لسنا أبناءً مشتهين و لا كائنات محْلُومٌ بها في الليالي الباردة. لسنا إلا استثمارات منوية خاسرة، مشاريع فراغ فرَّ من قفيرها النحل. المساءات التي ولدنا في أحضانها كانت أشدَّ التصاقا بالصدفة، منذ المطْرة الأولى كانت أسماؤنا عل لسان الريح أغنية من غبار. حظنا من زرقة السماء بدَّدَتْه أناشيد الحاصدات و هنَّ يذبحن أعناق السنابل في مروج البرِّ. ندِمتُ كثيرا على الورْداتِ الكثيرةِِ التي طيَّرْتُ بلا رحمة ريشَها في السماوات السحيقة بحثًا عن "الحظ العاثر". ندِمتُ أكثَر على العصافير التي نتفت في الماضي الملوَّن أوراقها بحثا عن ثمرة الخلود، و كدَّرت بياض نعاسها في الأعشاش الدافئة، هذا ما تعلمناه من آبائنا أصحاب المشاريع المنوية الفاشلة و مدبرو استثمارات شبقية. خانتني قدماي الصغيرتان في أحلك الليالي، و شردتني أفكاري الأكثر تشاؤما من أبيات أبي العلاء المعري فتهت بعيداً عن كوة الضوء - دائرة الأمل المحكومة بالاحتراق- و ضيَّعت خيط أحلامي ... لكن من ينسى صليل المناجل على شرفة الأذن؛ ألحان "عُيَاعْ"[1] حاصدات القمح و هي تندلع في ظهيرة الأيام؛ معركة مآذن القرى في سماء بيضاء؛ موسى الفقيه و هي تجز رقبتنا في بهو القيلولة؛ مرَقَ عصْر كل يومٍ و بيضة الخميس؛ الديك الذي كلما خلص من النكاح نفخ ريشه. لا فائدة من إسماع هذا الأسد المريع نشيدا أو أغنية من شغاف الروح، لن ترق أساريره. من يصدق قصة طاحونة الأبدية التي لم تتوقف إلا لتستمع لعصفور كان يعزف موالا لعصفورته فكان الوقوف أبديا. جُنِنْتُ، سررت حين نادتني الشمس .... أحمد هلالي- المغرب عين سلان ------------------------------------------------------------------------ [1] عياع : نوع من الشعر الشعبي تردده النساء في قرى الشمال المغربي أثناء الحصاد أو في الأعراس.