يأتي كتاب "سلطة الثقافي والسياسي" في سياق ثقافي/سياسي ملتبس بحكم التحولات- التي عرفها المجتمع المغربي خلال بداية الألفية الثالثة- التي مست مختلف المجالات. ولعل المتأمل في هذه الحوارات الثقافية السياسية يجد الكتاب منشغلا ومشتغلا بعدة قضايا متشابكة تتعلق بسلطة الثقافي والسياسي في اتصالهما بما هو اجتماعي واقتصادي وديني وحضاري. فما أهم القضايا التي يثيرها الكتاب كإشكالات ثقافية؟ وهل للثقافي سلطة توازي سلطة السياسي؟ وما تجليات سلطة الثقافي؟ وما دورها الاجتماعي في عصر العولمة؟ وما ملامح السجال النقدي في هذه الحوارات؟ هذه أسئلة ستكون منطلقنا نحو قراءة بعض محاور هذا الكتاب المثير في جرأته وفي طريقة طرحه للجدل والسجال قضايا طالما شغلت النخب الثقافية والسياسية في مغرب القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. تقدم هذه الحوارات رؤية بانورامية عن علاقة الثقافي بالسياسي في المغرب المعاصر، وتعرض تفاصيل تتعلق بتطور الفعل الثقافي بالمغرب، والصعوبات التي ما تزال تحول دون تمكنه من أخذ دوره في الواقع ليصبح سلطة موازية لسلطة السياسي نظرا لعدد من الإكراهات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تحول دون دمقرطة العمل المؤسساتي وتطويره في شتى أشكاله ومجالاته بما في ذلك الجانب السياسي ذاته. ولعل الأطروحة التي يلح عليها هذا الكتاب تتمثل فيما ردده الكاتب والفاعل الثقافي عبد الحميد عقار في أكثر من سياق: "...إن قضايا مهمة تتعلق بحاضر المغرب ومستقبله، لا يمكن أن تحل إذا لم يكن هناك تصور سياسي ومسار سياسي جديد (..) ستظل السياسة هي المنفذ الأساسي والأول لطرح المشاكل ولطرح الرؤى والتصورات، وصياغة المشروع المجتمعي المأمول؛ فمهمة [المثقف] إذن في هذا السياق هي أن يجتهد وأن يشتغل مع فاعلين آخرين في المجتمع وبمختلف الرؤى والتوجهات من أجل أن ينعش التفكير في الثقافة واعتبارها أيضا قناة أساسية للإسهام في حل المعضلات الكبرى، لأنه لا يمكن للسياسة وحدها أن توجِد حلولا لها، إذا لم تكن هناك ممارسة ثقافية فعلية وواقعية، أي نابعة من مشاكل المغاربة وأسئلتهم واهتماماتهم ومما يخدم حاضر المغرب ومستقبله."(ص.200- 201) بهذه الشاكلة يلح الكاتب على ضرورة منح الثقافي قدرة على المساهمة في الحراك الاجتماعي باعتباره سلطة لا تقل عن سلطة السياسي في التفكير والتدبير للشأن العام. ومن هنا طالما ألح الكاتب على أهمية رد الاعتبار للجانب الثقافي في حل معضلات المجتمع المغربي، وبخاصة في عصر العولمة وتصاعد التحديات وتشابك الإشكالات المطروحة على مختلف قطاعات المجتمع. ولعل هذا الوعي بأهمية الثقافي في حياتنا المعاصرة هو الذي جعل الكتاب يتميز بطابع سجالي/ جدلي وببعد نقدي واضح كما يبين الدور النقدي والتنويري للمثقف ذاته؛ نظرا إلى أهمية المثقف في المجتمع ونظرا لأهمية انخراطه في معالجة قضايا المجتمع والتحديات التي يمر بها. وفي هذا الصدد يرى عبد الحميد عقار أن المثقفين "من حيث هم شريحة اجتماعية يُفترض فيها امتلاك طاقة معينة من الفهم والإدراك، وحساسية خاصة وحادة تجاه القضايا المركزية للمجتمع في سيرورته، وشعور بوجود رسالة تضطلع بها هذه الشريحة انطلاقا من انخراطها في أشكال من الصراع ومن تبادل الأخذ والعطاء ومن ممارسة الإنتاج والنقد على السواء".(ص.81) بهذه الشاكلة يربط الكاتب المثقف بالفاعلية الاجتماعية والقدرة على الاقتراح والبحث عن أوجه تحديث المجتمع وتطويره من خلال إبداعه وإنتاجه، أو عن طريق نقده وتنويره المجتمع بسبل حل المعضلات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعانيها. وفي هذا السياق يبين الكاتب أن "المثقف في المغرب يواجه في الآن نفسه الحاجة إلى ترسيخ الإبداع الثقافي بوصفه قيمة في ذاته، والحاجة إلى أن يكون له دور في الصراعات المجتمعية والسياسية، بما أن (..) إشكالية بناء مجتمع متحرر من قيود التبعية، حداثي وديموقراطي، لا تزال قيد الحل وقيد التفكير والبناء، من هنا صعوبة الدور المنوط بالمثقفين في الوضع المغربي الراهن، بمعنى صعوبة التوفيق بين قيمة الإبداع ووظيفة الحضور والانتماء"(ص.81-82) هكذا نتبين معضلة المثقف ذاته، هذه المعضلة الناجمة عن صعوبة التوفيق بين قيمة الإبداع الثقافي وتميزه ووظيفة الحضور السياسي والاجتماعي والانتماء الإيديولوجي. إن الحس النقدي لممارسة المثقف الذي صار تابعا للسياسي يبدو جليا في هذا القول نظرا إلى الطابع السجالي الجدلي للطرح الذي يتبناه عقار في محاوراته هذه. ولعل رفض أن يظل الثقافي ظلا للسياسي من أهم القضايا التي يثيرها الكتاب في أكثر من حوار من حواراته على الرغم من إيمان الكاتب بأن السياسي لا يمكن الاستغناء عنه، بل إصراره على أن حل عديد من مشاكل المجتمع المغربي لا تتم إلا عبر تفعيل الوعي السياسي وتجديده، هذا الوعي الذي يجب أن يضع في أولوياته أهمية تفعيل الفعل الثقافي وتطويره وإشراكه في كل شئ يهم المجتمع. وإذا كان الفعل الثقافي، كما يبدو للبعض، محدود الفعالية، إلا أنه ذو حيوية وفوران إيجابيين. فالثقافة على الرغم من أنها، من حيث الإنتاج، فعل نخبوي لكنها من حيث الامتداد ومن حيث الجدوى والتأثير تصبح فعلا مجتمعيا وظيفيا، لأنها تشمل مجالات عديدة، ولأنها بمعنى ما صيغة في الوجود وصيغة معينة في إدراك الذات والمحيط والعالم؛ من هذه الزاوية، يؤكد عبد الحميد عقار، ليس هناك من تناقض بين أن تكون الثقافة من حيث الإنتاج نخبوية أو فردية، وبين أن تكون مجتمعية من حيث الدلالة والتأثير، لأن الثقافة هي ذاكرة السيرورة.(ص.82-83) وإلى جانب هذه القضية التي استفضنا فيها وبينا قيمتها في حياتنا الاجتماعية يركز عبد الحميد عقار على موضوع آخر يحظى لديه بأهمية قصوى، وهو يعنينا باعتبارنا فاعلين تربويين، ويتعلق الأمر بعلاقة الثقافي بالتربوي، وفي هذا الصدد يرى الكاتب أن "التربية والتعليم فضاء للإبداع بامتياز. إبداع الإنسان المؤهَّل بمهارات وكفايات لازمة للحياة وللتجانس، وبمعرفة مؤسِّسة للوعي والقدرة على التواصل والانفتاح على الآخرين وتفهمهم، والقبول بهم وبثقافتهم شركاء في التجربة والوجود. إنهما فضاء للإبداع، والتعويد على قيم الحرية والمساءلة، وعلى تعليم الذات مدى الحياة(..) مدار التربية والتعليم، هو تحصيل المعرفة، وامتلاك المنهجية، وإيقاظ الملكة النقدية وتطويرُها لدى المتعلمين، عوض تنويمها وإحباطها"(ص. 43) ويلح هذا الاستشهاد على دور التربية والتعليم باعتبارهما فضاء للإبداع والرقي بالوعي الإنساني عبر التحصيل والمعرفة، وعن طريق توجيه المتعلم إلى امتلاك منهجية التفكير واستعمال ملكة النقد وتطويرها دون الحؤول بينها وبين ممارسة وظيفتها. ومن خلال هذا التصور يبرز عبد الحميد عقار دور التربية والتعليم في التثقيف وفي جعل الثقافة سلطة فاعلة في المجتمع عبر التربية والتشجيع على كسب المعارف والمناهج والتجارب المتنوعة/ المختلفة. لكن ما الفهم الذي يقدمه الكاتب للتربية والتعليم وهما مجالان يعرفان تحولا كبيرا في ظل التحولات الاجتماعية الحديثة؟ يلح عبد الحميد عقار على ضرورة تعديل وظائف المدرس والتربية والتعليم لتستجيب لمضمون التحولات التي يشهدها عالم التربية والتكوين ذاته في أنظمة التدبير والعلاقات الحديثة، وفي تكنولوجيا وسائل الإعلام والاتصال، "وذلك بأن تصبح المدرسة والجامعة، إضافة إلى مهامها الأساسية، مجالا للتربية على فكر المواطنة والسلوك المدني ومجالا للتثقيف، وبذلك تسهم التربية والتعليم في الارتقاء بإنسانية الإنسان وفي تحفيزه معرفيا ونقديا، ودونما تجاهل أو تخل أو تبديد للخصوصيات المفترضة، على الاندراج فيما هو كوني من القيم والمعارف..."(ص.43-44) وإذا كانت المدرسة والجامعة بهذا الفهم تسهمان في تحديث رؤية المواطن وتربيته وتعليمه بما يجعله منخرطا في القيم الكونية والمعارف الإنسانية المستجدة والمتطورة، فإن المرتكز في كل هذا حسب ما يبدو هو تربية ملكة النقد وقدرة الفرد على الإبداع وإنتاج المعرفة. وفي هذا الصدد يطرح عبد الحميد عقار سؤالا إشكاليا، ثم يقترح له الجواب، يقول: السؤال: هل التربية والتعليم مجال لتكريس المؤسسة أو الثقافة الرسمية؟ الجواب: الأمر نسبي جدا. ذلك أنه من ميزة التربية ومن مهام المدرس والباحث وهما يشتغلان على المكرَّس من المعارف والقيم والعادات والرموز وبها، أنهما يخلقان أو يُسهمان في خلق ثقافة أخرى مضادة، وقيم أخرى مغايرة؛ فالتدريس لا يقف عند حدود تراكم المعلومات والكفايات أوالمهارات، بل بتجاوزه نحو مساءلة تلك المعارف، ونحو بناء ملكة النقد والشك الإيجابي لدى المتعلم. فالأهم في عملية التعلم، عدا اكتساب المعارف؛ هو التعود على التفكير بالبدائل أمام المعضلات أو التحديات..(ص.44) إن المدار في هذا القول، كما أشرنا سابقا، يركز على أهمية تربية ملكة النقد والشك الإيجابي لدى المتعلم باعتبار أن هذه الملكة أساس كل فعل ثقافي وكل ممارسة معرفية واجتماعية وسياسية، وخاصة حينما يواجه الفرد والجماعة على السواء معضلات تقتضي منهما التفكير بالبدائل والعمل على تجاوز التحديات والعوائق التي تقف أمام سيرورة مجتمعهما وتطوره. ومن ثم، نرى أن حوارات عبد الحميد عقار لم تدع بعدا من أبعاد ارتباط الثقافي بحياة الناس في حياد، بل إنها بينت خطورة الفعل الثقافي في حياة الإنسان المغربي المعاصر نظرا لاتصاله بمختلف مناحي الحياة السياسية والدينية والتربوية والاجتماعية...ومن ثم كان الإلحاح على دور منح الثقافي سلطة في الواقع الاجتماعي، وهي سلطة ينبغي أن تتميز بالحيوية والديموقراطية والانفتاح على قيم الحوار والسجال والجدل والإقناع بهدف التطور والتقدم. وإذا كانت دعوة عبد الحميد عقار قد ألحت على هذه المعاني والقيم، فإن حواراته على مستوى الصياغة والكتابة لم تسلم من روح الحوار والجدل والرغبة الواضحة في الإقناع والسجال، ومن ثم اتسمت هذه الحوارات الثقافية الفكرية ببلاغة حجاجية بينة وبلغة حوارية سلسة توصل الفكرة وتشرح وجهة نظر صاحبها في انسياب تعبيري وفكري آسر. ولعل هذه الميزات جميعا هي التي تجعل من هذا الكتاب لبنة أخرى من لبنات الكتب الهامة التي أسست للفكر المغربي وساءلت أهم قضايا المجتمع المغربي المعاصر منذ فجر استقلاله وحتى الآن؛ وهو بذلك يصبح من الكتب التي لا غنى عنها للمثقف المغربي الذي يروم فهم التحولات الثقافية والسياسية التي عرفها المغرب في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة. ================= د. محمد المسعودي