من حسن أو سوء حظي أنه في هذا اليوم النحس الذي غدرت بي آلة التسجيل وهرب فيه حوار الأستاذ الكبير ناصر العثمان رئيس تحرير الراية ..في نفس هذا اليوم كنت على موعد مع الأديب والصحفي المصري القدير..المرحوم الأستاذ رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الثقافة العربية – الدوحة – الواسعة الانتشار ..ورئيس المجلة المصرية الفنية الرائدة – الكواكب – سابقا ..فهرعت و استبدلت بطاريات آلة التسجيل بأخرى جديدة..جربتها ..كل شئ على ما يرام .. ..استضافني في بيته ..كان وسيما ..مثل ممثل إيطالي .. خضر العينين ..بجسد ممتلئ ..أنيق بالبذلة و الكرافاتة ..رحب بي و اعتذر لأنه قدم من توه من المجلة ..كانت ابتسامته و كلامه و هدوءه و حركات يديه تؤمن ترتيب أفكاره ..حدثني عن بعض كتاب و مفكرين و شعراء مغاربة ..تجمعه بهم كل الفضاءات..المعرفية أو الصداقات أو الزمالة .. و تحولت أسئلتي إليه و المدونة في كتيب صغيرأمامي إلى وحش لا أعرف كيف أروضه ..و لا كيف تتجلى عندي خطوة فتح بوابة هذه القامة ..و الغوص مع عملاق ابتلعني قبل أن ابتدئ ..و جازفت وطرحت أول سؤال ضمن هذه السلسة من المواجهات ..ما وجه الالتقاء بين مراوغة أو تمريرة أو هدف و بين متعة وجدانية لبيت شعر أو تركيبة جزء من قصة أو مقطوعة موسيقية ..و أحرجني لأنه لم يبتسم ..ولكنه كان ينتقي كلماته ..كان يفكر ..ثم يجيب وبتركيز و كأنه يضع مرافئ لرده داخل قرص مضغوط .. ..لفت دائرة الحوار ..وكان رجاء النقاش يجيب كما يتنفس ..لا نقاط و لا فواصل عنده ..جيش من الكلمات حتى – النصر -.. ..كنت محلقا من الفرح ..يسعد الصحفي عندما يقتنص حديثا أو خبرا أو انفرادا ..و اليوم أحس أني ثري فوق العادة بغنيمتين لإثنين من الكبار ..و بفضول الآخرين سأجلب قراء جدد غير قراء الرياضة ..و لكن ..مرة أخرى أخرجت آلة التسجيل لسانها تتحدى رفرفة جناحي ..لا صوت ..لم تسجل شيئا..كدت أنهار ..كنت لا أرى نجما في النهار و لكني أعرف أنه هناك ..الآن أنطفأت كل النجوم و الأقمار و الشموس و أصبحت أحاول طرد البرد بالشموع .. …… …. ..كان يضع على يمينه فوق مكتبه مدونة كالكراسة و قلما ..كان رئيس تحرير صحيفة العلم المرحوم الأستاذ محمد العربي المساري و هو مفكر و مناضل و مؤلف وسابقا كان وزيرا و سفيرا..و كان يسجل على صفحاتها الصغيرة بعض النقاط أحيانا ..كان يقول ..لا تثق بالذاكرة كثيرا ..قد تتمازج الأشياء و قد تتوه الروابط..و تضيع الجزئيات..و كان هذا الفعل درسا إلتصق بي ذاكرة و ممارسة ..فبالاضافة لأوراق أسئلة المستجوب ..أدون كثيرا مما يدور ..و عندما عدت إليها كتبت الحوارين بشئ مما سجلته على الورق و بما خزنته ذاكرتي التي عصرتها عصرا و كأني ألتمس دقة الدقة ضمن تحقيق مخابراتي.. نشر الحوار الأول و ربطت اتصالا مع زملاء أعزاء في صحيفة الراية لينقلوا لي رد فعل الأستاذ ناصر العثمان ..كنت مرتعبا جدا ..مرتبكا حتى جاءتني مكالمة هدأت من روعي و أن كل شئ عادي أو كما يقولون كل شئ تحت السيطرة ..أووووف .. بالنسبة للحوار الثاني ..فقد تلقيت مكالمة شخصية من الأستاذ رجاء النقاش يشكرني ..بل و يدغدغني ..قال ..أسلوبك أدبي ..جميل ..سأطالب بنقلك لمجلة الدوحة ..أووووف .. كنت أغرق في طوفان من الرعب ..و قررت أن أستعمل الأوراق و القلم و لو في حضور أرقى و أحدث آلات التسجيل ..و مبدئيا قررت أن لا أجري أي حوار حتى أغتسل من رعبي و أتطهر من عبء وصمة العار التي التصقت بجلدي لأسبوعين كنت فيهما أنام كذئب عين مغمضة و عين مفتوحة .. و….. وكان لابد أن أكمل هذه الواقعة ..لأنتقل لهموم أخرى ..آنية ..تتحرك و لا تحتاج لذاكرة تقليب صفحات من التاريخ.. و الحدث رغم بعض تأخره يلح أن لا تتوقف مناقشته ..فبعد قصة اللاعب أحتارين أطلت واقعة أنور بوخرصة .. بطل التيكواندو المغربي الواعد..الذي استعمل مراكب الهجرة غير الشرعية لأوروبا أو ما يسمى مراكب الموت ..ثم عندما اقترب من شواطئ القارة العجوز رمى ببعض ميدالياته التي أحرزها ضمن بعض المناسبات الوطنية أو العربية ..رماها وراء ظهره في البحر ..و أمام مصورين و كاميرات لم تبلل ..هي لراكبي الهجرة السرية ..و كانت حركة تم تفسيرها بكثير من الأبعاد ..و التأويلات. و تساءلت ..هل تعرض هذا البطل الصغير لغبن و قرر أن يستكمل طموحه الرياضي خارج الوطن ..و هل كل من ظلمه أو همشه مدربه أو رئيس فريقه أو جامعته يلتجئ لقوارب الموت ..و هل كل من نجح في الافلات من الانتحار عند هجرته السرية أن يلتجئ للإهانة و لاحتقار بأسلوب له معان متعددة ..و الغريب أنه انخرط ضمن ناد اسباني و هو يلعب له و غدا ربما يمثل العلم الاسباني ..فكيف لدولة أوروبية مثل أسبانيا تعاني من الهجرة السرية ..أن تعترف بالذين يهاجرون خلسة و تفتح لهم أبواب أنديتهم ..حتى من دون أوراق تثبث هويتهم و بلدهم و تواجدهم القانوني على أرضها..و إذا كان الحدث يسجل خطأ أحد الشباب و تهوره في الاختيار و المجازفة بحياته ..فإن الحدث يسجل أيضا تجاوزات التركيبة الأمنية و القانونية في أسبانيا و إلا فما هي الاعتمادات القانونية لوجود مهاجر سري يعيش و يمارس داخل بلد أوروبي .. لقد كنت شاهدا عينيا على دخول و ميلاد رياضة التيكواندو للمغرب و ممارسا و عضوا في أول تركيبات لها و لم ألمس في كل القادة و المدربين و التقنيين و الأبطال الكبار و الصغار من تراودهم فكرة تشجيع و لو باللفظ فكرة التهجير و كانوا حريصين دوما على ضبط أفراد أي فريق أو منتخب يمثل المغرب خارجيا ..فبالأحرى يهاجر سريا و غير قانوني و بمساعدة والده الذي ساهم ببعض المال..و الأسوأ أن يمارس إهانة وطنه برمي ميدالياته في البحر ..و سقت هذا لأن المعارضين للجامعة ربطوا الخيوط كلها ..سواء بأخطاء الجامعة أو السياسة الرياضية أو ألصقوها ببعض الهشاشة الاجتماعية.. .. كنت سأقدر حجم معاناة هذا البطل الواعد ..سأحاصر و أفسر أحلامه ..و قد أتعاطف معه بتجاوز في اختياره الخاطئ لو لم يمارس الاهانة .. في جيلنا العتيق كنا نخشى أحيانا على أنفسنا و نكتب و نناقش بحرص شديد ..و ضمن ظروف مر بها تاريخ المغرب و لكننا لم نكن نخاف ..و هناك فارق بين الخشية و الخوف..و انتظرت بشغف معرفي طرح هذا الحدث بتناول متعدد جاد و حكيم ..و لكن .. كيف أقف مع غيري على حقيقة من يتحمل مسؤولية هذا الاختيار الانتحاري ..و تاه مني كل اليقين..و لست عالم اجتماع حتى أحاصر المستعصيات .. أعرف شبابا يعتقدون أنهم عندما يهربون هجرة سيجدون الشقراوات الفاتنان ينتظرن على أمواج الشاطئ و سيجدون بيتا و سيارة فارهة و ديسكو مشتعل ..ولكنهم يصطدمون بواقع مرير و بغربة موحشة يتأكدون بعدها أنهم لم يهاجروا بل ذهبوا ليموتوا أحياء هناك..و أعرف أن البعض تعايشوا مع كل وجع اختلاف التركيبة الاجتماعية ..تعايشوا نعم ..لكنهم ندموا بعد فوات الأوان…. هذه قناعاتي و أكتبها بكل صدق.. إذا كان القانون فوق الجميع فالوطن فوق الكل وفوق الخوف..