هو عادة عنيف وغزير.. وهذه السنة لم يشد عن القاعدة، بل إنه ظل وفيا لذاكرته، بعد أن لُحِسَتْ ذاكرة الكثير من مناحي الطبيعة في هذه المواسم الأخيرة.. فالغيم الكثيف الذي يجلل الآفاق، والرعود التي تقصف في ليلنا البهيم، والزمهرير الذي يصفر قارسا مثل الموسى الحادة في الزوايا، يكاد يخلق طقس فرح بلا ضفاف عند الغالبية منا في طول البلاد وعرضها.. لأن السماء تجود بماءها، ولأنها رحيمة بالأرض التي تلقحها بما ستجود به من خصب مع مطلع أول الصيف القادم.. على القدر نفسه، الذي يبعث ذلك أيضا، مرارة الإحساس بمدى العطب الذي يطال أسباب التنمية عندنا، بسبب أمة الفقراء الذين يكتوون من «برد ومطر إناير»، الذي يواجهونه عزلا، مثلما كان الأجداد يفعلون منذ قرون!! ( كما لو أن لا شئ تغير هناك في ذلك المغرب المنسي المعلق في الجبال وفي الفقر والفراغ).. «إناير»، تلك الليلة التي ما عادت أجيال اليوم تعني لها شيئا، كانت لحظة للإحتفال عند عموم المغاربة.. ولا تزال عند أمهاتنا الوفيات لذاكرة الأرض وطراوة البداوة الأصيلة.. كانت تلك الليلة، بداية لدخول السنة الفلاحية عندنا، تُذبح لها الذبائح، وتوقد من أجلها نيران المواقد، وتنصب من أجلها الولائم، ويطلق الشِّعْرُ قصائده بمقدم المطر والثلج والزمهرير.. «إناير» له عمق مغربي أمازيغي أيضا، لأنه تقويم شعبي فلاحي لكل المغاربة، يمارس استقلاله عن باقي حسابات الأيام كما حددتها حضارات أخرى، بتقويم شمسي أو قمري. وإذا كان، مثلا، للفرس الإيرانيين يوم «النيروز» الذي يحتفى فيه بمقدم الربيع هناك في ربى شيراز وأصفهان، ولمصر «يوم السموم» الحار، الجاف، المثقل بالرمل والغبار، الزاحف من الصحراء المحيطة بمجرى هبة مصر (وادي النيل)، فإن للذاكرة المغربية، بل لربما للذاكرة المغاربية في عمقها المغربي والجزائري، يوم « إناير»، الذي تعتبره بداية لموسم الخصب في كل عام، وأنه بداية للسنة الجديدة عندهم. من منا، لا يزال يحفظ عن ظهر قلب، تلك المواويل الشعبية، وتلك الأهازيج البدوية بالأمازيغية والدارجة، التي تتغنى ب «إناير»؟!.. من من أجيال اليوم، يستطيع فك شفرة تلك المواويل، التي تكاد تلخص ذاكرة للمكان ولكيفيات عبور فصل الشتاء فوق تراب البلاد، التي اسمها المغرب؟!.. من منا لا تزال تعني له ليلة « إناير» شيئا، وهو يلتحف بالمعاطف أو بالفقر، في مواجهة هذا الزمهرير الحاد، هذه السنة الماطرة؟!.. من منا لا تزال تفرحه تلك الحكمة الشعبية التي كانت تتغنى، مثلا، ببرد « الليالي»، أو « سعد السعود»، أو «أيام الذابح»؟!.. من منا لا يزال يذكر معنى «تيرْمِي إزْوانْ» الأمازيغية التي تغنى بها شاعر سوس الكبير « سيدي حمو الطالب» الذي توفي منذ أكثر من قرن من الزمان؟!.. من منا لا يزال يردد مع نفسه: « ما تْعْدْ الْجْدِي من ديالي/ حتى تفوت الليالي حياني».. « فسعد السعود/ تْكْزْ النحلة فالعود».. « فالذابح، لا وجوه تشابْهْ/ لا كلاب تنابحْ».. وهي المواويل التي تؤرخ لذاكرة البرد القارس في شتاء المغاربة، الأولى تخص ليالي «إناير» الأربعين الشديدة البرودة، والثانية تخص أسبوع البرد القارس الصعب في فبراير، والثالثة تخص نهاية الشتاء ودخول الربيع مع أواخر مارس.. أيتها الرعود، كم لك من حلاوة في الخاطر هذه الأيام، لأنك، في مكان ما تصالحيننا مع ذاكرتنا البدوية المغربية الأصيلة، وتهبين للفصول أن تستحق اسمها، وأن نعيش فيك امتحان تذوق التعايش مع تبدل الفصول في دنيا الأيام..