على "طريق الشام"، مقابل مخيم "العائدين" في حمص، فتح أبو صدقي البيك محلا لبيع البوظة العربية أسماه "زهرة المدائن". هناك تعلّمت أن أحب البوظة، والأهم، هناك تعلّمت أن أسمع، وأن أحب أن أسمع صوت وأغاني فيروز. كان المحل يفتح مساء إلى منتصف الليل، وكان صوت فيروز- بالسبيكر المعلّق خارج المحل- يعلن حلول المساء، ويعلن أيضا حلول أول الصباح، أو آخر الليل. هناك، صغيرا، تعلّمت حبّ فيروز، وتعلّمت حبّها مساءً. اقترنت أغاني فيروز عندي بطعم الفريز لا القهوة، لا لاحتواء "فيروز" على أحرف ال "فريز" كلّها، بل لأني أحببت البوظة بالفريز هناك، ولم أحب غيرها، وأحببت أغاني فيروز أيضا هناك، ولم أحب مثلها، وشيء ما ربط الاثنين، لم تستطع القهوة بكل كبريائها أن تسلب تلك الأغاني طعم الفريز. اقترنت أغاني فيروز عندي بالمساء لا الصباح. الآن أسمعها في كل الأوقات، لكني تعلّمت حبّها وسماعها في المساء. ظننت بداية أنها لا تُسمع إلا مع الغروب، مع المساء، مع الليل بقمره وسكونه وعشاقه الذين يخرجون مساءً من بيوتهم -كأن فيروز تأذّن لهم- ويتمشّون في "طريق الشام" وكلهم يمرون ب "زهرة المدائن" وكلهم يشترون بوظة. بعض الصبايا يدخلن المحل وبعضهن ينتظرن عشاقهن خارجا لصغر المحل وكثرة العشّاق فيه، وكلهم يسمعون فيروز- مضطرين إن أرادوا أن يعشقوا فعلا- كل ذلك جعلني، صغيرا أسترق النظر إلى الصبايا وبيدي "أبّوع ع فريز"، كل ذلك جعلني أعتقد بأن هذه الأغاني التي أسمعها، هذا الصوت، هذه العاشقات، هذا المساء وهذا الليل وهذا الفريز، لا يمكن لأي منهم أن يكون دون الآخرين. كبرت أحب البوظة وأحب الفريز وأحب النساء وأحب المساء وأحب الليل وأحب، قبلها جميعا، أغاني فيروز وصوتها. هذه التركيبة التي كبرتُ على حبها لم أجد بعد أجمل منها: الفريز والنساء والليل والأغاني الفيروزية. أما طعم الفريز فهو أول ما أسأل عنه في البوظة والميلكشيك والتشيزكيك.. وأما النساء وأما الليل فلن ينفدا، يرحلان فيأتيان. وأما أغاني فيروز فلن يُخفت أحد صوتها ولن يحصرها أحد في ذاكرتي صغيرا، فيروز إلى الآن تشكّل بأغنياتها ذاكرة أيامي القادمة. فيروز عندي مسألة شخصية. هنالك من يحاول منعها عن الغناء والتبشير بالجمال والحب والموسيقى. فيروز ليست قضية عامة عند الملايين، هي قضية شخصية عند كل فرد من هذه الملايين، لكلٍ قصته الفردية الحميمة مع أغاني فيروز وموسيقى عاصي وزياد من بعده، وأنا أحد هؤلاء، وقصصي الحميمة معها ما تزال تتشكّل. على الأقل، لن يفصلوا، بمحاولاتهم لمنعها، صوتَ فيروز عن الفريز والليل في ذاكرتي، ولا عن العشاق ومحل البوظة الذي مايزال صوتها يعلن فتحه مساء وإغلاقه ليلا، على "طريق الشام" مقابل المخيم. هذا المساء أيضا ستكون فيروز هناك. وستبقى لأيامي القادمة ذاكرة تكون فيروزُ، الآن، أجمل ما فيها. سليم البيك كاتب فلسطيني www.horria.org