في الكتاب الذي نشره اتحاد كتاب المغرب حول الذاكرة والابداع المرتبطة بكتابات السجن الصادر في فبراير 2010 عن مطبعة البيضاوي، والذي قام بتجميع اعمال ندوة نظمها الاتحاد و فرعه ببني ملال، نجد تماهيا كبيرا بين الوطن وسؤال الاعتقال السياسي.. قراءات انتبهت الى فضاءات السجن وتفاصيلها والساعة والمرحلة وشهادة الجسد الاسير داخل اسوار سلطة سياسية لا تؤمن بالتعددية ولا بخيار الاختلاف والتنوع في طرح البدائل ابانها. الكتاب -بحق- حاول الإحاطة بتجارب حميمية مع المعتقل والسجان مع برودة الزنزانة وبرودة قلب الجلاد.. لا احد -يومها -كان بمنأى عن رغبة سادية لسلطة قمعية تخاف على دولتها من الانهيار، فتحقن المجتمع بسيروم غضبها وقلقها وانفصامها السياسي الذميم. تلك مرحلة قضت وقرأها الجميع بما يكفي. في الكتاب الذي نشره اتحاد كتاب المغرب حول الذاكرة والابداع المرتبطة بكتابات السجن الصادر في فبراير 2010 عن مطبعة البيضاوي، والذي قام بتجميع اعمال ندوة نظمها الاتحاد و فرعه ببني ملال، كمال عبد اللطيف صاحب القلق الفلسفي الرصين حاول الوقوف على كتابة الاعتقال السياسي كفضاء للمكاشفة والمراجعة والنقد. لقد عكست نصوص الاعتقال السياسي مجمل خصائص اداب الاعتقال السياسي ممثلة في تشخيص آليات القهر والاستبداد بالشكل الذي سمح وساهم في الكشف عن عنف وشراسة اجهزة نظم الحكم، إضافة الى ما تضمنته من نقد مباشر لخيارات السلطة السائدة ونقد صريح ايضا للاخطاء الذاتية. ويتابع كمال معاينته لمختلف النصوص المكتوبة بكثير من المرارة التي تنز بالمعاناة الشديدة للمعتقلين الذين تعرضوا لكثير من صور العنف المادي والرمزي والقهر الذي لم يرحم احدا فيهم، بما في ذلك موتهم امام جلاديهم واختفاء آخرين، ومكابدة العوائل والاسر التي ظلت تنتظر خبر ذويها و بنيها دون جدوى. ويقف الأستاذ كمال عبد اللطيف على الوظائف التي تنتصر لها مثل هاته الكتابات حيث تشكل وثائق تاريخية حية قابلة للاستثمار في مجال كتابة تاريخ الصراع السياسي في الثلث الاخير من القرن العشرين ورصيدا حديثا يقدم مادة مفيدة لتركيب جوانب أساسية من تاريخنا السياسي، حيث تتضارب وتتقاطع صور العنف بمخاضات التحول السياسي، بالصور النمطية، كما تساهم ايضا هاته الكتابة في توسيع دائرة تحرير الوجدان من عذابات حقبة من التاريخ يجري العمل فيها اليوم على تجاوز أخطائها للوصول الى توافقات سياسية تاريخية أكثر عدلا تسمح بترسيخ آليات الانتقال الديمقراطي في مجتمعنا. ولهذا السبب وفي نفس السياق، يتصور -كمال- ان الاهمية الكبرى لأدب الاعتقال السياسي تتمثل في ما فجرته من جدل سياسي وقانوني وأخلاقي فاعل في المشهد السياسي الراهن، مساهمة بذلك في تعزيز دائرة العمل الحقوقي المدني الذي ساهم هو الآخر في تطوير هاته الكتابة وتنويع مواقفها من الاحداث والقضايا موضوع الصراع في جدلية تاريخية تصعب فيها عمليات فصل هذا عن ذاك. وهذا الجدل بتوابعه وتناقضاته يكشف ان المصالحة التاريخية مسلسل سياسي طويل النفس تؤسسه الخيارات السياسية الجديدة التي يفترض انه بإمكانها ان تمارس بالفعل عملية طي الماضي وأساليبه في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بهدف تدعيم وتوطيد دولة الحق والقانون واصلاح مواطن الخلل والعطل في الاقتصاد والسياسة والمجتمع. وينتهي- كمال- في ورقته الى ضرورة ربط نتائج كتابة الاعتقال السياسي وعمل المؤسسات الحقوقية بدينامية الاصلاح السياسي في المغرب، لأن المعطيات الواردة في مثل هذه الكتابات ستعزز فضاءات ودوائر المراجعة والنقد كوسائل تساهم في تجاوز وتخطي العوائق التي تحول والاصلاح السياسي المرتقب. لقد سبقتنا تجارب دول أخرى في هذا الباب، يمكن ان تقدم معطيات مساعدة لإنجاز إدراك أفضل لملابسات ما يجري في حالتنا.. مثال ذلك،ما عمدت إليه جمعيات في البرازيل والشيلي وبولونيا وأيضا في كل من جنوب افريقيا وإسبانيا من تركيب آليات في الفعل السياسي الموصول بالاهداف التي تعزز وتعمل على توسيع مجالات الاصلاح...وتنتهي بتعاقدات سياسية جديدة مساعدة على تقليص حدة العنف الذي حصل ويجب تجاوزه. الحكي والكلمة ضد القمع... يذكر أحد المهتمين بالسرديات ان شجارا وقع في سيسيليا في القرن الخامس قبل الميلاد بين شخصين في أرض خلاء، وتطور الامر الى معركة حقيقية، فكان أن عرضا امرهما في اليوم الموالي على القاضي، ولم يكن القاضي يتوفر على أدلة وقرائن تدين أحدهما، فالمعركة لم يشهدها أحد ولم تترك آثارا على أحدهما ولا ثقة في الحواس، فهي كثيرا ما تخدع الرائين او تضللهم، ومع ذلك كان عليه ان يحكم لصالح أحدهما،فما السبيل؟ لم يبق أمام القاضي سوى اللجوء الى وسيلة وحيدة يتعرف بها على الجاني .. انه الحكي، فالذي يمتلك ناصية السرد ويجيد بناء قصة،سيكون أقربهما الى الحقيقة ويكون بالتالي هو المظلوم.. هكذا اختار سعيد بنكراد «مواجهة» أدب السجون في بلادنا من الشهادة الى التخييل والانتباه الى السرد باعتباره أداة التشخيص الاولى التي تشكل القوة الضاربة في مجال التواصل والاقناع والسيطرة على كل المناطق الانفعالية داخل الذات الانسانية، بالشكل الذي يتسلل فيه هذا السرد الى وجدان المتلقي في غفلة من العقل وأدوات الرقابة داخله، لأنه لايقدم حقائق جاهزة بقدر ما يقوم ببنائها استنادا الى تفاصيل الحياة وهوامشها،وبقدرته ايضا على امتلاك التجربة الانسانية وتصريفها من خلال الجزئيات الحياتية ومن خلال كل شيء... بحثا عن بؤرة المعنى ومرارة الزمن وهو ينهش الجسد والنفس والاشياء المحيطة به. بنكراد، تألق في تشريح السرد وربطه بالاعتقال واستخراج المكنون النفسي الطافح بالقمع والمهانة والقتل الجهنمي، مشيرا الى إمكانية حثيثة في التعاطي مع الكتابات السردية التي ظهرت في العشرية الاخيرة حول موضوعة السجن والتي حاولت بكثير من الصدق والأمانة وصف ما يجري في سجون النظام ومعتقلاته السرية وكهوفه التي أعدها لمعارضيه أو الحالمين فقط بمعارضته (!) في المرحلة التي سميت بسنوات الرصاص، هذه الكتابات تحدثت عن كل شيء.. عن الانقلابات والمظاهرات والعمل السري والملاحقات والمطاردات والاعتقال والتعذيب والنفي والتنكيل بالأهل والاصدقاء والأقارب، بل إن بعض جلادي النظام أخذتهم «الغيرة» من ضحاياهم وتحدثوا عن القمع والأقبية السرية.. وعن الجرائم والاغتيالات وشراء الذمم.. وتحدث البعض عن حياة بعض رجالات النظام وصراعاتهم ودسائسهم في شهادات تافهة لا تقدم أي شيء يذكر عدا كشفها عن بعض الأوساخ التي لا يلتفت إليها الوجدان الحر: (شهادات البخاري آل الجنرال أوفقير). بنكراد استدعى في قراءته لأدب السجون تلك الشهادة أو السيرة الذاتية أو ذلك البناء الثقافي الذي يعيد صياغة جزئيات الحياة وفق إكراهات أخرى غير إكراهات الواقع، إكراهات تسعى الى بناء وجدان إنساني محلي أو كوني باعتباره إرثا مشتركا، والسبيل الى ذلك هو نسيان الوقائع الفعلية والانصراف الى استبطان آثارها في كل تفاصيل الحياة. استنادا الى كل هذا، يواصل سعيد بنكراد «هجومه» على المعنى بحثا عن الحلم والحب والتسامح والعدالة. بكلمة واحدة، يمكن أن يلج الفرد الى عالم القيم الإنسانية العامة. والرواية أو القصة، هي إحدى المداخل الى ذلك.. قصص هؤلاء المناضلين الذين تركوا أمهاتهم وحبيباتهم وماتوا دون كلمة وداع.. إن الجميع مطالب بالإنصات الى قصص الحب وقصص التعب المضني للوصول الى لقمة العيش، في حاجة نحن الى الاستماع لقصة من لا قصة لهم. هؤلاء البسطاء، وهذا لن يتأتى بدون سرد تخييلي. نحن أيضا في حاجة الى الإنصات الى قصص الجلادين والمخبرين والسجانين وعيون السلطة.. قصة أولئك الذين يزورون في الظلام ويعذبون، وقصة الواشي الوضيع، نحن في حاجة الى الإنصات الى قصة الإنسان داخلهم، الى رسم حدود الوحش والإنسان داخلهم، أن نعطيهم الكلمة ونلقي بهم في عراء الخطاب، وهذه أمور لا يمكن أن يقوم بها سوى السرد. السخرية كسلاح لمقاومة الجلاد سعيد عاهد الباحث عن المعنى في زمن اللامعنى، تعمق في البحث عن مثوى السخرية في نفسية المعتقل أو المضطهد وضروراتها في إنقاذ السجون من وحشية الأقبية وعنف الجلاد والوقت والليل الطويل في سِفر سياسي مضمخ بالدم والقمع والدوس على كرامة المعارضين. في تناوله للسخرية كسلاح للمقاومة، توقف عند تجربة عزيز الوديع الذي كان أصغر معتقل رأي في حقبة السبعينيات والذي حاول الاشتغال على ذاكرة السجن عبر توظيف السخرية في محكيات ضمَّنها في مؤلفين: «سرقنا ضحكا» و«ملح وإبزار». تأتي كل أشكال الضحك حسب «برونو جيوردانو» ممزوجة بقدر ما من الحزن والبكاء.. المقولة هذه تؤكدها محكيات الوديع.. والعهدة على عاهد..(!!) «حرف السين يوجد في السجن» وهو بارد برودة الزنازن.. كلمة سجن تتكون كذلك من الجيم الذي يتصدر الجنون والجنة. وجهنم. والنون التي تكون النار». «المعتقل يجب أن تكون له القدرة على التنفس تحت الماء.. خاصة أثناء التعذيب بالماء الملوث» «سعيدة ماتت أثناءالاضراب عن الطعام، ذلك أن قلبها لم يستطع الاحتمال». عزيز الوديع .. يتلاعب بالكلمات ويعتمد لغة تطبعها المفارقة لكسب رهانه الساخر في حلبة الصراع... يقول الوديع إبن الوديع وأخ الوديع.. «الكتابة في السجن نوع من الفرار عبر الخيال، لكنه فرار بدون متابعة». «الكاشة غطاء عسكري لسجناء مدنيين» «لا أدري لماذا يأخذ الجلادون هذا الإسم:هل من أجل نزع الجلد من مكانه؟». السجان والسجن وجهان لسلطة واحدة تهاب السخرية لأنها آلية للصمود في وجهها المكفهر.. في هذا المستوى يقول عزيز الوديع: «الشكل هو بناية السجن والمضمون هو السجان» في مستوى ثان، نجد محكية لمعتقل فنان تكشف ما يحتويه الانضباط الأعمى من بلادة: «ذات يوم صنع الفنان رأس لينين... قال للجلادين من أجل التمويه.. إنه «أبي»... أكل علقة.. أحدهم اكتشف أن الرأس ليس لأب م. فأكل علقة ثانية بدعوى عبادة الأصنام. إنهم لا يفقهون الإبداع» سعيد عاهد «استنجد» بكتاب الضحك والنسيان» لتوصيف سلاح السخرية من خلال ميلان كونديرا الذي ربط بين الضحك والذاكرة والوجود من جهة، وبين النسيان والقمع والكآبة من جهة أخرى. بالضحك يقول كونديرا يدرك الإنسان وجوده ويستطيع المقاومة لمواجهة المؤسسات الساعية الى إلغاء وجوده وذاكرته وإنسانيته. إنه نوع من «مضادات» الكآبة والاكتئاب يختم عاهد عند معالجته لنصوص الوديع. نصائح اليسار.. عبد الصمد بلكبير،استرجع تاريخ الاعتقال الذي مس 90 تلميذا في مارس 1965،وجدوا أنفسهم معتقلين مع عتاة الإجرام،ولكن أيضا مع خلية من خلايا شيخ العرب. كان الدرس قاسيا بالنسبة لهؤلاء المراهقين،حشروا مع الكبار سنا وجريمة،وهم بعدُ في مرحلة الابتدائية،لكنهم سرعوا بإدخالهم جامعة الجريمة. يحكي بلكبير عن قيامهم بإضراب عن الطعام،وكان الزمن الديني عيد الأضحى،امتنعوا عن شرب الماء،ولم يكونوا يعرفون تقنية السكر،لهذا سرعان ما انهارت مقاوماتهم،وفوجئ عبد الصمد بالتلاميذ وهم يأكلون دون استثمار للمعركة. وجدوا في السجن مدرسة ومكتبة ،كان ذلك من بقايا حكم الفرانسيس،فالاعتقال أفضل فرصة للتعليم والتكوين والتثقيف،ومناسبة للتباري في ما بين المعتقلين لأجل الحصول على أفضل تنقيط للعفو. لم يكن للاعتقال في المغرب منطق كما لم تكن للسجون ظوابط وقواعد.المغرب سجن كبير وقتها،المعتقل لما يخرج الى الحرية،يجد المضايقات والتربص بالأنفاس وإحصاء القادم من الخطوات،ليس السجن في الزنزانة وحسب بل لقد كان في الكثير من الاحيان والحالات حياة شبه يومية،ولم يكن من ملجأ سوى المقاومة والعياء والروتين والمنفى، وتلك كانت رغبة الحاكمين. الكتاب أيضا ضم، إلى جانب هؤلاء الذين عالجوا تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب في الستينيات والسبعينات على الخصوص،كتابات لا تقل روعة وتحليلا عميقا وجادا وملتزما،نستحضر هنا على سبيل المثال :«شهادة الجسد الأسير في أطلسيات فاطنة البيه» لشرف الدين مجدولين.و« الكتابة السجنية بالمغرب:رصد لمعالم التحول في المرجعيات وأساليب الكتابة» لحسن الغدش،«نصوص تزمامارت» لهشام العلوي،«الغرفة السوداء »لعبد الرحيم مؤدن،«وهل للحرية ملامح،أو حينما تقترب السينما المغربية من موضوع الاعتقال السياسي» لعبد اللطيف التازي...