت واكتملت مع إكمال الدين وإتمام النعمة به على المسلمين، ورؤية النص المفسِّر أي الرؤية الإنسانية التي تلقت هذا الوحي تبيّنا وبيانا وتنوعت مستويات هذا التبين والبيان بحسب الزمان والمكان والإنسان. فكان التفاعل بين الرؤيتين -على مر العصور التي تلت نزول الوحي إلى الآن- تتجاذبه هيمنة رؤية المفسر أحيانا، وهيمنة رؤية النص المفسِّر أحايين قليلة. ولأن المفسر قبل أن يكون شارحا لكلام الله تعالى، هو إنسان منفعل بثقافة معينة ومجتمع معين، لم يكن بالإمكان فصله عن خلفياته الثقافية والسلوكية والمجتمعية تلك، لكن القرآن الكريم -في المقابل- لا يمكن بحال توجيه دلالاته تبعا للتصورات المذهبية والآراء الخاصة للمفسر، كيف وهو الكتاب الذي جاء ليتخطى حدود الزمان والمكان والإنسان؟ تلك هي إشكالية التعامل مع القرآن الكريم، وإشكالية علم التفسير بصورة أدق: إشكالية تتحدد أسئلتها الكبرى في: كيفية التوفيق بين رؤية المفسر التي توجه عمله التفسيري وفهمه القرآن وتمثل دلالاته، وبين الرؤية القرآنية المودعة في كلماته وآياته وسوره؟ وهل من مدخل آمن إلى التفسير، وإلى اقتناص تلك الرؤية القرآنية الخالصة، يعصم صاحبه من السقوط في مزالق التأويل الجاهل والتحريف الضال؟ لا نزعم في هذا المقام الضيق الإجابة على هذه الأسئلة الكبيرة، وإنما هي محاولة لطرق باب البحث في هذه القضية، نبرز من خلالها وضع التفسير بين التوجيه المذهبي، والمدخل المصطلحي، على أساس أن التوجيه المذهبي شكل المأزق في هذه المسألة بينما نرجو أن يشكل المدخل المصطلحي حلا لها. وقبل الحديث عن كل من المأزق والحل، يلزم أولا بيان المقصود بالتوجيه المذهبي والمدخل المصطلحي: أما التوجيه المذهبي، فالمقصود به هنا التأثير الذي تركه التمذهب بصورته المختلفة العقدية والفقهية في التفسير، وتوجيهه لخدمة آراء المفسرين. أما المدخل المصطلحي، فقد يكون في استعمال لفظ "المصطلح" هنا بعض التجاوز والتجوّز لما كان يستعمل عند القدماء (فهم عادة ما يستعملون كلمة: اللفظ أو المفردة، أو الكلمة) إلا أن القصد هنا وهناك واحد، وهو اعتبار الألفاظ والمفردات والمصطلحات مدخلا لبيان القرآن الكريم كله، على اعتبار أن المصطلحات هي مفاتيح العلوم والمداخل الطبيعية لها، ولم نقل هنا المدخل اللفظي أو "المفرداتي"، حتى لا يلتبس الأمر بالتفسير اللغوي المحض الذي لا يصل إلى بيان الدلالات القرآنية المتضمنة في المفردات، لذلك كان التعبير بالمصطلح أدق[1]، لأنه الوعاء الأنسب لما تحمله مفردات القرآن الكريم من مدلولات ورؤى خاصة. 1. المدخل المصطلحي وبدايات التفسير سجلت أولى مراحل التعامل مع القرآن الكريم -زمن النزول- اهتماما خاصا بالألفاظ والمفردات القرآنية، خاصة تلك التي كانت تحتاج إلى بيان، إما لأن الآذان لم تألفها، وكانت قليلة الاستعمال بعيدة المعنى، أو لأنها كانت تحمل مدلولات جديدة لم تعْرف العرب لها مثيلا في معجمها الدلالي. وقد أثمر هذا الاهتمام الخاص البدايات الأولى للتفسير ممثلة في ما يعرف بكتب الغريب التي ستخرج من رحمها كتب المفردات وهي معاجم للمصطلحات القرآنية. ولم يكن عبثا ولا من قبيل الصدفة أن تتوجه عناية المفسرين الأوائل من الصحابة والتابعين إلى تفسير الألفاظ والمفردات؛ فقد يكون ذلك منسجما مع طبيعة المرحلة وطبيعة المتلقين للقرآن الكريم. حيث كان التحدي الأكبر للقرآن الكريم هو المتمثل في اللغة، ولذلك انصرفت جهود العلماء في هذه المرحلة إلى التعامل مع المعجم القرآني الخاص الذي استعملت فيه أحيانا ألفاظ بعدت عن الفهم واحتاجت إلى البيان ممن لهم علم ودراية بالمعجم اللغوي والشعري الموروث عن العصور السابقة. وقد يكون ذلك إشارة إلى أهمية فهم هذا المستوى من النص: مستوى المفردات، ومحوريته في فهم الآيات.
لقد أثمرت هذه المرحلة -كما سبقت الإشارة- ما يسمى بكتب الغريب، فكانت هذه الكتب التي لم تتعد تفسير المفردة الغريبة البدايةَ الحقيقية للتفسير. ثم سرعان ما أضيفت إلى هذا المستوى المعجمي الخالص، مستويات تركيبية وصوتية وقرائية فرضتها طبيعة الخطاب القرآني، وهو ما أنتج ما يسمى بكتب معاني القرآن. ومع التطور الذي شهده علم التفسير، تفرقت سبل العلماء في رسم استمرارية هذا العلم، بين منهج معجمي حافظ على خصائص تفسير الغريب وطورها، وبين منهج تفسيري، سار نحو توسيع دائرة البيان، لتشمل اللغة والقراءة والمعاني والأحكام، مع ما صاحب هذا التوسيع من ضرورات جمع الأقوال وتوثيقها والترجيح بينها، وما صاحبها أحيانا من حجاج ومحاورات علمية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد بدت آثار ثقافة المفسر وطبيعة العلوم والمعارف السائدة في عصره، على مسار التفسير، فظهرت نزعة التخصص والتمذهب التي كان تفسير القرآن الكريم -لأسباب مختلفة- مجال عرضها واستعراضها، ومآل استمداد الحجية والشرعية لها. 2. التوجيه المذهبي ومقاصد التفسير في تتبعنا لهذا المسار الذي تدرَّج فيه علم التفسير، نلحظ بوضوح أن غاية التفسير، التي كانت في البدايات الأولى متمركزة حول النص المفسَّر تروم بيانه للناس، وإخراجه من دائرة الخفاء إلى دائرة التجلي، ومن دائرة الفهم إلى دائرة التطبيق، قد زاغت عن ذلك لتتمركز حول المفسِّر، وآرائه ومذهبه وثقافته، وهذا ما نلمحه في التفسير المتخصص أو المذهبي بأنواعه وألوانه: فالتفسير الفقهي، متمثلا في كتب الأحكام، لم يركز على بيان مراد الله عز وجل من كتابه، والكشف عن مقاصده. وإنما كان همه الأساس بيان الأحكام الفقهية والتدليل عليها، حتى وقع التعسف في تفسير الآيات بتحميلها من الأحكام الفقهية وفروعها ما لا تحتمله سياقاتها، ولا تعبر عنه دلالاتها القرآنية! مما جعل هذا التفسير مدخلا للفقه، والقرآن الكريم خادما للمذهب الفقهي وليس العكس. وقد تنبه أصحاب مدرسة المنار إلى خطورة هذا المنحى في التفسير، وفي تفسير المنار إشارات بليغة في نقد هذا المنحى، من ذلك ما جاء في معرض تفسير الآية: 172 من سورة البقرة: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم: "ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل، وقد قلنا إننا لا نعترض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف" ويعلق رشيد رضا على كلام أستاذه الإمام هنا بقوله: "إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة في ترك المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته… وقد زاد المفسرون على هذه المحرمات تبعا لفقهائهم محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر وبعموم تحريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر. وقد حققت هذه المسألة في تفسير: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم [سورة الاَنعام / الآية: 146] إلخ، وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف"[2]. أما التفسير الكلامي، فقد كانت مقاصده الكبرى تتحدد في التدليل على صحة المذهب الكلامي للمفسر، والبحث عن شرعية الآراء والاجتهادات الكلامية في الآيات القرآنية، معتمدا في ذلك على آلية التأويل المجازي تارة وعلى ثنائية المحكم والمتشابه تارة أخرى. فلم يقصد هذا التفسير بيان القرآن للناس، وتفهيم مراده عز وجل الذي قصده من كلامه، بل جعله مجالا لعرض مسائل وجزئيات وتفريعات لا علاقة لها بالآيات القرآنية دلالة وسياقا، فكان بذلك تفسيرا مذهبيا موجها للنخبة خادما لمقاصدها، ولنا في تفسير الفخر الرازي "مفاتيح الغيب" خير مثال على ذلك، حيث يأخذنا في متاهات التفريعات من مسائل ووجوه وأمور وأقوال، وكلها في استطرادات علمية لا علاقة لها بتفسير الآية المقصودة بالتفسير[3]. أما التفسير الصوفي أو الإشاري، فإن بناءه على أساس تقسيم الخطاب القرآني إلى ظاهر وباطن، وتقسيم المتلقين للقرآن إلى عامة وخاصة، وأن الوصول إلى الباطن لا يتأتى إلا للخاصة عن طريق التأويل الإشاري، المبني على آليات عرفانية كالإلهام والكشف والتجلي والرؤيا… لم يدَع مجالا لاعتبار قواعد الخطاب في العملية التفسيرية من سياقات لفظية ومقامات تداولية. وهو إلى ذلك تفسير ينطلق من القرآن الكريم باعتباره مصدرا للإشارات العرفانية، فيفهمها بحسب ما تمليه عليه التجربة الصوفية الخاصة، وهو بهذا المعنى يتقاطع مع أنواع من التفسير المتخصص الذي جعل تخصصه المعرفي يهيمن على فهم القرآن وليس العكس، وكما كانت تلك الأنواع من التفسير تلبي حاجة المتخصصين في تلك المعارف (نحوية أو فقهية أو كلامية)، فإن التفسير الإشاري يلبي أيضا حاجة خاصة ويعرض معرفة من نوع خاص موجهة لطبقة خاصة. إن جنوح التفسير بكل اتجاهاته وأطيافه، إلى خدمة المفسِّر على حساب المفسَّر، والتمكين للمذهب والثقافة الخاصة للهيمنة على القرآن، لا لهيمنة القرآن على ذلك المذهب وتلك الثقافة، يجعل قيمة هذا التفسير اليوم، -بالنظر إلى المقاصد التي يجب أن توجهه وهي بيان القرآن للناس- تنحسر لتصير مجرد قيمة تاريخية، لا تأثير لها في واقع الناس، ولا في تلقي معاني القرآن الكريم الملائمة لهذا الواقع. وفي أحسن الحالات هي قيمة علمية وثقافية محضة بحيث أغنت مكتبة التراث بالعلوم والمعارف التي وظفت في التفسير كاللغة والبلاغة والفقه والكلام وغيرها… والسبب في ذلك يرجع أساسا إلى المنهج الذي انتهجه هذا التفسير عموما في التعامل مع القرآن الكريم، منهج جعل المذهب -كلاميا كان أو فقهيا- هو الموجه الأساس لعملية التفسير: فهما واستنباطا، ففُسِّر القرآن بمقتضى ما يريده المفسر ويقصده، لا بما يدل عليه القرآن الكريم ويقصده، والقرآن الكريم إنما يمنح التجدد والاستمرارية لمفسره إذا جعل المفسر الدلالة القرآنية وسياق الخطاب هما المنطلق للتفسير، والفهم لمقاصده وتمثل هداياته هو الغاية منه. هذا الوصف لحال التفسير لا يعني خلو كتب التفسير مطلقا من بيان القرآن للناس، كما لا يعني غياب مسارات أخرى في التفسير لم تتأثر بالتوجيه المذهبي، وجعلت التفسير جامعا لبيان القرآن خادما لما للناس به حاجة[4]. وإذا كان الأمر على ما وصف، فكيف نحدد مواصفات التفسير الذي ينفع الناس، فيفهِّمَهم كلام ربهم ومراده، وكيفية تنزيل ما يفهمون؟ وإذا كان التأثير المذهبي قد أعاق تحقيق هذه الأهداف، فكيف يمكن الرجوع إلى ذلك المدخل الآمن للتفسير الذي تبينا بعض ملامحه من خلال تعامل السلف مع القرآن الكريم، المدخل المفضي إلى تفسير يقرب القرآن إلى الأذهان والقلوب والعقول، فيجعلها تتمثله كما لو كانت قرآنا يمشي على الأرض؟ 3. المدخل المصطلحي ومقاصد التفسير: اهتمام القدماء باللفظ القرآني مدخلا للتفسير ليس بدعا من القول الدعوة اليوم إلى الالتفات إلى الألفاظ والمفردات والمصطلحات، واعتبارها مدخلا للتفسير، فقد ألمح الراغب الأصفهاني رحمه الله، منذ القرن الخامس الهجري إلى أهمية تحقيق المفردات القرآنية، في فهم معاني القرآن الكريم، وفهم العلوم المحيطة به، حين قال في مقدمة كتابه "المفردات": (إن أول ما يُحتاج أن يُشتَغَل به من علوم القرآن، العلومُ اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيقُ الألفاظ المفردة فتحصيلُ معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المُعاون لمن يريد أن يدرك معانيه… وليس ذلك نافعاً في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علمٍ من علوم الشرع، فألفاظ القرآن: هي لبّ كلام العرب وزبدتُه وواسطته وكرائمُه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكَمِهم، وإليها مَفزعُ الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم…)[5]. وكما تطور تفسير القرآن الكريم في المسار الذي وصفنا آنفا، كان هنالك مسار آخر، لمجالات وعلوم اعتبرت من أهم المداخل إلى التفسير، وكان محورها اللفظ القرآني، وتحقيق دلالاته، وتتبع سياقاته، كعلم الوجوه والنظائر الذي ظهر منذ القرن الثاني الهجري عند جلة من أتباع التابعين ألفوا في وجوه القرآن ونظائره، وهم يقصدون بذلك: الألفاظ الدائرة في القرآن الكريم على وجوه -أي معان- متعددة[6]. وكمعاجم المفردات القرآنية، التي تعتبر الامتداد الطبيعي لكتب الغريب. إن كتب الوجوه والنظائر، تعكس لونا خاصا من دراسة الألفاظ القرآنية، تتقاطع مع كتب المفردات في الغايات، وتتباين معها في المنهج والأدوات. فقد كان هم الدارسين لهذه الوجوه والنظائر ملاحظة دلالات الألفاظ في سياقاتها المختلفة، واقتناص هذه الدلالات من النصوص القرآنية مباشرة. ورغم اختلاف الدارسين في تصنيف "علم الوجوه والنظائر" ضمن فروع اللغة أو فروع التفسير، فإن ارتباط هذا العلم بالقرآن الكريم وبالتفسير ظاهر بيّن، لكن الذي يميز كتب الوجوه والنظائر أساسا هو منهج عرض المادة، والمقاصد العلمية التي تكمن وراء هذا النوع من التأليف، فقد كان اهتمام المؤلفين في هذا الفن متجها صوب إحدى الظواهر الدلالية في القرآن الكريم المرتبطة بالألفاظ في علاقتها بسياقات ورودها، حيث يكون للفظ في كل سياق معنى غير معناه في سياق آخر. والحقيقة أن هذا الأمر هو ما يجعل كتب الوجوه والنظائر تمثل جانبا مهما من اهتمام علمائنا بالمصطلح القرآني، جمعا ودراسة، ويجعلها أيضا مصدرا مهما لمن أراد تحقيق المفردات والمصطلحات القرآنية واعتماد ذلك مدخلا لتفسير الآيات التي وردت فيها، ومن ثم تفسير القرآن الكريم كله، أمّا معاجم المفردات القرآنية، فهي تعكس وعي العلماء، ممن ألفوا فيها، بأهمية دراسة ألفاظ القرآن الكريم وبيان معانيها التي استعملت فيها في القرآن الكريم؛ خاصة في ظل تشعب العلوم المرتبطة بالوحي، وحاجة المتخصصين فيها إلى الاستمداد من القرآن الكريم، وتأصيل الكثير من المفاهيم والمصطلحات انطلاقا منه، هذا فضلا عن حاجة المفسرين للقرآن الكريم أنفسهم إلى معرفة دلالات الألفاظ القرآنية التي تتعلق بها الأحكام والمعاني. لكن هل تفي كتب الوجوه والنظائر، ومعاجم المفردات القرآنية بالغرض؟ وتكفي لبيان القرآن الكريم للناس؟ وهل يكفي الرجوع إليها لتحقيق المقاصد المرجوة من التفسير؟ إن تلك المصادر تمثل جهود السابقين في خدمة علم التفسير، وتعكس حسا منهجيا بضرورة الالتفات إلى هذا المدخل المصطلحي للتفسير، وهي جهود تستحق الدراسة والتمحيص، والاعتماد عليها منطلقا -لا منتهى- للبحث في سبل ومناهج أكثر ملاءمة لثقافة العصر، ولخدمة الأغراض التي نتوخاها من التفسير، دون الخروج عن الثوابت والضوابط التي تحكم العملية التفسيرية برمتها، أنى كان منهجها وأدواتها. حتى لا تصبح دعواتنا هاته، ملتبسة بدعوات مجانية للتجديد والتحديث لا تميز بين أصيل ودخيل، ولا بين ثابت ومتغير. مقاربات جديدة للمدخل المصطلحي للتفسير لقد تبين اليوم لكثير من الدارسين المهتمين بالدراسات القرآنية، والتفسير على وجه الخصوص، أهمية اعتبار الألفاظ والمصطلحات مدخلا للعملية التفسيرية، وسأعرض في عجالة نماذج لمقاربات اعتمدت -بشكل أو بآخر- هذا المدخل لتفسير القرآن الكريم. المقاربة الموضوعية تعتبر فكرة التفسير الموضوعي من أهم مظاهر التجديد في التفسير في العصر الحاضر[7]، والغالب على نظرية التفسير الموضوعي -حسب ما تشير إليه تسميته- هو الانطلاق من الموضوع الواحد لدراسة الآيات المتعلقة به، لكن هذا التفسير يتوسل في إحدى صوره بالكلمة القرآنية لتفسير القرآن الكريم، حيث يتتبع المفسر الكلمة من "كلمات القرآن الكريم، ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها، يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها"[8]. وقد بينت الدكتورة بنت الشاطئ ملامح هذا المنهج تحت ما أسمته "بمنهج الدراسة القرآنية" ضمن كتابها "مقدمة في المنهج"[9]، وطبقته في دراسات لها كان أبرزها دراستها عن "الإنسان" في القرآن. ورغم أن المميَّز في هذا اللون من التفسير هو انطلاقه من النص القرآني نفسه لتفسيره، إلا أنه مع ذلك لم يمتلك من الأدوات المنهجية ما يجعله وفيا للبنية الداخلية للنص المفسَّر أكثر من الرؤية الخاصة للمفسِّر، ولذلك فهو لم يختلف عن نمط التفسير "التقليدي"[10] إلا في الشكل، ومن ثم لم يُؤمن فيه الانفصال عن النزعة المذهبية، أو البعد عن المعالجة الإنشائية الأدبية لموضوعات القرآن وقضاياه. كما أن هذه الفكرة لم تتبلور في شكل مشروع متكامل، يمكن تبين ملامحه بوضوح، فمع تعدد الرؤى والمناهج والأدوات لدى أصحاب الفكرة، وظهور مدارس واتجاهات داخل هذا النوع من الدراسات، أصبح من الصعب الركون إلى اتجاه بعينه، والرجوع إلى نموذج تطبيقي كامل وشامل وواحد، يفسر القرآن الكريم كله من منطلقات هذه الفكرة. المقاربة الدلالية وتقوم هذه المقاربة على محورية اللفظ في فهم النص القرآني، ولا يتم التعامل مع اللفظ هنا من زاوية معجمية محضة، أي: من حيث دلالته اللغوية قبل النزول، بل التركيز يكون على دلالته المكتسبة من الاستعمال القرآني له، ومن أهم من كتب في هذا الموضوع المستشرق الياباني (توشيكو إيزوتسو) Toshihiko Izutsu. وكانت أول دراسة له بهذا المنهج تلك التي صدرت في منتصف القرن الماضي بعنوان (بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن)، ثم الدراسة المتميزة التي صدرت في الستينات (1964) عن (الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم) -والتي ترجمت مؤخرا إلى اللغة العربية-[11] وقد درس الباحث في هذا الكتاب عدة مفاهيم عقدية (منها: الله، الغيب والشهادة، الأمة، الدنيا والآخرة، الوحي، الدعاء…) وأهم ما خلص إليه في دراسته: أن القرآن أعاد استخدام المفاهيم وأضفى عليها قيما جديدة من خلال سياقها القرآني، وهذه القيم هي التي تكشف عن الرؤية الكونية للقرآن الكريم. والحق أن هذه المقاربة ليست جديدة كل الجدة عن مجال الدراسات القرآنية، فالعلماء منذ القدم أشاروا إلى أهمية معرفة الدلالة اللغوية الأصلية للفظ القرآني قبل تفسيره أي: قبل بيان دلالته القرآنية، وهذا النهج سلكه كثير من المفسرين ضمن منهجهم العام في التفسير، كما أكد الأصوليون على أهمية المدخل اللغوي لفهم النص ومن ثم لاستنباط الحكم منه، ولذلك خصصوا مباحث للألفاظ وللدلالة في كتبهم، ناهيك عن الفصول المتميزة التي عالجوا فيها قضية الألفاظ الشرعية، وضمنها أكدوا على الصلات بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية، وإن اختلفت أنظارهم في تحديد حجم هذه الصلات. لكن كل هذه المعطيات المبثوثة في كتب التراث، لم تجد العناية الكافية بها إخراجا وتصنيفا، وعرضا يناسب حاجاتنا المعرفية واللغوية الآنية. شأنها في ذلك شأن الكثير من النظرات الأصيلة في مجال تحليل النصوص ودراستها التي صاغها اللغويون والنحاة الأصوليون والمفسرون، وظلت حبيسة مدوناتهم الضخمة لم تجد من يجليها للدارسين اليوم ليحسن استثمارها. وعلى الرغم من أهمية هذه المقاربة، فإنها لا تكاد تفصح عن رؤية واضحة للغايات المتوخاة من تطبيق هذا المنهج على النص القرآني، وهل يمكن اعتبار الرؤية الكونية للقرآن بديلا عن تفسيره، أو بمعنى أدق: هل التفسير يقتصر على بيان هذه الرؤية الكونية فحسب؟ المقاربة السياقية[12] والمقصود تحديدا بالمقاربة السياقية هنا، ما نشهده عند بعض المهتمين بالدراسات القرآنية، والمعنيين بتطوير مناهج التفسير، من اهتمام متزايد بضرورة استثمار النظرية السياقية عند علمائنا القدامى، بعد تطويرها وتجليتها في الصورة المناسبة للثقافة المعاصرة، في بناء منهج متكامل لتفسير القرآن الكريم ردا على من يحاول إخضاعه لكل القراءات والتأويلات الممكنة. وحين نقول السياق، فإن المفردة تشكل أحد أهم مكوناته اللفظية، ورصد المفردات في علاقتها ببعضها، وتعلق دلالاتها بدلالات بعض، هو ما يجعل المقاربة السياقية تدخل ضمن ما نتحدث عنه هنا من اعتبار الألفاظ والمصطلحات مداخل للتفسير، وقد ربطت الدكتورة بنت الشاطئ ربطا دقيقا بين السياق والمفردات لتأسيس نظر جديد في كلام الله عز وجل، فقالت شارحة المنهج الذي تقترحه: (إن ضوابط منهجنا الالتزام بصريح النص وحكم السياق، والالتزام بدلالات الألفاظ كما يعطيها الاستقراء الكامل لكل مواضع ورود اللفظ في المصحف والاحتكام إلى توجيه صريح السياق)[13]. والسبب في عدم انفكاك الكلمة عن السياق هو طبيعة وضع الكلمة في القرآن الكريم فالكلمة القرآنية كما تقول بنت الشاطئ (لا تقوم مقامها كلمة قرآنية أخرى في غير سياقها… ومن ثم لا نتعلق في فهم الكلمة القرآنية بالتماس كلمة أخرى تفسرها، وإنما همنا أن نفهم سر الكلمة في سياقها)[14]. وقد ربط أحد الباحثين المعاصرين[15]، بين السياق ودراسة الألفاظ والمصطلحات القرآنية حين دعا إلى تأسيس علم جديد أو إحيائه بأدوات معرفية جديدة، يمكن تسميته (علم النص القرآني) ويكون همه تحديد دلالات الألفاظ القرآنية وفق الخبرات العلمية الجديدة وضبط المناهج التفسيرية والتأويلية، ومن ثم وضع الحدود المفاهيمية للمصطلحات القرآنية ولمنظومة القرآن المعرفية. ونظرا لخطورة مثل هذه الدعوة إذا تركت على إطلاقها، فقد نبه الباحث إلى أن هذا العلم النصي القرآني المنشود لا يحق له أن ينبتَّ عن أصوله ومصادره التاريخية، ويهمل التراث الإسلامي المتمثل في الكثير من مباحث علوم القرآن والمباحث النحوية والبلاغية والأصولية. ويبدو أن هذه المقاربة السياقية، لا تضع المدخل المصطلحي في صلب اهتمامها، فاهتمامها بالألفاظ والمصطلحات مدخلا للتفسير تحكمه فكرة السياق عموما، بحيث تصير المفردات والمصطلحات وسيلة من الوسائل المعينة على الوصول إليه وكشفه وتعيينه. ولذلك لن نستطيع التعويل كثيرا على هذه المقاربة في إعادة النظر في مداخل التفسير التقليدي، وإبراز أهمية المدخل المصطلحي، خاصة مع غياب نماذج تطبيقية على النص القرآني، وتبقى للسياق مكانته المعروفة -منذ القدم- ضمن أدوات التفسير، وخاصة أثره في تعيين دلالة اللفظ على المعنى. المقاربة المصطلحية المقاربة المصطلحية هنا نسبة إلى "الدراسة المصطلحية"، وليس إلى "علم المصطلح" المهتم أساسا بوضع المصطلح وتوحيد استعماله وتعريبه وترجمته وتقييسه وتنميطه، وأول ما يتبادر إلى الذهن من مسمى "الدراسة المصطلحية" أن المقصود بها: "الدراسة التي تجعل من المصطلح موضوعا لها"[16]. وتطبيق هذا الضرب من الدراسات على مصطلحات العلوم المختلفة موجود قديما وحديثا، لكن الجديد فيها هو تطبيقها على النص القرآني. والمقاربة المصطلحية بهذا المعنى تحتاج إلى تعريف بأصولها النظرية، وأدواتها المنهجية، وقواعدها، وأهدافها. لكننا سنوجز القول في كل هذه الأمور بما يخدم القصد الأول في هذا المقام، وهو المدخل إلى التفسير وخدمة مقاصده. الدراسة المصطلحية بين المدخل والمقصد إن أهم ما يميز الدراسة المصطلحية أنها تنطلق من المصطلح إحصاء وتصنيفا ودراسة معجمية[17]، وتحلل النص الذي يوجد فيه، تحليلا نصيا يكشف عن بنيته الداخلية دلالة وسياقا، لتصل إلى وضع التعريف المحدد لمفهوم المصطلح تحديدا لا يغادر سمة من سماته الدلالية. وهذه الخاصية هي ما يميز الدراسة المصطلحية عن علم المصطلح، وعن الدراسات اللسانية، وعن التفسير، وهي نفسها الخاصية التي توفر أكبر قدر من الموضوعية والعلمية في تفسير دلالات المصطلحات القرآنية وما يرتبط بها من قضايا، فهي تهتم بالمصطلح داخل النص، وليس بمعزل عنه، وبالنص من خلال المصطلح، لا بعيدا عنه. وهذا الأمر يمنح الدارس قدرا مهما من التجرد عن أي رأي مسبق، أو مذهب حادث، فيعصمه ذلك من مزالق سوء الفهم والتأويل، ومهالك تحريف الكلم عن مواضعه. إن الدراسة المصطلحية بهذا المعنى، توفر الأرضية الموطأة للعملية التفسيرية التي لا تستقيم لمن يجهل طبيعة المفردات ودلالاتها اللغوية، ومجال تداولها وسياقات استعمالها. كما أنها باعتمادها على تحليل النصوص ودراستها -بسبب عدم انفكاك المصطلح عن النص- لا تشكل المدخل إلى التفسير فحسب بل تتجاوز ذلك قليلا إلى الالتقاء معه سواء باعتماده مصدرا لدراستها لنصوص المصطلحات، أو بتجاوزه وتصحيح ما جاء فيه اعتمادا على نتائج تلك الدراسة التحليلية الدقيقة، التي تعتمد على معطيات أكثر دقة وصرامة من تلك التي يعتمدها المفسر، وفي مقدمة تلك المعطيات: الإحصاء والاستقراء التام لكل موارد المصطلح، والدراسة المعجمية اللغوية المتأنية للأصول الدلالية للألفاظ، وبيان العلاقات المفهومية بين المصطلحات. فليس خافيا أن غاية المفسر ومنطلقاته ليست بالضرورة مناسبة لمقاصد القرآن الكريم، وقد تبين -قبل- أن التفسير في فترات طويلة من تاريخه قد حاد عن النهج الذي يخدم هذه المقاصد، ولذلك وجدنا ثغرات كثيرة في تفسير الكثير من الألفاظ والمفاهيم، لعل أقلها إحالة المفسرين في كثير من الأحيان في تفسيرهم للفظ الوارد في السورة المعينة والآية المعينة، على تفسيرهم له في سورة سابقة وآية سابقة، دون مراعاة لسياق الاستعمال ولا لترتيب النزول ولا لغير ذلك من المعطيات التي تركز الدراسة المصطلحية عليها، وتعتبرها مدخلا مهما للتفسير. وقد أصبح من المعلوم اليوم، وقديما أيضا، عند علمائنا الذين وضعوا أصول تفسير القرآن الكريم وقواعده، أن أسلم الطرق إلى معرفة مراد المتكلم من كلامه وأحكمها، هي معرفة لغته أولا ثم سياقات استعماله لها، ومقامات خطابه للمتلقين لها في زمن الخطاب، والأحوال المصاحبة لكل ذلك، وذلك فعلا هو ما تقوم به الدراسة المصطلحية في دراستها لنصوص المصطلحات، وبذلك حقا قد تلتقي مع التفسير، وتصحح بعض منزلقات أهله. ولما كان تعريف المصطلحات والمفاهيم هو المقصد الأعلى للدراسة المصطلحية، فإنها بذلك تخدم أحد أهم مقاصد التفسير، وهو مقصد البيان الشافي لمراد الله عز وجل من كلماته التي تشكل نفسها المدخل لبيان القرآن الكريم كله. وهل هناك أسمى بيانا من التحديد والتعريف؟ لأجل ذلك كان التعريف زبدة الدراسة المصطلحية، وكان قيامه على أساس متين من المراحل والخطوات المنهجية[18]؛ لأنه في النهاية يقدم لنا خلاصة ما يطلبه المتلقي من القرآن الكريم وهو: الفهم الصحيح الذي يكون مقدمة للعمل السديد. وإذا كان تحديد المصطلحات والمفاهيم في مجال الفهم والتفاهم والتحاور والتناظر في مختلف المعارف والعلوم، هو السبيل الأسلم للوصول إلى نتيجة مثمرة، فكيف لو كان في مجال القرآن الكريم، وهو الذي يتشكل من نسق من المفاهيم "إذا حصلت حصلت كليات الدين، وإذا لم تفقه لم يفقه الدين"[19]؟ إن المقاربة المصطلحية بهذه الخصائص، تبدو الأقرب إلى إعادة الاعتبار للفظ القرآني مدخلا للتفسير، ويمكن وصف هذا المدخل بالآمن؛ أقصد الآمن من أي شبهة للإسقاط المذهبي، الذي ظل التفسير يعاني من تبعاته قرونا طويلة، والذي تتمثل أساسا في إسقاط الفهم الخاص بالمفسر النابع من تصورات مذهبية وفكرية معينة، على الألفاظ القرآنية، فتُحَمَّل من المعاني ما لم ينزل الله بها من سلطان، ثم في الخلط بين دلالة اللفظ في سياق معين بدلالته في سياقات أخرى مختلفة. خاتمة لقد سيطرت الرؤية المذهبية على التفسير قرونا طويلة، فحجبت عن المتلقين استمداد هدايات القرآن الكريم الربانية الخالصة، فأخذوا إلى متاهات التأويلات، ومهالك الإسقاطات بعيدا عن وحدة القصد وصفاء النبع، لذلك لم تغب يوما عن العلماء المجددين في سائر العلوم الإسلامية، عموما، والمهتمين بشأن التفسير، على وجه الخصوص، الدعوة إلى تطوير هذا العلم، وإخراجه من ضيق الرؤية المذهبية إلى سعة الرؤية القرآنية… وليست هذه المقاربات الجديدة، إلا محاولات للخروج بالتفسير من المأزق الذي وصل إليه حين حُكِّم الفهم الخاص والتصور المسبق للمفسِّر في العملية التفسيرية. وإن إثارة هذا الموضوع اليوم، وتقريب هذه النظرات الجديدة، في مجال معرفي مهم وخطير (وهو علم التفسير)، هو محاولة ودعوة للتفكير في تجديد النظر في هذا العلم، على أسس علمية متينة وطرق منهجية رصينة، وهي صورة من صور إعمال سنن الله في الكون: سنن التطوير والتجديد. وعلم التفسير من أكثر العلوم حاجة إلى التطوير والتجديد، لأنه المجال الذي تعرض فيه دلالات القرآن الكريم المستمرة في الوجود والكون والمتجددة مادام الوجود والكون. *فريدة زمرد: عضو بالرابطة المحمدية للعلماء