صباح الثلاثاء الماضي، وبعد مرض لم تنفع معه قوة المقاومة التي تميز بها في مواجهة الجلاد والمعتقل، رحل المبدع والمعتقل السياسي السابق عبد العزيز مريد. ويعتبر الراحل، الذي قضى في درب مولاي الشريف والسجن المركزي بالقنيطرة عشر سنوات (1974- 1984)بسبب أفكاره السياسية وانتمائه لمنظمة «23 مارس»، أحد مؤسسي جنس القصص المرسومة مغربيا. وإذا كانت تجربة الرسم لديه قد انطلقت خلف القضبان، فإنها وصلت أوجها مع إصداره لقصته المصورة الأولى سنة 2001: « إنهم يجوعون الفئران تجويعا» (دار النشر طارق). في هذا المؤلف الصادر باللغة الفرنسية وباللونين الأبيض والأسود، يسترجع مريد تجربة الاعتقال والتعذيب بكل أشكاله والمحاكمة غير العادلة التي اكتوى بنيرانها في مغرب سنوات الرصاص. وبالإضافة إلى إبداعاته في مجال القصة المرسومة، مارس الراحل التشكيل والنقد، كما مارس العمل الصحفي. في ما يلي نعيد نشر الحوار الذي أجريناه معه في صيف 2001. } نهنئك على هذا الكتاب الجميل والرائع الذي يجسد محنة جيل كان يحلم بإشراقة شمس على وطنه، وخصوصاً جيل اليساريين الذين اعتقلوا وعذبوا وقتلوا في أقبية الظلام والظلم والعار، في ظل سلطات القمع التي كانت تنشر رعبها وقتامتها وكوابيسها في كل حلم، تحملوا ذلك من أجل أفكارهم وتوقهم إلى نظام سياسي قوامه الحرية والكرامة والديمقراطية.. نهنئك على هذا الكتاب الذي نعتبره دليلا على ذاكرة جماعية، نريد أن نتعرف معكم على الظروف المؤسسة لكتابة هذه الذاكرة؟ متى جاءت الفكرة؟ وما هي الصيرورة التي معها وأين أنجزتها؟ الكتاب يرجع تاريخه إلى 1980، بعد الإضراب عن الطعام الذي وصل الى 45 يوما، حين قمنا في السجن المركزي، نحن مجموعة مكونة من 139 معتقلا سياسيا وكان بيننا مناضلون من الاتحاد الاشتراكي بإضراب عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال. بعد الإضراب، كنت في وضعية صحية خطيرة، وكان علاجي الأساسي هو الرسم والرياضة، هكذا قررت أن يكون العلاج، أن أدون عبر الرسم كل هذه البشاعة التي عبرت أجسادنا وعقولنا وزهرة أيامنا، قلت مع نفسي، لا يمكن أن نعيش كل هذه الفظاعات بدون أن يسجلها التاريخ. لقد لاحظت أن أجيالا من المعتقلين السياسيين الذين عانوا المحن، منذ الستينيات لم يسبق لها أن دونت تجربتها, نحن جميعا نعرف أن مناضلين وشهداء أفذاذ كلهم مروا من هناك، من هذا الظلام الذي كان يخنق المغرب، كلهم ضحوا في سبيل هذا الوطن، سواء في فترة الاستعمار أو أثناء مرحلة الاستقلال، لكنهم لم يتركوا للأجيال اللاحقة شيئاً، حيث أصبحنا نعيش أحداثاً بدون أن نؤرخها أو نودعها بين أيدي التاريخ كشهادة ,أصبحنا نقع خارج التاريخ، لأننا لا ندون ذاكرة المرحلة. هكذا بدأت أكتب وأرسم قصة معاناتنا من أولها إلى آخرها، كيف اعتقلنا؟ ماذا جرى لنا في المعتقلات؟ أنواع التعذيب التي كابدنا في »غرف العمليات« الخاصة؟ وبطبيعة الحال، كانت حملات التفتيش في مرحلة الاعتقال مكثفة ويومية، فرغم نجاح الإضراب وتحقيقنا للقليل من الحرية والمكتسبات، كانت المداهمات يومية.. غير أنني كنت أرسم وأرسم في أوراق صغيرة، وأبعثها إلى الخارج عبر العائلة الأصدقاء الذين كانوا يزورونني, حتى تمكنت من الانتهاء من الكتاب.. وبالفعل، رحل الكتاب الى بلجيكا، هذا ما علمته وأنا رهن برودة الاعتقال، ومنذ ذلك الحين، انقطعت كل المعلومات المرتبطة بمصير الكتاب عني، لكنني عرفت فيما بعد أن كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق قرأ الكتاب، وعرفت أن الجميع في »أمنستي« الدولية قرأ الكتاب، ومجموعة من الحقوقيين في العالم تمكنوا من قراءة الكتاب وتأثروا به، وساهموا في الدفع لإطلاق سراحنا. في ذلك الوقت، لم أكن أعرف كل ما صنعه هذا الكتاب.. على سبيل المثال، نشرت »ليبراسيون« الفرنسية رسومات منه على صدر صفحتها الأولى، كذلك »لوموند« وجرائد أخرى كانت تصلني عنها الأصداء فقط. لم أر الكتاب إلا بعد خروجي، وجدت أن الرسوم لم تكن في المستوى، لأنني كنت مريضاً ويداي ترتجفان، لذلك قررت أن أعيد رسوم الكتاب كلها. كانت لدي نسخة من الرسوم داخل السجن، لكنني أضعتها لما خرجت، ولم أحصل على نسخة جديدة إلا في سنة 1999 حين حملتها إلى صديقة أمريكية، لم تكن كتاباً، بل نسخة كاربونية من الكتاب، حينها قررت أن أعيده من جديد، بمنطق سردي جديد، وأن أعمل على تحيينه بما يتلاءم مع هذا المنطق. مباشرة شرعت في العمل، أربعة أشهر قضيتها ملازما البيت، أرسم وأرسم، حتى اكتمل العمل الذي بين يديك الآن. } اسمح لي أن أسألك: لماذا اخترت الرسوم وليس الكتابة؟ رغم أنني صحافي قضيت 15 سنة وأنا أكتب، فإنني لم أستطع لحد الآن أن أصوغ كلمات لوصف البشاعة، إنني أحيي جميع الأصدقاء والرفاق الذين استطاعوا أن يكتبوا ولو أنكم لاحظتم من خلال هذه الكتابات أن كل من عبد القادر الشاوي وصلاح الوديع وأبو يوسف، وعبد اللطيف لم يكتبوا التجربة بشكل مباشر.. } تقصد أنهم صبوا هذه التجربة في قالب روائي، يمتزج فيه الخيال بالتجربة والواقع بالأدب؟ نعم، كتبوا عن التجربة كموضوع أدبي غير مرتبط بالذات والمعاناة الشخصية، كانوا يلفون حول الموضوع، دون أن يترجموا حقيقته وهي تقوم بجلد أجسادهم وذاكرتهم.. } هل كنت تعتقد وأنت ترسم التجربة بكل هذه الفظاعة والبشاعة التي تطل من الرسومات أن الصورة المرئية أكثر تعبيراً من الكلمات؟ هل هناك قصدية معينة؟ لا أستطيع أن أكتب، هذا شيء فوق قدرتي، حاولت لكنني عجزت.. } لكننا نلاحظ، نحن قراء هذا الكتاب أنه مليء ليس بالحوار بين الشخصيات، بل بالتعاليق التي تمنح الموضوع قوة في الشكل والمعنى. تماما، أولا، أنا رسام، ولدي إمكانية للتعبير بالصورة والرسومات، وهذا كما تعلمون عصر الصورة، والصورة القوية يمكنها أن تلخص مقالا بكامله، بل يمكنها أن تكون أكثر تعبيرية وأكثر نجاحاً في توصيل المعنى.. حين عجزت عن الكتابة لذات الرسم.. } إذن، المسألة ليست اختياراً مفكراً فيه.. لا، إنه العجز، نعم العجز.. أنا عاجز عن الكتابة، ويمكنني أن أقول إنني أعاني من حالة انحصار قوي يمنع كل الأشياء التي أخبئها في أعماقي في الخروج، لا يمكن لأية كلمة أن تترجم بدقة وصدق هذه الأشياء.. لذلك، صادفتني الصورة أو صادفتها، وجدت فيها الإبداع الفني الذي يمكنه أن يربط تجربتي بما يمكن أن نسميه التعبير. هذا ما أردت أن أصل إليه من قبل: هل الصورة أكثر تعبيرية وفنية وصدق من الكلمة... شخصيا، حين اطلعت على الكتاب وجدته أكثر تعبيرية عن كل الفظاعات التي تحدث في أقبية الاعتقال السرية من الكلمات.. فالعبارة في مثل تجربتكم أضيق من التجربة.. الواقع أكبر من الكملة والصورة في مثل هذه الحالة، تعبر عن امتداد التجربة في لحظة معينة وهو ما لا تستطيع الكلمات فعله نظرا لخطيتها وارتباطها بالوصف اللغوي الامتدادي في الزمن زمن الكتابة والقراءة معا. الرسم تعبير ولغة له منطلقه ومعاييره الخاصة. وقد حاولت في رسوماتي أن أوفق بين الفكرة التي أروم إيصالها والتعبير الفني. } اثارني في هذا الكتاب شيء أساسي جعلني ارجع إلى مرحلة الطفولة أو الشباب الأول حين كنت ومجموعة من الأصدقاء من جيلي المتمدرسين وغير المتمدرسين, نلتهم قصص وحكايات الرسوم المصورة من قبيل سلسلات »روديو« وليس »ألبمراكس« و»كابيت سوينغ« و»زامبلا» و»كيوي وبليك« و»اكيم« الخ. هل كنت أيضا في طفولتك من هواة قراءة هذه السلسلات؟ وإذا كنت كذلك ما حجم التأثير الذي أحدثته فيك كرسام وكاتب؟ بطبيعة الحال هناك تأثير للعديد من الرسامين العالميين الذين كانوا يبدعون هذه السلسلات، أنا قارئ قديم للرسوم المصورة واعتبرها دائما شكلا من أشكال التعبير البطل وهذه مسألة ليست سهلة. وإذا لاحظت فإن النصوص أو التعاليق المقترنة بالرسوم ذات شحنة تعبيرية وفنية مهمة ليس فيها أي ابتذال. } حين شرعت في قراءة الكتاب لمست حضورا مستترا للجانب السير ذاتي.. هل هناك فعلا سيرة ذاتية تنكتب عبر صفحات الكتاب بشكل محتشم وغير واثق, كأنك لا تريد أن تعكس هذا الجانب الذاتي. .. نعم، هناك حضور للجانب السير ذاتي ولكنه حضور غير مباشر، لأنني نسبته إلى شخص آخر, ثم أنني أميل إلى الحديث عن عملي كشهادة، وليس كسيرة ذاتية. الشخص الذي يكتب مذكراته في آخر الكتاب هو أنا، أنا الذي أصابني العمى، وذهبت إلى المستشفى وعانيت من مضاعفات الاضراب.. لكنني وجدت أنه من الأفضل أن أنسب كل هذه الوقائع والفظاعات إلى شخص آخر, هناك أشياء تخصني في هذا الكتاب، لكنني رفضت أن أقدم شهادة شخصية لأنني اعتبرت أنه ليس من المعقول أن أنسب إلى نفسي تجربة جماعية. ربما تكون قد لاحظت أن الأنوية (أنا.. أنا.. أنا) منعدمة هناك (نحن) ومجموعة من المشاهد لم تقع لي وحدي، بل تشمل تجربة جيل بكامله. والقضية التي أريد أن ألح عليها هي أن هناك ثلاث مراحل في الكتاب: مرحلة التعذيب, ثم مرحلة المحاكمة, ثم مرحلة النضال من أجل تحسين الأوضاع في المعتقل. مرحلة المكافحة اعتبرها جانبا مركزيا في الكتاب، لأننا كنا بالفعل بصدد بناء دولة الحق والقانون، فلا يمكن أن نصل إلى هذا المطمح بدون إصلاح القضاء. فمستوى القضاء عندما هزيل جدا وما صورته في الكتاب شهادة بسيطة عن هذا الابتذال والسقوط الذي يعيشه قضاؤنا. } هل هذه الشهادة بمثابة تخلص من ثقل الذاكرة؟ هل شعرت، وأنت ترى كتابك يولد بين الناس في مغرب الان بنوع من الراحة والاطمئنان. »شوف يا منتسب» تجربة الاعتقال التي مررنا بها كجيل ليست موضوعا للسخرية والمزاح عندي. لا أطيق أن يتحدث معي أي شخص عن هذه التجربة. وكأنه يتحدث عن شيء بسيط وعاد وقع ذات يوم و انتهى. أنا حين أنجزت هذا الكتاب أردت أن أتخلص من ثقل جسيم فوق ذاكرتي، وأن أساهم في تخليص ذاكرة جيلي من كل البشاعة التي عبرتها. } هل أحسست فعلا وصدقا، أنك تخلصت من جرح داخلي؟ بطبيعة الحال. بطبيعة الحال.. } هل يمكن لعمل تعبيري وفني ان يساهم في تحقيق ما يمكن ان نسميه بالتطهير بالمعنى الارسطي، أي الاغتسال من التوتر.؟ هذا يقع في كل مكان، في الشيلي وكواتيمالا.. الخ.. الناس يتكلمون في التلفزيون والصحف، ليخرجوا ذلك السواد والحقد، ذلك الشيطان الذي يسكن حواسهم والذي سكن البلاد بكاملها. لا يمكن أن نتقدم خطوة نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ونحو احترام أنفسنا، ما لم نتعرض للتطهير. } ألا تعتقد معي أن ذاكرة الاعتقال السياسي هي ذاكرة جسد أساسا ومن الصعب على أي عمل إبداعي أو تعبير فني بشكل عام أن يمحو ذاكرة القمع والارهاب بسهولة. بل إنه يساهم فقط في تلطيفها و التخفيف من حدتها. ذاكرتنا لايمكنها أن تمحي. لكن من الضروري أن نضع هذه الذاكرة أمامنا بشجاعة. نحن لا نخطو نحو النسيان، وليست هذه رغبتنا. مهمتنا ان نؤرخ هذه الذاكرة لأنها جزء من تاريخنا. من منا عرف شيئا عن المرحلة الاستعمارية؟ شخصيا أؤاخذ المغاربة لأنهم لم يتحدثوا عن الاستعمار الذي تحول بفعل الصمت الى مجموعة من النكت والمستملحات، لماذا وقع الاستعمار؟ ماهي التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي سهلت دخول الاستعمار؟ هذا مهم. } سؤال آخر أريد أن أطرحه عليك، هل تعتقد ان ذاكرة الاعتقال السياسي لن يكتبها الا المعتقلون السياسيون. ام أنها لن تنكتب بصورة دقيقة وكاملة إلا إذا ساهم فيها الجلادون وعائلات الضحايا؟ أتمنى أن يساهم في كتابة هذه الذاكرة علماء الاجتماع، وعلماء النفس والمؤرخون والاطباء ورجالات مختلف العلوم الانسانية بشكل عام وبطبيعة الحال، لا يمكن لهؤلاء ان يساهموا في كتابتها اذا لم تكن بحوزتهم معطيات كافية. أما إذا رغب الجلادون في المساهمة، فأنا سأكون سعيدا جدا، لأنهم بدون شك، سيغنون التجربة من زاوية أخرى وبنظرة أخرى مغايرة تماما. مساهمة هؤلاء ستعبر عن تلك العقلية التي نكلت بنا، ستعبر أيضا عن منطق الصراع.سيفهم الجميع أن القمع لا يبني مجتمعا، بل يهدمه. أتمنى أن يكون هناك حوار حول الذاكرة، بدون حقد أو كراهية أو رغبة في الانتقام.